“بنكرجيو” لبنان المفلسون.. نواطير عند “العم سام”

يدخل الأميركيون غرف أزمات لبنان بشكل انتقائي شديد. هاجسهم الأول والأخير مطاردة حزب الله ومحاصرته سياسياً ومالياً وأمنياً. ما عدا ذلك، برغم أهميته، لا يحظى الا بعناوين ملفات تستخدم غب الطلب لغاية في نفس العم سام بين فينة وأخرى. وللمثال، لا يعبأ الأميركيون كثيراً بالإفلاس المصرفي الأكبر في التاريخ الحديث، فأولويتهم التركيز على جعل "بنكرجية لبنان" نواطير لديهم فقط لا غير.

في اللقاء الأخير الذي جمع وكيل وزارة الخزانة الاميركية لشؤون الارهاب والاستخبارات المالية بريان نيلسون بممثلي جمعية مصارف لبنان، كما في لقاء آخر عقده قبل شهرين نائب مساعد وزير الخزانة أريك ماير مع حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف، ركّز الأميركيون على تمويل الارهاب وتبييض الأموال والفساد.. وفي قراءة لمحاضر تلك الاجتماعات، المعلن منها والمسرب، جملة أسئلة وملاحظات كالآتي:

أولاً؛ يتناول الأميركيون بعض نتائج الأزمة المالية والمصرفية التي تعصف بلبنان وتهدّد وجوده من دون الخوض في خضم معالجة الأسباب التي يعرفونها أكثر من غيرهم منذ عقود. في سياق تركيزهم على خطورة ارتفاع منسوب الاقتصاد النقدي (إستخدام الكاش) بدلاً من وسائل الدفع الأخرى لا سيما الالكترونية منها، واعتبار ذلك مسهلاً لعمليات تبييض الأموال وتمويل الارهاب والتعمية على الفساد، يغفل الاميركيون حقيقة فقدان اللبنانيين والمقيمين والأجانب ثقتهم بالقطاع المصرفي الذي قرر عدم تحمل مسؤولياته بالقاء اللوم على الدولة في ما خصّ حبس ودائع الناس تحديداً. وما استخدام “الكاش” الا نتيجة وليس سبباً. والحري بالأميركيين وغيرهم من المهتمين دولياً بالشأن المالي والاقتصادي اللبناني الدفع باتجاه اعادة هيكلة هذا القطاع لقطع الطريق على استخدام النقد الملموس او “البنكنوت” حتى تعود الأموال ووسائل دفعها الى القنوات المصرفية السليمة التي يسهل معها التحقق من المصادر التشغيلية للتحويلات والسحوبات، وما اذا كانت الأموال نتاج عمليات مشبوهة أم الا، وهل يتسرب منها شيء لتمويل عمليات يصنفها الاميركيون في خانات غسل الاموال وتمويل الارهاب؟

ما يريده الأميركيون، كأولوية، ليس سلامة القطاع البنكي لخدمة الاقتصاد بمختلف قطاعاته وشركاته وافراده، بل يريدون من المصرفيين المتحولين الى “بنكرجية كونتوار”، العمل كنواطير لأغراض أميركية أولاً، ولا عزاء لمصالح سائر اللبنانيين واقتصاده

ثانياً؛ تحدث وكيل الخزانة الاميركية مع جمعية مصارف لبنان بوصفها تُمثل جهازاً مصرفياً مكتمل الوظائف ولا ينقصه الا زيادة التعاون معه لزوم تكثيف البلاغات الخاصة بالعمليات المشبوهة. ولكنه أغفل ان الجدوى الأولى للقطاع لم تعد موجودة، وتحديداً قبول الودائع بأمان ومنح القروض بائتمان. فبنوك لبنان وفقاً لمعايير “بازل 3” والمعايير المحاسبية الدولية فاقدة للسيولة والملاءة معاً. وبتطبيق تلك المعايير يفترض إعادة رسملة القطاع بالكامل، فما هو مسجل في خانة الرساميل، ويبلغ دفترياً نحو 16 مليار دولار، بات أثراً بعد عين جراء خسائر في قروض القطاعين العام والخاص فضلاً عن استثمارات أخرى فقدت معظم قيمها. لذا، هو يتحدث مع حراس على ركام هياكل فارغة (مصارف زومبي).

