الأمة متخيّلة. يستند الخيال الى تاريخ وتقاليد ولغة. التاريخ غير واحد للأقطار العربية. التقاليد ليست واحدة حتى داخل البلد الواحد. اللغة مشتركة. لكن هناك لهجات متنوعة لدى كل بلد عربي وفي داخله. الفصحى هي المشتركة. لغة القرآن غير الفصحى وإن كان فيهما الكثير من المشترك. لغة القرآن مشتركة مع كل المسلمين في العالم. هؤلاء يفوق عددهم المليار والنصف من السكان. برهنت ثورة 2010-2011 على مشاعر مشتركة ومطالب سياسية موحدة. الانتماء مشترك. الالتزام بالعروبة مشترك. لكن مطلب “إسقاط النظام” في كل بلد عربي على حدة هو الأساس والدليل على أن ترتيب البيت القطري أهم من أي مطلب وحدوي. دليل على أن تشكيل الأمة وصنعها هو ليس في أمر اليوم، وليس موضوعاً راهناً.
الأمة في الأساس هي تعبير ديني قرآني. موضوع العرب ليس تأسيس أمة إسلامية بل أمة عربية، هذا إن حصل. وليس مطلباً أيضاً تأسيس أمة إسلامية لأن للمسلمين حول العالم دول، وهم حريصون عليها. تبقى الأمة لديهم خيالاً ووسيلة سياسية لهدف هو فرض تطبيق الشريعة. وهي ليست قانوناً. وإذا كانت كذلك، فهي ليست حلاً للمشاكل المطروحة. الشريعة كما هو الوضع الآن خلفية ذهنية تملي على أصحابها أفكارهم وسياساتهم. لكن لكل بلد إسلامي دستور وقانون مدنيان (من صنع البشر). يضاف الى ذلك أن الشريعة ليست الكتاب المقدس، بل هي ما ألحق به من اجتهادات وتفسيرات. هي على أهميتها ليست القانون أو الدستور في أي مكان.
الدولة الحديثة تختلف عن كل ما ورثناه. الانتخابات غير الشورى. معظم بلدان المسلمين استبدادية حيث لا شورى، وحيث الانتخابات مزورة، وحيث الحكام يستبدون بالحكم مدى الحياة. هناك خلافات بين البلدان الإسلامية. بعض الخلافات تتعلّق بالشريعة. لكن معظمها سياسية تتبع ما يسمى المصالح والتوازنات بين القوى. الشريعة لا تبني دولة. الشعب يبني الدولة. حتى البلدان التي تدعي أنها إسلامية تخضع للإستبداد.
الإسلاميون في بلد إسلامي يقولون بالأمة. دعاة الحداثة في كل بلد عربي يقولون بالدولة. لم تحصل الدولة على نصيبها من البحث عند هؤلاء وهؤلاء. لو كان الأمر غير ذلك لما اختلفوا؛ عندما نتحدث عن دولة عربية، على العموم، فإن المعني هو غير النظام. النظام هو مؤسسات الحكم من بيروقراطية، وجيش، ومؤسسات تعليمية، ودوائر أشغال عامة، وقضاء، وشرطة، الخ..
نظام الاستبداد ضعيف مهما كانت قوة الأجهزة وقدرتها على إسكات الناس. نظام الدولة قوي لأنه نظام سياسي في مجتمع مفتوح
الدولة الحديثة تعبير مجرّد. تجسيده المادي الوحيد هو الحدود الجغرافية. معنى ذلك هم الناس الذين يعيشون ضمن الحدود، وغالب هذه الحدود وُضِعَ بالغلبة، غلبة جهة خارجية على الأرجح في منطقتنا. الجماهير في ساحات التحرير، عام 2011 وما قبلها وما بعدها، هتفت داعية لإسقاط النظام لا لإسقاط الدولة. يسقط النظام أو يصعد أو يبقى في إطار الدولة. الدولة شرط لما عداها ولا شرط عليها. هي الإطار الناظم للمجتمع. النظام فيه معارضة وفيه موالاة وما بينهما. الدولة للجميع. هي أن يعيش الناس حياة مشتركة. من يدعو لإسقاط الدولة يُتهم بالخيانة. العيش سوية في الدولة هو أساس كل وطنية. الدولة ليست الوطن ولا الأمة ولا الجماعة ولا الطائفة. يتشكل كل مجتمع من طبقات وإثنيات ومذاهب مختلفة. الاختلاف حق وواجب. الدولة إطار السياسة العليا. ما يسمى خدمة الوطن هو خدمة الدولة. السياسة الدارجة، كما هو متعارف عليها، التي هي شائعة في إطار النظام، هي الصراع على السلطة. هي صراع مبرر إن لم يكثر فيه الاحتيال والنصب والابتزاز. هذا النوع الجائز فيه بل الضروري فيه التسويات. لا تسويات في ما يتعلّق بالدولة. هي مطلق وحسب. التسويات ضرورية في غير ذلك. كل تسوية فيها تخلٍ عن الحق أو وجهة النظر، كما هو التخلي عند الآخر، للوصول الى نقطة مشتركة. الاستبداد يلغي السياسة، إذ يعتبر أن وجهة نظره هي الحق. وهي ما يجب أن يملي على الناس. وهي ما يجب على الناس طاعته، عن إقتناع أو غير إقتناع.
