في ماهيّة الإسلام.. عصمة النبي ومتطلّبات الحاضر (18)

عصمة النبي مُحمّد هي من الأمور التي استنبطها علماء المسلمين لضرورات عقائديّة ودينيّة. حتّم عليهم ذلك أن يتلاعبوا ببعض الأخبار عن حياة النبي (الحقبة المكّيّة تحديداً) وفقاً لمتطلّبات العصمة. بغضّ النظر عن الإختلافات البسيطة حولها، إستُتبعت العصمة بأمور كثيرة بينها التقديس وشبه التأليه للنبيّ مُحمّد.

ماذا يعني أن يكون النبي مُحمّد معصوماً؟ هل يعني هذا أنّه كان معصوماً في كلّ شيء، بما في ذلك ارتكاب الكبائر (مثل الشرك والكفر) والصغائر والسهو والنسيان والزلّات والشكّ، إلخ، أم عن الكبائر فقط؟ وهل شملت عصمته فترة حياته كلّها أم هي محصورة بما بعد البعث وبدء الوحي؟ وهل حوَت كل ما قاله وفعله أم فقط آيات القرآن؟ وما الذي تستتبعه العصمة من عصمات أخرى؟

في موضوع عصمة النبي، يجيب الإمام أبو حنيفة (ت. 767) في كتابه “الفقه الأكبر” بما يلي:

“والأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلّهم منزّهون عن الصغائر والكبائر والكفر والقبائح، وقد كانت منهم زلات وخطايا.. ومحمّد عليه الصلاة والسلام حبيبه وعبده ورسوله ونبيّه وصفيّه ونقيّه، ولم يعبد الصنم ولم يُشرك بالله تعالى طرفة عين قطّ ولم يرتكب صغيرة ولا كبيرة قطّ”.

ويقول الشيخ المفيد (ت. 1022) في كتابه “النكت الإعتقاديّة” عن النبي:

“معصوم من أوّل عمره إلى آخره عن السهو والنسيان والذنوب، الكبائر والصغائر، عمداً وسهواً”.

ويقول ابن عطيّة الأندلسي (ت. 1147) في تفسيره المسمّى “المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز”:

“وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ، ومن الكبائر ومن الصغائر الَتي فيها رذيلة، واختلف في غير ذلك من الصغائر. والذي أقول به أنهم معصومون من الجميع، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إني لأتوب إلى الله في اليوم وأستغفره سبعين مرة” إنما هو رجوعه من حالة إلى أرفع منها لتزيد علومه واطلاعه على أمر الله، فهو يتوب من المنزلة الأولى إلى الأخرى، والتوبة هنا لغوية”.

بغض النظر عن الاختلافات الطفيفة بين العلماء (سنّة وشيعة) حول مفهوم العصمة، لعل إشكاليّته الأبرز أنّه يقود حتميّاً إلى أمور أخرى تصبح هي أيضاً من غير الوارد أن تحتمل الخطأ. فننطلق من عصمة النبي لنصل إلى عصمة السنّة النبويّة وعصمة الصحابة الذين رووها وعصمة الأئمّة أو الأمّة من الإنحراف عنها، الخ. وكلّ هذه الأمور أُصبح لها قدسيّة وحالة من شبه التأليه في الفكر الديني الكلاسيكي (السنّي والشيعي).

سأترك موضوع عصمة النبي في فترة الجاهلية، أي قبل البعث، لمقال آخر، كون أهمّيتها أنّها أسّست لسرديات عن تلك الفترة رفضت أي خبر عن أنّ النبي يشير، مثلاً، إلى ممارسته دين قريش أو تسميته لإثنين من أبنائه بأسماء آلهة قريش (عبد شمس وعبد العزّة). سأُركّز هنا على إشكاليات مفهوم العصمة.

يستوقفنا في كلام ابن عطيّة تحديداً أنّه رفض قبول ما يقوله الحديث الذي ذكره أنّ النبي كان يستغفر ويتوب إلى الله سبعين مرّة في اليوم، وهو إقرار من النبي بأنّه كان غير معصوم. والملفت للإنتباه أيضاً أنّ دفاع العلماء عن عصمة النبي يتعارض بشكل واضح مع ما يقوله القرآن، مثلاً:

  •  (قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (سورة سبأ 50).
  •  (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ) (سورة غافر 55).
  • (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً)(سورة الفتح 1-2).
  •  (وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى) (سورة الضُحى 7).

