في ماهيّة الإسلام .. خلافة النبي وأولوية الأقارب (14)

يقول إبن خلدون في مقدمته أن "التأريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الإقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا".

يقودنا هكذا مفهوم للاستنتاج أن التاريخ يفتح لنا باباً على الماضي كي نعرف ما حصل فيه ونستلهم منه العبر والدروس، علّ ذلك ينفعنا في حاضرنا ومستقبلنا. هذا الرأي شائع في علم التاريخ الحديث، لكنّه للأسف رأي غير صائب، إذ من الصعب معرفة ما حصل في الماضي بدقة، ومن شبه المستحيل معرفة لماذا حصل ما حصل. ما نعرفه عن الماضي هو مجرد سرديات مبنية على خليط من الحقائق والخيال والإيمان والتحايل نستحضرها لغايات لنا – فردية كانت أم جماعية (عائلية، وطنية، دينية، الخ) – ونعمّمها ونستخلص منها ما نريد.

إذاً، الأحرى بنا أن نعرّف التاريخ على أنّه طريقة استحضار الماضي وفقاً لقناعات ومعطيات معاصرة من أجل التأثير على الحاضر والمستقبل.

أقول هذا لأسباب عدّة، أهمها أن التاريخ مبني اجمالاً على نوع من الحوار الصامت بين الذاكرة والأمنية، أي بين ما قد شهدناه أو سمعنا عنه من الغير أو قرأناه في مصادر ونقوش، وبين ما نتمنى ونرغب أن نكون قد شهِدناه أو سمعناه أو قرأناه. هذا الحوار الصامت يجري في كثير من الأحيان بشكل اعتباطي ومن دون أن يكون ناتجاً بالضرورة عن خبث أو إرادة لتزييف التاريخ. حوار له علاقة بميل الإنسان الفطري إلى الحكاية والقصة وهذا يتطلّب إضافة أشياء كثيرة إلى الحقائق التاريخية من أجل حياكتها في قصة نحكيها، ويتطلب أيضاً تجاهل أو نسيان حقائق تاريخية مخالفة قد تشكّك بالقصة التي نريدها أو تنسفها كلّها.

لنأخذ مثلاً الطريقة التي يستذكر بها المؤرّخون المسلمون الأوائل فترة النبي محمد وفتحه مدينة مكّة في أواخر سنة 629 أو أوائل سنة 630 والتي برأيهم أدت إلى إنتصار الإسلام الساحق وهزيمة قريش المدوية ومعها كل أسس الجاهليّة. هل كان فتح مكّة انتصاراً للإسلام على الجاهلية ونتيجة للتفوّق العسكري للنبيّ وأتباعه أم نتاج اتّفاق بينه وبين زعماء مكّة أعطاهم بموجبه امتيازات أهّلتهم وساعدتهم في ما بعد لأن يصبحوا زعماء الإسلام والمسلمين؟

هنا علينا أنّ نستحضر أن قبيلة قريش كان يقودها أبو سفيان بن حرب بن أميّة والعبّاس بن عبد المطّلب، وأنّ أبا سفيان كان أب زوجة النبي أم حبيب، والعبّاس كان عم النبي. وعلينا أن نستحضر أيضاً أن أوّل أسرة حكمت الدولة الإسلامية (بين 661 و 750) كانت لأولاد وأحفاد أبي سفيان وعائلة بني أميّة. صحيح أنّه في معظم الأوقات فرض الأمويون أنفسهم كخلفاء بالبطش أو بالحنكة، لكن دورهم في تأسيس وبناء كثير من أسس الدين الإسلامي لا يمكن التغاضي عنه. انتهى أمر الأمويين عندما قاد أحفاد العبّاس الثورة عليهم وأخذوا منهم الخلافة في سنة 750 (ولم يبقَ منهم في الحكم إلاّ أمويي بلاد الأندلس).