اذاً، ما يريده الأميركيون، كأولوية، ليس سلامة القطاع البنكي لخدمة الاقتصاد بمختلف قطاعاته وشركاته وافراده، بل يريدون من المصرفيين المتحولين الى “بنكرجية كونتوار”، العمل كنواطير لأغراض أميركية أولاً، ولا عزاء لمصالح سائر اللبنانيين واقتصادهم.

ثالثاً؛ تناول وكيل الخزانة الأميركية قضية لوثة الفساد التي أصابت القطاع وسمحت للسياسيين والنافذين بتبييض أموالهم المشبوهة (من أين لهم هذا) ثم تهريبها بعيداً عن نيران الأزمة. علماً بأن معظم وأهم وأخطر أركان المنظومة المتهمين بالفساد والأقدر على تهريب الأموال يحرص الأميركيون على لقائهم ويعوّلون على معظمهم في أجندات مشتركة.

رابعاً؛ لا يمكن للأميركيين القاء اللوم على مصارف لبنان وحدها بشأن فضائح أو “جرائم” تهريب أموال السياسيين والنافذين، لأن مقاصة تحويل أي دولار هي في نيويورك، ولدى الاميركيين كل المعلومات التي يريدونها أولاً بأول. فاذا كان هَمُهُم مساعدة اللبنانيين المفجوعين بفقدان ودائعهم، كان الأولى بهم توقيف وفضح تلك التحويلات المليارية لا سيما التي حصلت في فترة الريبة التي تلت انفجار الأزمة في 17 تشرين الاول/اكتوبر 2019.

خامساً؛ ما قاله نيلسون للمصارف بلهجة اتهامية مبطنة أو تحذيرية فاقعة لم يسمع اللبنانيون مثيلاً له حيال حاكم مصرف لبنان المتهم في 4 دول اوروبية بقضايا اثراء غير مشروع وتضارب مصالح واستغلال نفوذ وربما احتيال واختلاس أيضاً. وللحاكم اليد الطولى في القطاع المصرفي اللبناني وفي لجنة الرقابة عليه وهيئة التحقيق الخاصة به وغيرها من المواقع التي يكفي أن يُوعز الاميركيون لسلامة بتشغيل كامل طاقة محركاتها حتى يحصلوا بأهون السبل على البلاغات التي تشفي غليلهم باستهداف من يريدون سواء كان متصلاً بإرهاب أو غسل أموال أو فساد.

سادساً؛ أخيراً استفاق الاميركيون على واقع أن بين المصرفيين والسياسيين سفاح قربى، إذ تحدث وكيل الخزانة عن تضارب مصالح في كيفية تداخل العلاقات والتواطؤات. فهل فعلاً لا يعلم الأميركيون ان نحو نصف مصارف لبنان مملوكة بنسب مختلفة لسياسيين ونافذين في الشأن العام؟ معلومات كهذه ليست سراً بعدما تناولتها دراسات واستقصاءات بالأسماء والأرقام والعناوين. والأنكى أن الأميركيين أنفسهم يجتمعون دورياً مع زعماء وكبار مسؤولين ووزراء ونواب ممن لم يخفوا يوماً مساهماتهم ومصالحهم في هذا المصرف أو ذاك. فعلى سبيل المثال، ومنذ التسعينيات الماضية إلى يومنا هذا، مرّ في تاريخ لبنان (علناً) نحو 40 وزيراً ونائباً لهم مصالح وارتباطات ومساهمات واستثمارات معلنة في عدد من المصارف.

إقرأ على موقع 180  "مامالا" هاريس.. الأميركية المتصالحة مع ذاتها

سابعاً؛ ما سبق ليس دفاعاً عن المصارف. فمصرفيو لبنان يعرفون دائماً كيف تؤكل الكتف. ها هم وجدوا في بعض التهديدات الأميركية فرصاً انتهازية نادرة. للمثال، بدأت مصارف لبنانية التفكير بفرض عمولات هي أشبه بالأتاوات على تعاملات “الكاش” بحجة أن العين الأميركية الحمراء الغاضبة فتحت عليها، ولا بد من “هندسات” ما في إيداعها وتحويلها. “هندسات” تبرر اقتطاعات باتت ثمينة في زمن شح الدولار.

للأزمات تُجارها دائماً، وما الوضع المصرفي والمالي حالياً إلا جيفة تحوم حولها الصقور!

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  "هآرتس": هجوم تل أبيب.. لا مركزية "الذئاب المنفردة"!