العيش سوية في إطار الدولة يصير مع مرور الزمن على التأسيس أمراً بديهياً. إقتناع مُجمع عليه. إلتزام مطلق. انتماء يفرضه الاختيار ولا ينافسه شيء. بهذا الاختيار تنغرز الدولة في ضمائر الناس وفي وعيهم. يتماهى الناس معها. تصير هي الشعب. الشعب ليس مقولة خارج الدولة. معظم الناس خارج النظام. هذا طبيعي. لا يوجد نظام إلا وفيه طبقات فوق طبقات. طبقات تستغل أخرى وتجني الثروات من عملها. وتتخذ من وجاهتها وسيلة للسيطرة. الدولة لا تأبه للطبقات. النظام يتشكل منها.
واجب النظام حماية الدولة. حماية العيش سوية وجعله ممكناً بل ضرورياً. يتغيّر النظام ولا تتغيّر الدولة. تغيير النظام يكون بتراكم التسويات أو الإصلاحات. من ينشد الإصلاح أو التغيير دفعة واحدة يرتكب إنقلاباً. وقد عانت منطقتنا ما عانته من الانقلابات خاصة العسكرية. طالبو الإصلاح دفعة واحدة يقلّدون العسكر في انقلاباتهم. السياسة علم والتسويات فن. للسياسة قواعد ولو تغيرت تبقى قوانين للسلوك العام. التسويات فن يتطلّب نفاذ الرؤية وذكاء البديهة ومعرفة الآخر والسعي الى ضم الآخر الى الصف أو الانضمام الى صف الآخر. نظام الاستبداد ضعيف مهما كانت قوة الأجهزة وقدرتها على إسكات الناس. نظام الدولة قوي لأنه نظام سياسي في مجتمع مفتوح. مهما بلغت التناقضات من الحدة والتعارض؛ إلا أن هناك إجماعاً كاملاً على الدولة وعلى ضرورتها وعلى قدسيتها.
في الوعي السائد لدى العرب لا تمييز على العموم بين الدولة والنظام. استبداد الأنظمة وفشلها وتفاهة حكامها جعل صعباً على الناس النفاذ من النظام الى الدولة. جعلهم هذا لا يرون إلا نظاماً يريدون الخلاص منه. استبداد الأنظمة يحول بينهم وبين الوعي، بينهم وبين المعرفة. وزاد الطين بلة، أن انتشار المزاج الديني جعل الكثير يعطون الأولوية للأمة. اعتقدوا أن الأمة تهبط من السماء، أو تأتي من الغيب، أو ببساطة تتجلى. الوثوق بنظرية أولوية الأمة جعل الكثيرين يسحبون الشرعية من الدولة؛ علماً أن الدولة عندما تنغرز في عقول الناس وقلوبهم، وعندما تشكّل وعيهم، وعندما يحدث عليها الإجماع، إجماع العيش سوية، هي الشرعية. الدول العربية معظمها فاقد الشرعية. تستفيد أنظمة الاستبداد من ذلك، إذ تعتبر نفسها هي ما يحل مكان الدولة. أنظمة الديمقراطية والمجتمع المفتوح توصل الى الدولة. أنظمة الاستبداد (والتجهيل، والإفقار، واعتبار الناس مجرد قطعان) تبعد عن الدولة. الشرعية هي الناس. الناس هم الدولة. الاستبداد يفصل بين الناس والدولة. يجعلها مجرد نظام للسيطرة والتغلب والقهر والاستغلال.
