حفّارو قبر الجمهوريّة..!

عندما سقط جدار برلين في مطلع شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، تحقّقت مقولة ألكسندر أرباتوف الذي يؤرَّخ اسمه كمستشار دبلوماسي لآخر رؤساء الاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف. أرباتوف هذا، أعلن يومها موجِّهاً كلامه للغربيّين: "إنّنا سنؤدّي لكم أسوأ الخدمات. ذلك أنّنا سوف نحرمكم من عدوّ".

وهذا ما حصل. فَقَد الغربيّون، مذّاك، عدوّهم المفضّل. العدوّ الذي أتاح لدولهم، ولعقودٍ طويلة، أن تقف جبهةً موحّدة متماسكة ضدّ “تهديدات الشيوعيّة”. أرباتوف كان يعلم، أنّ وجود العدوّ هو ضرورة لبعض الأنظمة والحُكّام. لكي يصهروا شعوبهم. ليقمعوها. ليستعرضوا قوّتهم (الوهميّة أحياناً). وليحقّقوا الانتصارات المُلفَّقة. فإذا غاب العدوّ الأصيل، خلقوا العدوّ البديل. يصنعونه بالاشتغال الواعي. تماماً، مثلما نصنع الدمى. مثلما نصنع ناساً من ورق. فزّاعات (“خيال صحرا”) كتلك التي يغرسها المزارعون في حقولهم لترويع الطيور. لماذا هذه التوطئة؟

“يحاصرني واقعٌ لا أجيد قراءته”، ردّدتُ في سرّي مع محمود درويش. لكنّني عندما تأمّلتُ لبنان، وهو يتحلّل على وقع تفاقمٍ أسطوري لكوارثه، اكتشفتُ اكتشافاً مهولاً. إذْ لمحتُ بين الركام طيف رُعاة الانهيار الكبير. سمعتُهم يتحدّثون بلغة الزلازل والانقلابات. ويقصّون على الجمهور القانط سرديّات الحروب الصغيرة والكيديّات. يا إلهي! من أيّ طينةٍ صُنِع هؤلاء؟! أيُعقَل؟ العدوّ اخترقنا، ولم نضبطه في الجرم المشهود؟ وهو يرتكب اعتداءاته وجرائمه؟ كان يروح ويجيء ويقرّر وينفّذ، بين حنايانا. لكنّه لم يستطع إخفاء هويّته. على رغم التواري خلف الدمى والفزّاعات ورجالٍ من ورق. لكنّنا سرعان ما أيقنّا، أنّنا مَن كنّا نقارعه على أساس أنّه العدوّ الأصيل، لم يكن كذلك. عدوّنا الحقيقي موجود معنا. يقيم بيننا. عندئذٍ، لمعت مقولة الرفيق أرباتوف في رأسي (ربّما صارت اليوم عظامه مكاحل).

لم يبقَ مواطن لبناني، في الوطن أو المهجر، لم يلحق به الضرر. والإهانة. واليأس. وخسارة المال والعمر. كلّ شيء أصبح في قعر التهلكة

فهذه الطغمة التي تحكمنا، بما حَوَت ومَن احتَوَت، حرمتنا من عدوّنا الحقيقي. نصّبت نفسها، وبمهارةٍ قلّ نظيرها، عدوّاً لنا. لا بل تربّعت على عرش العداوة. أخذت، حصريّاً، كلّ حقوق المُلكيّة الفكريّة. أتعتقدون، يا أصدقاء، أنّني أبالغ؟ لا، وربّ البيت. للأمانة، راجعتُ العديد من الأدبيّات التي نُشرَت في أيّام الاحتلالات العديدة التي شهدها وطننا الصغير. ولاحظت، أنّه لم يحدث أن زجَّ مُحتلٌّ أو عدوٌّ لنا بلدَنا في جحيمٍ لا ينطفئ، مثلما فعل حُكّامه! لم يعرف لبنان واللبنانيّون محتلاًّ أو عدوّاً موسوماً بالشيطنة المجرمة القادرة على إحداث انهيارٍ في كلّ شيء، وفي وقتٍ واحد، مثلما فعل حُكّام هذا البلد! لم يوصلنا منتدِبٌ ولا وصيٌّ ولا غازٍ إلى أبشع درجات القلق والهلاك، مثلما فعل حُكّام لبنان!
تحوّل الشعب اللبناني في أرضه، وبفضلهم، إلى شعبٍ لاجئ. على غرار اللاجئين الفلسطينيّين والنازحين السوريّين. وفي الوقت الذي يعيش فيه الفلسطينيّون على مساعدات الأونروا، والسوريّون على مساعدات مفوضيّة شؤون اللاجئين، يعتاش اللبنانيّون على الإعانات التي ترسلها بعض الدول العربيّة والأوروبيّة. صاروا يتوسّلون المساعدات التي تُقدَّم مباشرةً للمنظّمات غير الحكوميّة (التي تثير سخط قيادات أحزاب السلطة). أصبحوا يقاسمون المستشفيات والجامعات والجيش الإسعافات المُرسَلة إليهم. نعم، أصبح اللبنانيّون رعايا. لم يبقَ مواطن لبناني، في الوطن أو المهجر، لم يلحق به الضرر. والإهانة. واليأس. وخسارة المال والعمر. كلّ شيء أصبح في قعر التهلكة. ولكن لماذا فعل هؤلاء الحُكّام ما فعلوا؟

