فرنسا تكسب معركة ضد الصين: “لا” لاستقلال كاليدونيا الجديدة

في ثالث استفتاء خلال السنوات الأخيرة، اختار سكان اقليم كاليدونيا الجديدة، الأرخبيل الاستراتيجي الواقع في جنوب المحيط الهادىء، "أن يظلوا فرنسيين"، بعدما صوتوا بنسبة وصلت إلى 96% بـ"لا" للاستقلال عن فرنسا.

شهد الاستفتاء الثالث والأخير حول حق تقرير المصير لسكان إقليم كاليدونيا امتناعا قياسيا عن التصويت بعد دعوة الاستقلاليين إلى مقاطعة الاقتراع والذين سارعوا الى رفض نتائجه. وكان قد دعي أكثر من 185 ألف ناخب إلى التصويت للمرة الثالثة والأخيرة ردا على سؤال “هل تريد أن تحصل كاليدونيا الجديدة على سيادتها الكاملة وتصبح مستقلة؟”.

وشكّل هذا الاستفتاء خطوة حاسمة في عملية بدأت في 1988 باتفاقات “ماتينيون” في باريس التي كرّست المصالحة بين “الكاناك” السكان الأوائل لكاليدونيا الجديدة، و”الكالدوش” أحفاد المستوطنين البيض بعد سنوات من التوتر وأعمال العنف.

انخرط سكان كاليدونيا في هذه العملية منذ ثمانينات القرن الماضي عندما شهدت أراضيهم التي استعمرتها فرنسا في القرن التاسع عشر، فترة اضطرابات بلغت ذروتها في عملية احتجاز رهائن وهجوم على كهف أوفيا في أيار/مايو 1988. وقد أدت الى مقتل 19 من الناشطين “الكاناك” وستة عسكريين.

وبعد أقل من شهرين على هذه المأساة، نجح الاستقلاليون والموالون لفرنسا في إبرام اتفاقات “ماتينيون” التي أعادت توزيع السلطات في كاليدونيا الجديدة. وبعد عشر سنوات، أطلق توقيع اتفاق “نوميا” عملية لإنهاء الاستعمار تستمر عشرين عاماً.

ولكن ابعد من عملية “تقرير مصير” تقليدي والسعي الى نيل “الاستقلال عن المستعمر الفرنسي”، يخفي النزاع الدائر في هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم صراعاً على الهيمنة والنفوذ تُحرّكه مصالح جيو – سياسية وعسكرية واقتصادية ضخمة بين قوتين عظميين هما فرنسا والصين.

ماذا تعني كاليدونيا الجديدة لكل من فرنسا والصين؟

تحاول فرنسا الحفاظ على كاليدونيا الجديدة لأسباب متعددة منها قربها من منطقة الهندي- الهادىء التي ستصبح مركز التجارة العالمية مستقبلاً، وبدأت تكتسب ذلك منذ الآن. ثم الموارد الطبيعية الضخمة التي تتمتع بها، فمن جهة، تتوفر فيها احتياطات كبيرة من معادن كوبالت ونيكل الضرورية للصناعات الجديدة، ومن جهة أخرى هناك المنطقة الاقتصادية البحرية الخالصة التي تصل مساحتها إلى نحو مليون ونصف مليون كلم مربع، وتشكل 13% من مجموع المنطقة الخالصة الاقتصادية التي تحظى بها فرنسا وتصل إلى 11 مليون ونصف مليون، وهي الأكبر في العالم وتتجاوز دولاً مثل الولايات المتحدة وروسيا بفضل الجزر التي تحتلها في عدد من مناطق العالم.

تحاول فرنسا الحفاظ على كاليدونيا الجديدة لأسباب متعددة منها قربها من منطقة الهندي- الهادىء التي ستصبح مركز التجارة العالمية مستقبلاً، وبدأت تكتسب ذلك منذ الآن

وصدر مؤخراً تقرير مهم عن معهد الأبحاث الاستراتيجية للكلية العسكرية “إرسيم” في فرنسا، بعنوان “عمليات التأثير الصيني- لحظة ميكيافيلية”، يعالج التأثير الصيني في العالم ويركز على الكيفية التي اقتربت منها بكين من دعاة الاستقلال في كاليدونيا الجديدة والدعم الذي تقدمه لهم ثم الاستثمارات والتبادل التجاري مع هذه الجزر. ويؤكد التقرير كيف تعمل بكين على تقوية العلاقات مع الفاعليات السياسية والاقتصادية المحلية، من السكان الأصليين في كاليدونيا تحسباً لاستقلالها وبالتالي سقوطها تحت نفوذها.

