في ماهيّة الإسلام .. قراءات قرآنية متعددة حماية لوحدة المسلمين (13)

في المقالتين السابقتين، عالجت موضوع النسخ في القرآن ومسألة تجميع القرآن. في هذه المقالة سأركّز على موضوع القراءات.

الاعتقاد الشائع أن القرآن تداوله المسلمون في أوّل الأمر حفظاً لا كتابةً، أي حفظوه وتناقلوه سماعاً، وعندما جُمع في مصحف، كان السماع هو الأساس للقراءة. لكن من المرجح أن يكون هذا الإعتقاد في غير محله، بل لدينا من الإثباتات ما يشير إلى عكس ذلك، فمن غير المعقول أن يكون معظم الخلاف حول القراءات ناتجٌ عن أخطاء في السماع بل عن أخطاء واشكاليات في قراءة نصّ مكتوب. للتذكير، في القرن الإسلامي الأوّل، لم يكن هناك بعد حركات أو تنقيط بل مجرد حروف، وهذه التقنيّات طُوّرت في ما بعد وأدخلت على الحروف من أجل توضيحها. بمعنى آخر، قبل اختراع التنقيط، حرف مثل “ىـ” لا نعرف إذا كان يعني بـ أو نـ أو يـ أو ثـ أو تـ. وقبل إدخال الحركات أو إضافة الألف الطويلة إلى الكلمات، لا نعرف إذا كانت “ٯل” تعني قُل أو قَلَّ أو قال.

قلت إنّ معظم الخلاف في قراءات القرآن يدلّ على مشاكل في قراءة نصّ مكتوب لا عن أخطاء في سماع شيء يقال. المعنى هو أنّه عندما يَلفظ شخص ما بكلمة “يَغْرَق”، من غير الممكن أن أسمعها “تُعْرَف”، لكن إذا كنت أقرأ كلمة “ىـعرٯ” ممكن أن أتحير في ما إذا كانت يغرق أم تعرف أم يعرق أم..

لنأخذ مثل الآيتين 2 و3 من سورة الروم: “غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون”. هناك خلاف حول قراءتها بين من يقول: “غُلِبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سَيَغْلِبون” ومن يقول “غَلَبَت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سَيُغْلَبون”. أي، لسنا أكيدين إذا أراد القرآن القول إنّ الروم هُزِمت لكنّها ستنتصر بعد ذلك، أمّ انتصرت لكنّها ستنهزم؟ هكذا اختلاف من غير الممكن أن ينتج عن سماع. أعني تحويل الفعل من مبني على المعلوم إلى مبني على المجهول أو العكس، لا ينتج عن خطأ في السماع، بل عن حيرة في قراءة كلمات الآيتين بسبب غياب الحركات والتنقيط فيها: “عـلٮٮ الروم.. وهم مـں ىـعد علىـهم سىـعـلىـوں”. لذلك، ذهب بعض القراء إلى القول بـ غَلَبَت/سيُغْلَبون وآخرون قالوا بـ “غُلِبَت/سَيَغْلِبون (ويمكن للقارئ أن يراجع تفسير الطبري حول ما يعنيه كلّ معنى وتأثير ذلك على وقت نزول هذه الآيات).

لنأخذ مثلاً ثانياً: الاختلاف في قراءة الآية 4 من سورة الأنبياء: “قَالَ ربّي يَعلم..” أم “قُل ربّي يعلم..”. هنا أيضاً، الخلاف نتج عن حيرة في قراءة كلمة “ٯل” من دون تحريك ومن دون وجود الألف الطويلة (في كثير من كلمات القرآن، لا نجد الألف الطويلة لكن نقرأها وكأنّها موجودة لأن عادة إدخال الألف الطويلة ظهرت بعد تدوين القرآن). هذا المثل أيضاً يدلّ على أنّ الخلاف لم ينتج عن خطأ في السماع: كلمة قَالَ لا يسمعها السامع قُل.

والمثل الثالث هو الآية 15 من سورة النور: “إذْ تلقونه بألسِنَتكم وتَقولون بأفْواهِكم ما لَيس لَكُم بِه عِلمٌ..”. الخلاف هنا هو حول كلمة تلقونه بين من قرأها “تَلَقَّوْنَهُ”، أو “تَلِقُونَه”، “تَتَلَقَوْنَه”، “تُلْقُونَه”. هنا أيضاً، من المستحيل أن ينتج هذا الخلاف عن سماع بل عن إشكاليّة قراءة كلمة “ٮلٯوٮه”.. (الخلاف لا يقتصر على اللفظ، بل يشمل جذر الكلمة: هل هي من ولق أم من لقو. إذا كان الجذر “ولق” يكون المعنى الاستمرار في الكذب، أمّا إذا كان الجذر “لقو” فيشير المعنى إلى فعل إلقاء الكلام؛ وهذا يدلّ أيضاً على أنّ بعض من أعطى رأياً في ذلك لم يدر معنى كلمة “ٮلٯوٮه”).