عندما يتحدّث القرآن عن ضرورة استغفار النبي لذنبه وأنّ الله غفر له ما تقدّم منه، فهذا يعني أنّ النبي ارتكب ذنباً. وعندما يقول القرآن أنّ الله هدى النبي بعد أن كان ضالّاً، وأنّ ضلاله منه وليس من الله، لا يعني هذا أن النبي معصوم عن الضلال.

إذا كانت الضرورات في الماضي أجبرت المسلمين على القول بعصمة النبي، هل واقع تخلّف المسلمين اليوم يفرض عليهم أن يعكسوا ذلك، كون القول بعصمة وأزليّة القرآن والسنّة النبويّة وما يستتبعه أصبح من أسباب تخلّفهم؟ بمعنى آخر، هل يجب على المسلمين إعادة الرسول إلى عالم البشر لكي يصبح لهم قدرة تقبّل تراثهم كتراث بشري، والتعامل مع رجال دينهم كبشر، فيتساووا مع باقي البشر؟

علينا أن نسأل لماذا قرّر علماء المسلمين تجاهل كلّ هذه الحقائق القرآنيّة وكثير من الحديث، واستنبطوا مفهوم العصمة الذي يناقضها؟

هناك عدّة عوامل حتّمت القول بمفهوم العصمة، ونتجت عن أسئلة واجهها العلماء أو طرحوها هم حول حِفظ القرآن من الخطأ، توضيح دور السنّة النبويّة في أصول الدين والشريعة، ردّ إتّهامات أتباع الديانات الأخرى عن النبي، وتوضيح خيارات الأمّة من بعده.

في موضوع حِفظ القرآن، هدف مفهوم العصمة إلى القول أنّ النبي لم يكن له أي دور في صياغة الآيات القرآنيّة، بل دوره كان في إيصال الوحي، ولم يُدخل عليه أي تغيير، ولم يُسقِط منه اي شيء، ولم يتشابه عليه فيه أي أمر. حتّى في الخبر الشهير حول إلقاء الشيطان على النبيّ آية الغرانيق – “تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى” – والتي تدخلّ الله لينسخها، اعتبرها بعض العلماء صحيحة ودليلاً على أنّ الله حمى القرآن من التحريف وعلى صدق النبي في موضوع الوحي، كما يقول ابن تيمية:

إقرأ على موقع 180  حصار.. وهجوم إسلامي الأيديولوجيا على العروبة

“بيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان هو أدلّ على تحرّيه للصدق وبراءته من الكذب، وهذا هو المقصود بالرسالة فإنّه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم تسليماً ولهذا كان تكذيبه كفراً محضاً بلا ريب”.

في موضوع دور السنّة النبويّة والذي رفعها معظم العلماء المسلمين (شيعة وسنّة) إلى درجة الوحي، يقول ابن تيمية أيضاً:

“وبالجملة، فما شرّعه النبي لأمّته شرعاً لازماً إنما لا يمكن تغييره، لأنّه لا يمكن نسخ بعد رسول الله ولا يجوز أن يظن بأحد من علماء المسلمين أن يقصد هذا، لا سيّما الصحابة، لا سيّما الخلفاء الراشدون. وإنما يظنّ ذلك في الصحابة أهل الجهل والضلال، كالرافضة والخوارج، الذين يكفّرون بعض الخلفاء أو يفسقونه. ولو قدر أن أحداً فعل ذلك لم يقرّه المسلمون على ذلك. فإن هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمّة معصومة أن تجتمع على مثل ذلك، وقد نقل عن طائفة، كعيسى بن أبان وغيره من أهل الكلام والرأي من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة ومالك، أنّ الإجماع ينسخ به نصوص الكتاب والسنّة، وكنّا نتأوّل كلام هؤلاء على أن مرادهم أن الإجماع يدل على نصّ ناسخ، فوجدنا من ذكر عنهم أنهم يجعلون الإجماع نفسه ناسخاً”.