يستحيل أن يستقر المجتمع حين يعتبر أن دولته مسألة عابرة، حالة انتقالية. مجتمع غير مستقر، دون إجماع الشرعية، دون شرعية الدولة، ويكون ضعيفاً متهالكاً. ساحة يلعب عليها الغير. يتلاعب بها وبقدراتها الغير.
يتوالى الاستبداد حكماً بعد حكم، عهداً بعد عهد، الى أن يصل الأمر بالناس الى الثورة. يحوّل الطغاة الثورة الى حرب أهلية
الامبريالية حكم دولة أجنبية لشعب. مع تحرر الشعب، وبرغم حرب التحرر الوطني، أدى القصور في إنشاء الدولة، وفي شرعيتها، وفي إجماع شعبها على العيش سوية وعلى العمل والإنتاج بما يؤدي الى تماسك المجتمع، الى عودة الوضع الى ما كان عليه قبل التحرر الوطني. يعود الشعب والمجتمع مطية للغير. غياب الشرعية عن البلدان العربية، بالمعنى المذكور أعلاه، جعل استقلالها عبئاً عليها. زاد الفقر، وازداد عدد الناس. تراجع العمران. تولى أمر الناس جهلة أنظمة الرقابة. الاستبداد عملياً يلغي الدولة. يبقي على النظام هشاً ضعيفاً، مهما كانت قوة القبضة الحديدية التي يمارسها على الناس. الاستبداد الذي جاء بعد التحرر الوطني قاده الذين قادوا معركة التحرر الوطني. اعتبروا أن لهم منة على الناس؛ واجب الناس الخضوع لهم لأنهم هم الطغاة من جاء بالاستقلال. يتوالى الاستبداد حكماً بعد حكم، عهداً بعد عهد، الى أن يصل الأمر بالناس الى الثورة. يحوّل الطغاة الثورة الى حرب أهلية.
باسم الأمة، سحب الإسلاميون الشرعية من الدولة. هم أيضاً لا يثقون بالناس، ولا يأبهون لكون الشرعية تأتي من الناس لا من الغيب. منذ البداية وضعوا شروطاً على الدولة وعلى دستورها. تطبيق الشريعة. فجعلوا إنشاء الدولة مستحيلاً. لم يفهم، ولا يفهم، ولن يفهم سدنة الهيكل أن الناس مصدر الشرعية، لا الشريعة التي لا تعدو أن تكون اجتهادات الفقهاء. أقحموا الدين في الموضوع. والحقيقة أن لا دخل له في ذلك. النتيجة إعاقة بناء الدولة. ليس الفساد وحده ما أعاق الدولة، بل هو فساد الرأي والوعي والعقل، وإلغاء السياسة لصالح ما يعتبرون أنه الدين.
الدولة شأن الناس في دنياهم. الدستور وضعي، القوانين وضعية، حتى لو ادعى أصحابها أن أساسها الشريعة. الشريعة متعددة في داخلها، متناقضة بين مذاهبها. لو وضع الدستور واحد من هؤلاء الأدعياء لكان الأمر إختيارا بشرياً، إجتهادا وضعياً. في النهاية إذا كانت الشرعية نابعة من الكلام الإلهي المطلق، فإن عبورها في الدماغ البشري يجعل منها أمراً نسبياً. كل نسبي وضعي.
الدولة الحديثة تُصنع بغير ما جاء في الكتاب المقدس. الاقتصاد، التكنولوجيا، السياسة، معظم الحياة الحديثة تبنى على تقنيات حديثة لم ترد في الكتاب. الكتاب يتعلّق بالإيمان وحسب. دعاة الشريعة يزعمون لأنفسهم مساحة سماوية ودنيوية ليست لهم. هذا كله لا يمنع أن كل من يشاركون في وضع دستور أو سن قوانين سوف يكونون متأثرين بخلفيتهم الذهنية، وهي دينية في أغلب الأحوال. الشريعة خلفية دينية. لو كان واضعو كتب أصول الفقه أحياء وشاركوا في وضع الدساتير والقوانين، لما فعلوا أكثر مما يفعله الذين يتهمونهم بـ”العلمانية”. لو كُنتَ علمانياً من أصل مسلم لكان تفكيرك يستند الى ما جاء بالكتاب. أنت تربيت في بيت مسلم. علينا أن نكون مواطنين أسوياء. نفكر حسب ضميرنا لا حسب ما يمليه رجال الدين من سدنة الهيكل. الشريعة والإسلام موجودان في كل بيت مسلم مهما تطورت أفكار أفراده. لا حاجة لأسلمة هؤلاء من جديد، فكأنهم يعيشون عصر جاهلية آخر.