هل كان موضوع الزعامة بعد وفاة النبي محصوراً في هذا النوع من القرابة من النبي وهل كان لذلك تأثير في كيفية اختيار خليفته في الترتيب الذي نراه: أبو بكر، عمر، عثمان، علي، معاوية؟

نَهَجَ العبّاسيّون نهج الأمويين في بناء ما تبقّى من أسس الإسلام، ومن المستحيل معرفة الإسلام الذي بشّر به النبي محمّد من دون الجهد الذي قام به الأمويون والعبّاسيون وتجييشهم العلماء لتدوين الإسلام وتعريفه وتفسير رسالته.

بعبارة أخرى، إذا قرّرنا حذف ما قام به الأمويون والعباسيون، لا شيء أكيداً يبقى لنا من تاريخ النبي محمّد يمكن أن نبني عليه أو أن نعتبر منه.

مثلاً، من دون جهد الأمويين، لكان هناك عدّة مصاحف من القرآن، بدل مصحف واحد (هنا أستذكر دور عبد الملك بن مروان في فرض مصحف عثمان مصحفاً إسلامياً رسمياً وإعطاء الأمر بتنقيطه). ومفهوم الخلافة ظهر مع الأمويين أيضاً (كما ناقشت في مقال سابق). حتّى مفهوم الشهادة (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، هو الآخر مفهوم عمّمه الأمويون، وليس هناك من إثبات أنّ المسلمين استخدموه قبل سنة 685 (سأعالج هذا الموضوع في مقال لاحق).

ومن دون العباسيين، لكانت هناك مذاهب سنّيّة بالعشرات في الاسلام بدل المذاهب الخمسة (الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنبلية، والظاهرية)، ولما كان هناك من عصر للترجمة والعلوم والفلسفة، أغنى الإسلام كدين وساعد المسلمين في بناء حضارة لم يكن لها نظير في ذلك الوقت.

ثمة سؤال: في الصراع بين النبي وبين أبي سفيان والعبّاس، من كان المنتصر؟ في سنة 630، الجواب هو النبي (وهذا تخمين). لكن بين سنتي 661 و750، يكون الجواب: أبو سفيان وبني أميّة. وبعد سنة 750، يكون الجواب: العباس وكل أبنائه. لكن هكذا جواب فيه بعض التسطيح، ذلك أن المنتصر هو من يعرف كيف يتطور ويتأقلم، فيربح شيئاً ويخسر شيئاً.

إقرأ على موقع 180  «بريتون وودز».. جديد!

هذا المثل البسيط يعرّفنا بمشاكل التاريخ والمعضلات التي يواجهها المؤرّخ، وضرورة أن نكون واعين للسرديات وأهداف من يتولى سردها، خصوصاً تلك التي يُبنى عليها غطرسة أو عنجهية فكرية لا تحتمل المجادلة أو الخلاف. علينا أن نكون منفتحين ومتواضعين حيال الإشكاليات التي نواجهها عندما ندرس السرديات التاريخية على تشعباتها وتناقضاتها.

مثال آخر سأتطرّق إليه هو السردية الشائعة حول الخلاف بين السنّة والشيعة حول موضوع خلافة النبي حين توفى في سنة 632. تقول السردية إنّ الخلاف تمحور بين أن يكون الأمر للأمة لتختار زعيماً لها (وهو ما ذهب إليه السنّة) أو أن تكون الزعامة محصورة بقرابة الدم واختيار النبي (وهو ما ذهب إليه الشيعة).

لنترك جانباً أنّه لم يكن هناك سنّة وشيعة في تلك الفترة وأن اختيار الزعماء لم يكن للأمّة رأي مباشر فيه (كان هناك خلاف عظيم حول ولاية أبي بكر، وفي ما بعد إختار أبو بكر عمر بن الخطّاب ليكون الوالي من بعده، وقام عمر بتنصيب أربعة أشخاص ليختاروا والياً من بينهم، فكان الخيار على عثمان بأكثرية إثنين ضد واحد، وبعد مقتله، جاء دور علي بإختيار من ثار على عثمان، وبعده جاء معاوية بدهائه بعد مقتل علي). لم يكن في أي من هذه الحالات خيار مباشر للأمّة، إذ أن مبايعة الأمّة كانت جزئيّة وبعد تنصيبهم.