وتراهن الصين على جعل كاليدونيا تدور في فلكها لتحقيق هدفين رئيسيين، وهما: أولا، استغلال الثروات الطبيعية الهائلة من صيد بحري ومعدن النيكل، ثم الاقتراب من أستراليا ومحاصرتها تدريجيا وعزلها عن الولايات المتحدة. وقد حققت الصين تقدما في هذه المنطقة بعدما أوقعت جزراً رئيسية مثل غينيا بابوا وجزر السلمون وفانواتو بمستويات مختلفة تحت توجهاتها.

وقد جهدت فرنسا على التصدي لمحاولات الصين توسيع دائرة علاقاتها داخل كاليدونيا للحؤول دون تعزيز حضورها فلم تسمح لها حتى الآن بفتح قنصلية او مركز ثقافي!

وفي ظل هذه التطورات، تدرك فرنسا أن بقاءها ضمن القوى الكبرى يتطلب تعزيز وجودها في منطقة “الهندي- الهادىء”، وحاولت إقناع الاتحاد الأوروبي بتعزيز تواجده في المنطقة لكنها فشلت لأن الدول الأوروبية لا تمتلك مناطق متبقية عن المستعمرات مثل حالة فرنسا. بينما الدولة الوحيدة التي لديها جزر متبقية عن إمبراطوريتها وهي بريطانيا انسحبت من الاتحاد الأوروبي وتتمتع بسياسة مستقلة خاصة بها أو تنسق مع الولايات المتحدة.

“حرب النفوذ” مستمرة بين فرنسا والصين وهي “متشعبة ومتنقلة” من المحيط الهندي – الهادىء مروراً بالقارة الافريقية وصولاً الى اي منطقة تحافظ فيها فرنسا على حضورها التقليدي في عملية الصراع على المواقع والمصالح

وتعرضت فرنسا لنكسة حقيقية عندما أعلنت بريطانيا وأستراليا والولايات المتحدة عن الحلف البحري العسكري “أوكوس”، حيث وقع جدل حول قرار أستراليا التخلي عن شراء غواصات فرنسية، بينما الدافع الحقيقي وراء كل ذلك هو اتفاق الدول الثلاث لمواجهة النفوذ الصيني الرامي إلى عزل أستراليا. وجرى التخلي عن فرنسا وعدم ضمها إلى الحلف العسكري برغم تواجدها في كاليدونيا الجديدة بسبب سياسة باريس المترددة بالإنخراط في قرار مواجهة الصين أو عدمه، بينما حسمت واشنطن ولندن القرار بضرورة محاصرة نفوذ الصين.

إقرأ على موقع 180  الشرعية الدولية و"حل الدولتين".. حراثة الأرض للأعداء!

وكانت فرنسا تراهن كثيرا على التحالف مع أستراليا من أجل حماية كاليدونيا الجديدة وجعل التحالف مع هذا البلد ركيزة أساسية لتعزيز تواجدها في منطقة “الهادىء – الهندي”.

والسؤال المطروح: هل يُخشى من زيادة التوتر بعد صدور نتائج الاستفتاء؟

لا يمكن استبعاد ذلك، فالسياق الاجتماعي متوتر للغاية في أرض تشهد منذ زمن تفاوتاً اقتصادياً واجتماعياً كبيراً بين الأوروبيين وبقية المجموعات التي تقطن جزر الأرخبيل. كما ان نتائج الاستفتاء عززت الانقسام الداخلي وستكون مهمة ترميم الجسور عملية شاقة وطويلة، ذلك ان العملية التي بدأتها اتفاقية “نوميا” لا تنتهي بالاستفتاء، بل سيكون أمام الدولة والانفصاليين وغير الانفصاليين 18 شهراً للتفاوض على وضع جديد للإقليم ومؤسساته داخل فرنسا. وفي هذا الاطار، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن “فترة انتقالية” ستبدأ في كاليدونيا الجديدة، مضيفاً “بدأت فترة انتقالية خالية من الخيار الثنائي نعم أو لا، يجب علينا الآن بناء مشروع مشترك، مع الاعتراف بكرامة الجميع”.

من هنا رأى أحد الخبراء في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية ان الاستفتاء الاخير مع نتائجه الظاهرية الايجابية التي تصب في مصلحة الدولة الفرنسية، الا ان الطريق يبدو طويلاً وصعباً امام الادارة الفرنسية نظراً لحجم التحديات الداخلية والخارجية الني تعصف بالاقليم.

ويشير الخبير الى ان باريس وان كسبت “معركة محدودة في اثبات الوجود مكاناً وزماناً” ضد بكين الا ان “حرب النفوذ” مستمرة بينهما لا بل هي “متشعبة ومتنقلة” من المحيط الهندي – الهادىء مروراً بالقارة الافريقية وصولاً الى اي منطقة تحافظ فيها فرنسا على حضورها التقليدي في عملية الصراع على المواقع والمصالح.

Print Friendly, PDF & Email
باريس ـ بشارة غانم البون

صحافي وكاتب لبناني مقيم في باريس

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  ترميم العلاقات الأوروبية ـ الإسرائيلية مهمة طويلة وشاقة