يستوقفنا في هذا الكلام أنّ لسنّة النبي دوراً محورياً مساوياً للقرآن، وأنّ الصحابة لم يغيّروا ما شرّعه النبي (الاختلاف بين فقهاء السنّة والشيعة في هذا الموضوع هو في التفاصيل). لذلك نجد في التقليد السنّي تحديداً أنّ معظم الأخبار المنسوبة إلى ثقات الصحابة والتي تتناقض مع القرآن أو مع أحاديث للنبي مُحمّد، رُفعت لتصبح إمّا آيات قرآنيّة أو أحاديث نبويّة، فأصبح الناسخ فعلياً هو الله أو النبي وليس أبو بكر الصدّيق أو عمر بن الخطّاب، الخ. مثلاً، عندما اعتمد عمر بن الخطّاب عقوبة الجلد بدل من الرجم في أمر الزنا، حوّل العلماء ذلك إلى حديث نبوي عن آية قرآنية (آية الرجم)، وكأنّها سهت عن بال من جمع القرآن وبقيت خارجه.

في ما يتعلّق بالدفاع عن القرآن والنبي في وجه مزاعم أعداء الإسلام، أُجبر المسلمون للردّ عليهم على استنساخ تعابير ومفاهيم أعدائهم والتي هي من خارج الخطاب القرآني. ونتج عن ذلك القول بأزليّة القرآن وعصمة النبي مثلما قال اليهود بأزليّة التوراة وعصمة موسى، أو المسيحيّين عن إلهيّة المسيح التي عصمته وعصمت تلاميذه والأناجيل.

أمّا العامل الأخير – مسار وخيارات الأمّة الإسلاميّة بعد النبي – فقد أنتج نقاشاً كبيراً كانت نتيجته الإنقسام إلى اتّجاهين. الأوّل (وهو ما نجده عند الشيعة تحديداً) يقول بضرورة الأئمّة كورثة للنبي، ولهم رئاسة الدين. يقابل ذلك القول بأنّ الأمّة مجتمعة ترِث النبي (وهو ما نجده عند معظم أهل السنّة) وعليها الإنصياع المطلق للسنّة النبويّة كونها وحي من الله، ومن دونها لا يمكن فهم القرآن أو تحديد شرائع الإسلام وأصوله، وهي أيضاً أزليّة مثل القرآن. وهذا أمر عبّر عنه ابن تيمية أحسن تعبير في معرض ردّه على عصمة الإمام عند الشيعة:

“ونحن نتكلّم على هذا التقرير ببيان فساده، وذلك من وجوه، أحدها أن يقال: لا نسلّم أن الحاجة داعية إلى نصب إمام معصوم وذلك لأنّ عصمة الأمّة مغنية عن عصمته، وهذا مما ذكره العلماء في حكمة عصمة الأمّة. قالوا: لأن من كان من الأمم قبلنا كانوا إذا بدّلوا دينهم، بعث الله نبياً يبيّن الحق، وهذه الأمّة لا نبيّ بعد نبيّها، فكانت عصمتها تقوم مقام النبوّة، فلا يمكن أحداً منهم أن يبدّل شيئاً من الدين إلا أقام الله من يبين خطأه فيما بدّله، فلا تجتمع الأمة على ضلال”.

كلام ابن تيمية أوصل فكرة العصمة إلى خواتيمها. القول بعصمة النبي يستتبع القول بعصمة سنّته، وعصمة أمّته أنّها لا تجتمع على ضلال، وإذا كانت ستجتمع على ضلال، أقام الله شخصاً ليمنع لذلك، فيصبح ذلك الشخص معصوماً. إذاً نحن ننطلق من عصمة النبيّ إلى عصمة الأمّة إلى عصمة أبو بكر وعصمة عمر ومعظم الصحابة وأئمّة المذاهب الفقهيّة والأئمّة عند الشيعة والمجدّدين في أمور الدين، إلخ.. وأصبح البخاري وصحيحه معصومين، ومسلم وصحيحه معصومين، والأشعري وإبانته معصومين، وابن تيمية وفتاويه معصومين، وقس على ذلك.

إذا كانت الضرورات في الماضي أجبرت المسلمين على القول بعصمة النبي، هل واقع تخلّف المسلمين اليوم يفرض عليهم أن يعكسوا ذلك، كون القول بعصمة وأزليّة القرآن والسنّة النبويّة وما يستتبعه أصبح من أسباب تخلّفهم؟ بمعنى آخر، هل يجب على المسلمين إعادة الرسول إلى عالم البشر – “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ..” (سورة الكهف 110 وسورة فصّلت 6) – لكي يصبح لهم قدرة تقبّل تراثهم كتراث بشري، والتعامل مع رجال دينهم كبشر، فيتساووا مع باقي البشر؟

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  المخرجتان الكوش وبدير.. وجع بيروت سينمائياً