الوعي السديد يفرض علينا أن ترتكز الدولة على العقل، وتبنى على أسس عقلانية دنيوية. مطلب تطبيق الشريعة يفرض منا أن نعيش في غير دنيانا. ولأننا في غير دنيانا فنحن دول وأمم مهزومة متخلفة، نعيش خارج عصرنا. ثقافة العصر الحديث تفرض نفسها. لا نستطيع أن نضع سداً بينها وبيننا وإلا سرنا في طريق مسدود؛ وحكمنا على أنفسنا بالتخلف. نحن كذلك. ما دام مطلب تطبيق الشريعة مفروضاً فهناك استحالة لبناء دولة حديثة.
ألا نرى أن وتائر النمو الاقتصادي في القرن العشرين كانت أدنى مما كانت عليه في القرن الذي سبقه؟ نحن لا نقف في مكاننا بل نتأخر
تبنى الدولة الحديثة بالتقدم والعمل والإنتاج والدخول في العالم. الخروج الى العالم من الطوق الذي ضربناه حول أنفسنا والذي خرّب طريق التقدم. الالتحاق بالثقافة الغربية يضعنا على هذا الطريق. هذا ما فعلته أمم ودول كانت متخلفة مثلنا والتحقت بالعالم وثقافته وخرجت من عزلتها. هل نحن على هذا القدر من الدونية كي نعتبر أن الأخذ بالثقافة الغربية يقضي على ثقافتنا؟ هل نعتقد أن ثقافتنا الموروثة تدوم من دون الأخذ بالثقافة الغربية، أو هي تتحوّل الى نوع من الفولكلور الشعبي؟
تأخذ الدولة الحديثة شرعيتها من الناس وحسب؛ الناس كما يقررون مصالحهم الآنية ومطالبهم في سبيل الترقي والتقدم. برغم الإنتاج الذي شهدناه في القرن التاسع عشر، مع أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الأفغاني، عُدنا الآن الى ما يشبه القرون الوسطى، أو بالأحرى الى ما قبل القرن الثامن عشر. ألا نرى أن وتائر النمو الاقتصادي في القرن العشرين كانت أدنى مما كانت عليه في القرن الذي سبقه؟ نحن لا نقف في مكاننا بل نتأخر.
ألا يرى دعاة “الإسلام هو الحل” أن الدين لا يحل مشاكل مجتمعنا لا جزئياً ولا كلياً. الإسلام يتعلق بالإيمان. علاقة بالله وحسب. كل ما يتعدى هذه العلاقة هو من جملة الأمور الراهنة التي تتطلّب مقاربتها عقلاً حديثاً وقوانين ودساتير حديثة.
خسرنا فرصة الحرية بعد ثورة 2011 بسبب الإسلام السياسي والدول العربية التي تدعمه بالمال النفطي وغيره. إنتصرت الثورة المضادة. عمّت الحروب الأهلية. كان ذلك ضربة قاسمة لإمكانية نشوء الدولة الحديثة.
تتطلب الدولة الحديثة أن يصير كلٌّ من الناس مواطناً؛ لا واسطة أو مؤسسات وسيطة بينه وبين الدولة. الدين السياسي يريد أن يكون واسطة من هذا النوع. أصبح وضعه خارج السياسة والمجتمع، وحصره بالفرد دون الجماعة، ضرورة للتقدم.
تنهشنا الحروب الأهلية. وأصلها كلها الإسلام السياسي. من حقنا أن نطالب بالتقدم الذي لن يحصل إلا بالحداثة، وبناء الدولة الحديثة، والأخذ بالثقافة العالمية، وبناء دولة المواطنة.
(*) الإنتماء للعروبة.. بداية الهوية (1)