إذا سلّمنا جدلاً أنّهم أعداء، فكان الأجدر بهم لينفّذوا أجنداتهم التآمريّة على البلد أن يقوموا بأبسط واجباتهم الوظيفيّة. لإسكات الناس على الأقلّ! لعدم إثارة الريبة. “ليس بالضرورة أن تكون عميلاً لتخدم أعداء الوطن.. يكفي أن تكون غبيّاً!”، يقول المفكّر الإسلامي محمد الغزالي. حُكّامنا مجرمون، هذا أمر مفروغ منه. لكنّهم حمقى. فالسلطة اللبنانيّة، بواقعها المعاصر، صارت الحاضنة التي توفّر أفضل الشروط لنموّ الطحالب التافهة. إذْ، جلّ ما يقوم به سياسيّو هذا الزمن اللبناني البائس، هو ترذيل الحياة السياسيّة. محاولة إقناع الناس، بأنّهم يقومون بعملٍ جبّار. هو إنقاذ السمك من الغرق! نعم. مُعبِّر جدّاً هذا التوصيف الذي اختارته القاصّة الأميركيّة “ايمي تان” عنواناً لروايتها الصادرة عام 2006. “إنقاذ السمك من الغرق”، تروي مغامرة 12 سائحاً أميركيّاً يُفقَد أثرهم على نحوٍ غامض، أثناء قيامهم بجولةٍ سياحيّة في بورما. كان السبب الرئيسي لضياعهم، المشاحنات التي عصفت في ما بينهم. ما جعلهم ينطلقون، على عجل، للتوغّل في الغابات الوعرة بقيادة شخصٍ يفتقر إلى الكفاءة والخبرة والتبصّر. وقعوا بعد ساعاتٍ قليلة في مصيدة الخاطفين. أمسوا رهائن في أيدي مقاتلين مناوئين للحكومة الأميركيّة. لكنّهم، ظلّوا يعتقدون أنّه سيتمّ إنقاذهم. تلك الرواية الساخرة ممتعة للغاية. سرّ متعتها، أنّها تبدو وكأنّها هجاء موجَّه إلى الإدارة الأميركيّة بسبب سياستها الخارجيّة المتخبّطة.

السلطة اللبنانيّة، يا أصدقاء، هي أعنف سلطة في العالم. قد يصل الغيّ بأصحابها، إلى حدّ إضرام النيران بالهشيم اللبناني. وقد لا تكون هذه اللحظة المجنونة بعيدة الوقوع

شبيهٌ مصيرنا بمصير سوّاح بورما. لقد سرنا، وعين الله لا ترعانا، وراء مسؤولين يفتقرون إلى كلّ شيء. لكنّنا، كمواطنين لبنانيّين، ما زلنا (أو معظمنا) نأمل بالخلاص على أيديهم. إنّما نتساءل عمّا ينتظرون لتخليصنا؟ عمّا يلهيهم بالضبط؟ ماذا يفعلون؟ ما هي المهمّات التي يؤدّونها في هذا الوقت الضائع؟ وكيف يملؤون هذا الوقت؟

إقرأ على موقع 180  ماكرون وفيروز.. لكل "لبنانه"!