هل كان الإسلام مشروع شخص واحد: النبي محمد (ظهر عليه الملاك جبرائيل وأعطاه الوحي)، أم هو مشروع لجمع من قريش، كان النبي رئيسهم؟ وهل إنتصر هذا المشروع عندما هزم فريقٌ.. الفريق الآخر، أم كان الأمر بالتراضي؟

لكن الأمر الأعظم، والذي تجاهله المؤرّخون، أن هؤلاء الخمسة (أبو بكر، عمر، عثمان، علي، ومعاوية) على صلة قرابة بالنبي، يعرفها معظم المسلمين ولكن لا يخطر على بالهم عند الحديث عن هذه المرحلة الحرجة وعن موضوع الولاية بعد النبي. كان أبو بكر عمّ النبي من واقع أنّه أب زوجته عائشة. وعمر أيضاً كان عمّ النبي من واقع أنّه أب زوجته حفصة. وكان عثمان صهر النبي من واقع زواجه بإبنتين من بنات النبي: أم كلثوم ورقيّة. وعلي أيضاً كان زوج فاطمة ابنة النبي محمد. أمّا معاوية، فكانت أخته أم حبيبة زوجة للنبي.

علينا السؤال هنا: هل كان موضوع الزعامة بعد وفاة النبي محصوراً في هذا النوع من القرابة من النبي وهل كان لذلك تأثير في كيفية اختيار خليفته في الترتيب الذي نراه: أبو بكر، عمر، عثمان، علي، معاوية؟ أي هل كان هناك أفضلية للعم على الصهر، وأفضلية للصهر على النسيب؟ هل أعطى هذا النوع من القرابة امتياز لواحد منهم على الآخر؟

إذا كان الأمر يتعلق بشخص واحد أو اثنين، يمكن أن نقول أنّها مفارقة طريفة. لكن أن يكون لكلّ من تولّى زعامة المسلمين في هذه الفترة قرابة بالنبي عبر زواج مباشر، وعندما لم يعد هناك من شخص ينطبق عليه ذلك الامتياز انتقل الحكم في الإسلام إلى منطق التوريث (ورّث معاوية الحكم لولده يزيد، وانطلقت الأسرة الأمويّة). يصبح السؤال في هكذا وضع ضروري.

ومثله أسئلة كثيرة إذا أعدنا النظر في كامل سرديّة حقبة النبي في مكّة تحديداً وكيف أنها لا تعطينا بالضرورة صورة كاملة عن العامل العائلي في نشأة الإسلام. هل كان الإسلام مشروع شخص واحد: النبي محمد (ظهر عليه الملاك جبرائيل وأعطاه الوحي)، أم هو مشروع لجمع من قريش، كان النبي رئيسهم؟ وهل إنتصر هذا المشروع عندما هزم فريقٌ.. الفريق الآخر، أم كان الأمر بالتراضي بين الفرقاء من بني قريش الذي كانت تربطهم قرابة دم وقرابة زواج؟

لنعد إلى ما قاله إبن خلدون: ما هي العبرة التي يمكن أن نستفيد منها من تاريخ تلك الفترة أو من أي تاريخ لأي فترة؟ هل هي عبرة من التاريخ نفسه أم من صاحب كلّ سرديّة؟ وإذا كان لكلّ صاحب سردية نزعته في استذكار الماضي وحياكته للحقائق (أو بعضها) لإعطاء العبر لمجتمعه، ألا تكون العبرة خليطاً من خيال وحقيقة؛ من أمنية وحدث؛ من ماض وحاضر.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الحداثة والتقليد في الإسلام.. أين المؤسسة الدينية؟