هذه الامثلة البسيطة، ومثلها الآلاف، تُبين بوضوح أن الخلاف بين التابعين ومن جاء بعدهم حول القراءات القرآنيّة لم تأتِ أصلاً من مشاكل في السماع والحفظ، بل من إشكاليّات قراءة المصحف مكتوباً من دون حركات وتنقيط. فاجتهدوا في قراءة النصّ، وأسس اجتهادهم هذا إلى الخلاف بين المسلمين حول القراءات.

أهمّيّة هذا الاستنتاج أنه يجبرنا على إعادة النظر في قناعة دينية مفادها أنّ المسلمين نقلوا القرآن أوّلاً حفظاً وسماعاً وأن ذلك كان الأساس عندما بدأوا بتدوين القرآن وقراءته مكتوباً في مصحف. هذه القناعة غير دقيقة. الأرجح أنّه في أواخر القرن السابع (أي القرن الإسلامي الأوّل)، أصبح المصحف المدوّن هو الأساس والوسيلة الوحيدة لقراءة القرآن بالنسبة إلى كثير من علماء المسلمين الذين تعاطوا في علوم القرآن (تفسيراً أو قراءةً أو كتابةً)، ولم يكن لهم مدخل ثابت آخر إلى النصّ خارج المصحف المدوّن. هنا علينا أن نفترض أنّه إما لم يكن لمعظمهم معرفة بسماع و/أو حفظ خارج إطار المصحف المكتوب، أو كان حفظهم ضعيفاً ولم يتذكّروا ما سمعوا عند قراءتهم للآيات، فاجتهدوا في تهجئة وتحريك الكلمات، كلّ حسب قدرته. فلو كان لهم أساس مبني على سماع قوي وحفظ واضح، لكانوا قرأوا القرآن بالطريقة نفسها.

هنا يجب التطرّق إلى مقولة أنّ القرآن أُنزل على سبعة أحرف، وهو شيء لا نجد له أثراً في القرآن نفسه، بل هو مأخوذ من حديث منسوب إلى النبي (أنزل القرآن على سبعة أحرف..). ما الذي تعنيه عبارة “سبعة أحرف”؟ هل تعني “آمِر، وزاجر، وترغيب، وترهيب، وجَدَل، وقَصص، ومثل”، كما يقول بعض الصحابة، وهذا لا يشير بتاتاً إلى طريقة قراءة الآيات، أم هي سبع قراءات كما يزعم غيرهم؟ وهل هي سبعة أحرف أم أربعة أحرف كما يقول حديث آخر (أنظر مثلاً كتاب “جمع الجوامع” للسيوطي)؟

هدفت الرواية الدينية السائدة إلى إعطاء غطاء شرعي للخلاف بين المسلمين حول قراءة القرآن، وذلك عبر إجازتها كلّها. هذا الحل يمكن وصفه بالسياسي لجمع المسلمين بدل الإصرار على قراءة واحدة قد تكون مفيدة ولكنها تخلق شرخاً وصداماً بين المسلمين.. وكما في موضوع النسخ وتجميع القرآن، نحن هنا أمام تراث لبق، خلاق، وديناميكي.. وسياسي من الطراز الأول

المتعارف عليه بشكل عام أنّ القرآن نزل على سبع قراءات، لكن التراث الإسلامي (بما في ذلك كتب التفسير) يشمل ضعفي ذلك إن لم يكن أكثر. صحيح أنّه لدينا كتب مثل “التيسير في القراءات السبع” لأبي عمرو الداني (ت. 444هـ/1052م)، وهو من أهمّ الكتب وأوّلها في هذه الموضوع، لكن هناك أيضاً كتب في القراءات العشر، مثل كتاب “النشر في القراءات العشر” لابن الجزري (ت. ٨٣٣هـ/1429م)، والذي كان من أعظم المتخصّصين في القراءات وتجويد القرآن. حتّى من رددّ القول بسبع قراءات، اعترف ضمنيّاً بوجود قراءات عديدة أخرى.