بتنا “نتفهّم” عجزهم وقصورهم وعدم قدرتهم على فَهْم وحلّ القضايا الوطنيّة الكبرى. أو تلك التي تسيّر شؤون الدولة والحُكم ومصالح البلاد والعباد. لم يعد المواطن اللبناني العادي يطالب السلطة السياسيّة للقيام بأكثر ما تقوم به سلطةٌ بلديّةٌ محليّة. ونعني بضعة تدابير لا تكلّفها ميزانيّات. أي، أن تنظّف مجاري الأنهار والأقنية، مثلاً. أن تمنع طوفان المجارير على بيوتنا. أن تنظّم السير. أن ترقِّع الطرقات. أن تضبط الكلاب الشاردة. أن ترشّ مبيدات الفئران والجرذان. أن تحمي الناس من النشل. جسيمة هذه المهمات؟ كلا. لماذا لا تقوم بها الدولة، إذاً؟ لأنّها منهمكة بقضيّتيْن استراتيجيّتيْن!

الأولى، تقتضي من أصحاب الرؤوس الملتهبة الانكباب على رسم خرائط معارك تصفية الحسابات في ما بين مكوّنات الحكومة والسلطة نفسها. بخاصّة، أنّ موعد الانتخابات يقترب. وعليه، تتوالى المواقف والتصريحات، التي جُنِّدت لها مختلف الإمكانات والطاقات السياسيّة والإعلاميّة، في مساعٍ محمومة للفرز بين اللبنانيّين وتوسيع رقعة الشرخ في ما بينهم. لا مال لدى السياسيّين لشراء الذمم. لم يتبقَّ من أسلحة لديهم، إلاّ شحذ الغرائز. أمّا القضيّة الاستراتيجيّة الثانية، فتتطلّب من السلطة إغناء إرثها في التعطيل وإحداث الفراغ والإمعان في تيئيس الناس وتجويعهم. التجويع هو الركن الأساسي في الثورة المضادّة التي أطلقتها السلطة بعد 17 تشرين. عدا القمع المباشر وقلع العيون طبعاً. فكلّ أفراد الطبقة السياسيّة الحاكمة، ومن دون استثناء، تكمن مصلحتهم في تفاقم تسيّب الأمن والخراب والفوضى وتوالد الانهيارات. لأنّ عكس ذلك سيعني نهايتهم. ومَن ينفي منهم هذه الحقيقة، فهو كذّاب ابن كاذب! وبعد؟

تتناطح القيادات السياسيّة والطائفيّة والحزبيّة في لبنان بما يكفي، لكي تسقط الدولة تحت النعال. لكي يُسحَق الناس سحقاً على مرأى من المعمورة جمعاء. تحت أنظار أنظمة العالم (الحرّ؟). والمنظّمات المتشدّقة بالحرص الشديد على حقوق الإنسان. السلطة اللبنانيّة، يا أصدقاء، هي أعنف سلطة في العالم. قد يصل الغيّ بأصحابها، إلى حدّ إضرام النيران بالهشيم اللبناني. وقد لا تكون هذه اللحظة المجنونة بعيدة الوقوع. صحيحٌ أنّ حروب أوروبا قد اندلعت بسبب العوامل التقليديّة المعروفة (الفساد والتضخم وانكفاء النخب الكبرى أمام هموم اليوميّات). لكنّ التضخم الفظيع، جعل العبقريّة الألمانيّة تسير خلف عقلٍ مسطَّح. وصوتٍ جهوري فلسفته الدمار والانتحار.

لقد قُضي الأمر. فبيننا وبين هذه السلطة، شلاّلاتٌ من الدم والدموع والآلام والذلّ. لا مكان لنا، معاً، تحت سماء هذا الوطن. إمّا نحن أو هم. من الآن وحتّى يقضي الله أمراً كان مفعولا. من الآن وحتّى يقضي الله بين خلقه: الجنّ والإنس والبهائم.

كلمة أخيرة. يقول الروائي البرازيلي باولو كويللو: “هناك حربٌ بين الأخيار والأشرار لا نعرف متى ستنتهي. إنّها حربٌ بين قوى تتصارع للوصول إلى السلطة نفسها. وعندما تنشب معركة من هذا النوع، فإنّها تستمر طويلاً. لأنّه، في مثل هذه الحالة، يكون الله مع الجانبيْن في آنٍ واحد”. إقتضى التنويه.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  أسمِعْني صوتك لأعطيك صوتي‏..!