إقرأ على موقع 180  فوضى في كل مكان.. وحرب عالمية في أوكرانيا

القراءات السبع منسوبة إلى ثلاثة من التابعين (أي أصحاب صحابة النبي) وأربعة ممن جاءوا بعدهم. التابعون هم: عبدالله بن عامر اليحصبي الدمشقي (ت. 118هـ/736م)، عبدالله بن كثير المكي (ت. 120هـ/738م)، عاصم بن أبي النجُود الكوفي (ت. 128هـ/746م). ومن جاء بعدهم هم: أبو عمرو بن العلاء البصري (ت. 154هـ/771م)، حمزة بن حبيب الكوفي (ت. 156هـ/773م)، نافع بن عبد الرحمن المدني (ت. 169هـ/785م)، وعلي بن حمزة الكسائي الكوفي (ت. 189هـ/805). أمّا في القراءات العشر، فنضيف إليهم: أبو جعفر المدني (ت. 130هـ/748م)، يعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري (ت. 205هـ/820م)، وخلف بن هشام البغدادي (ت. 229هـ/844م).

إذا نظرنا مليّاً في هذه الأسماء، لا نجد فيها أي من الصحابة، وهذا يدلّ على أنّ الزعم بوجود القراءات السبع (أو العشر) في وقت النبي أو وقت الصحابة لا أساس معرفياً له. فلو كانت هذه القراءات معروفة في وقت الصحابة لنسبت إليهم مباشرةً. ومن طريف الأمر أنّ كتب التفسير تشير بوضوح إلى وجود قراءات كثيرة أخرى خارج القراءات السبع أو العشر، معظمها منسوب إلى صحابة أمثال ابن عبّاس وعائشة وابن مسعود وأبي بن كعب الخ، أو إلى تابعين أمثال الحسن البصري وحميد الأعرج وقتادة بن دعامة ومجاهد بن جبر والأعمش الخ.

كذلك الأمر، إذا نظرنا في كتاب “التيسير في القراءات السبع” لأبي عمرو الداني، نجده يعترف بكلّ وضوح أنّ أصل قراءة عبدالله بن عامر من عثمان بن عفان؛ قراءة عبدالله بن كثير من أُبي بن كعب وابن عباس وزيد بن ثابت؛ قراءة عاصم من عثمان بن عفان وعلي بن أبى طالب وأُبى بن كعب وزيد بن ثابت وابن مسعود؛ قراءة أبي عمرو بن العلاء من عدد كبير من التابعين؛ قراءة حمزة بن حبيب من ابن مسعود؛ قراءة نافع من أبي هريرة وابن عبّاس وأُبي بن كعب؛ وقراءة الكسائي من حمزة بن حبيب.

إذا كانت قراءة الكسائي مبنيّة على قراءة حمزة بن حبيب، لماذا الاختلاف بينهما؟ وإذا كان ابن مسعود هو الأساس لقراءة ابن كثير وعاصم وحمزة بن حبيب، لماذا الاختلاف بينهم؟ وإذا كانت قراءة أُبي بن كعب الأساس لقراءة ابن كثير وعاصم ونافع، لماذا الاختلاف بينهم؟ الخلاصة هي أنّنا أمام معضلة من الصعب حلّها وفقاً للسرديّة الدينيّة السائدة.

نضيف إلى ذلك خلاصة أخرى أكثر أهمية: إذا كان هناك خلاف في قراءة كلّ من الصحابة للقرآن، هل هذا يعني أنّ أصحاب القراءات السبع أو العشر هم من أنتج قراءته، كلٌّ على ذوقه؟ وإذا كان هذا صحيحاً، يمكن لنا أن نقول أنّ كلّ واحد منهم قام بجمع قراءة كاملة للقرآن لم تكن موجودة قبله بالطريقة التي جمعها هو شخصياً.

يقودنا موضوع القراءات إلى تسليط الضوء على تلاعب العلماء المسلمين في موضوع القراءات من أجل طمس حقيقة أن الكثير من علماء القرآن من التابعين ومن جاء بعدهم لم تكن له دراية قوية بقراءة المصحف مكتوباً، فانتجوا قراءات مختلفة، ومن ثمّ برّروا ذلك باختراع مفهوم أنّ الله أوحى القراءات مع القرآن وأعطى المسلمين الحريّة باتباع أيّ منها.

في الخلاصة؛ هدفت الرواية الدينية السائدة إلى إعطاء غطاء شرعي للخلاف بين المسلمين حول قراءة القرآن، وذلك عبر إجازتها كلّها. هذا الحل يمكن وصفه بالسياسي لجمع المسلمين بدل الإصرار على قراءة واحدة قد تكون مفيدة ولكنها تخلق شرخاً وصداماً بين المسلمين.. وكما في موضوع النسخ وتجميع القرآن، نحن هنا أمام تراث لبق، خلاق، وديناميكي.. وسياسي من الطراز الأول!

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  "حرب الإبادة".. سبع مفارقات أمريكية استراتيجية