بين لبناننا نحن ولبنانهم هم!

النّظام اللّبناني الطّائفي لم ينجحْ، لا قبل الطّائف ولا بعده. الكِيان اللّبناني ككلّ في أزمة وجوديّة متجدّدة. أمّا الأطبّاء المعالِجون فأغلبهم من المتسبّبين - غير ذوي الكفاءة - بهذه الكارثة. وخلف حفلات الخلاف والتّسويات اليوميّة والأسبوعيّة والشّهريّة بينهم.. جميعهم يعلمُ جيّدا، برأيي، أنّ البلد أمام خيارَين لا ثالث لهما، إذ لم تعُد تنفع "الوسَطيّة" (ولو كانت "ميقاتيّة") مع الحالة اللّبنانيّة.

الأوّل، ويلزمه شجاعة ورجال دولة، هو الذّهاب فوراً باتّجاه دولة المواطَنة العصريّة، الواحِدة واللّا-طائفيّة. أمّا الثاني فهو الأقل شجاعةً وحكمةً؛ وإن رفضناه على المستوى المبدئي فقد تفرضه الطّوائف ولو بأساليب مُلتوية ومموّهة. هذا الخيار الثّاني – المرجّح تبنّيه ضمن أي عمليّة تسوية معمّمة قادمة – هو الذهاب باتّجاه نوعٍ من أنواع التّقسيم و/أو الفَدرلة (الظّاهريّة أو الباطنيّة). إنّه الخيار الضمني لأكثر زعماء الطّوائف، ولكنّهم حاليّا في حالة “تغنّج” على بعضهم البعض بانتظار الأضواء الخضراء الإقليميّة والدّوليّة. هذا الاتجاه هو الذي سيجرّوننا معهم إليه، على الأرجح، مهما تعددّت التّسميات واختلفت الأشكال المُعلَنة.

هنا برأيي يكمن جوهر الأزمة اللّبنانيّة الرّاهنة وفي العُمق: كل ما عدا ذلك هو تمويه وخداع وتضييع وقت للجميع من قِبل طبقةٍ أصبحت مملّةً ومملّةً جدّاً.. وفي جميع الأحوال فهذا الواقع يفرضه، كما أشرنا، موت النّظام الحالي، وجنونُ أيّ تفكير في إعادة إحياء هذه الجثّة الهامدة (إلّا إذا أرادوا أن نعيش مجدّداً فيلماً من أفلام “الزومبي”.. وهذا واردٌ عند البعض لكن ليس – برأيي الخاص – عند اللّاعبين الأساسيّين داخل البلد وخارجه).

سيذهبون بنا نحو الخيار الثّاني المُلتَوِي على الأرجح، لأنّهم لن يتجرّؤوا على البَوح بالتّقسيم العلني أو بالفدرَلة العلنيّة المباشرة.. وهم عاجزون – بأغلبيّتهم – عن التّضحية المتسامية بهدف تحقيق الخيار الأوّل؛ ولا يستطيعون طبعاً البقاء ضمن خيار “الجثّة-الزّومبي” الرّاهنة.

خياري الشخصي كمواطن لبناني هو الدّولة الموحَّدة الواحِدة المركزيّة، دولة المواطنة العصريّة اللّا-طائفيّة والقائمة على أساس المساواة بين جميع المواطنين. هذا ما أفهمه في حدود معرفتي بالأمور الدّستوريّة. أنا أؤمن قلبيّاً بوحدة هذا الشّعب برغم تعدّد طوائفه وثقافاته، وأؤمن أيضا بحاجتنا – الموضوعيّة لا العاطفيّة فقط – إلى أن نكون موحَّدين ضمن كِيان واحد

“أنا أبحث عن رجل دولة!”

لا رَيبَ في أنّ لبنانَ ككِيان قد اقتربَ من مفترق طُرقٍ وجوديّ وتاريخيّ في ما يخصّ مستقبَلَه ونظامَه. يتوجّب علينا مقاربة الموضوع بصراحة “وبلا كفوف”..

على الأرجح، هناك من يبالغ في اختلاق المشاكل والتّسويات الآنيّة، عداكَ عن الضّجيج والتأجيل المُمَنهَجَين، هرباً من البوح بالسّرّ، أو بسرّ الأسرار: علينا أن نتحدّث عن مستقبل لبنان ككِيان وكنِظام.. و”بلا كفوف”. هل هناك أهمّ من ذلك حقّاً، بعد كلّ الذي حدث ولا يزال يحدث؟ والأدق: هل هناك نساء ورجال سياسيّون وحزبيّون هم من الشّجاعة بما يكفي للبوَح بهذا السّرّ ولمحاولة إيجاد الحلول، بصراحة، وبلا خداع وأساليب ملتوية؟ بناء الأوطان والدّول يلزمه “رجالٌ” (لا بمعنى الفحولة الجنسيّة طبعاً ولا بمعنى التّشبيح المتخلِّف والتّعدّي على كرامات النّاس، بل بمعنى “رجال دولة” حصراً). وأتخيّلُ ديوجينوس الإغريقي (ت. صوب ٣٢٧ ق.م.) يتجوّل بمصباحه في وضح النّهار، صارخاً بين هؤلاء: “أنا أبحثُ عن رَجل.. دَولة!”.

لبنان الذي نحبُّه ونريدُه

لستُ خبيراً دستوريّا، ولكنّ خياري الشّخصي كمواطن لبناني – رجائي لهذا البلد – هو الدّولة الموحَّدة الواحِدة المركزيّة، دولة المواطنة العصريّة اللّا-طائفيّة والقائمة على أساس المساواة بين جميع المواطنين. هذا ما أفهمه في حدود معرفتي بالأمور الدّستوريّة، وهذا ما أرجوه لوطني بكلّ صدق. أنا أؤمن قلبيّاً بوحدة هذا الشّعب برغم تعدّد طوائفه وثقافاته، وأؤمن أيضا بحاجتنا – الموضوعيّة لا العاطفيّة فقط – إلى أن نكون موحَّدين ضمن كِيان واحد. مصلحتنا الموضوعيّة هي في أن نعيشَ سويّا، وفي أن نستغلّ طاقاتنا البشريّة والمعنويّة والمادّيّة الأخرى.

بين الوحدة وبين التّقسيم، الموقف الرّوحي المتعالي المبدئي يميلُ إلى: الوحدة طبعاً. حيث هناك وحدة فهناك ارتقاء، وحيث هناك تفرقة وتضادّ فهناك هبوط. هبوطنا الوجودي كان من عالم الوحدة إلى عالم الكثرة، وارتقاؤنا الرّوحي هو بالعودة إلى الوحدة في جميع أمورنا كبشر. الوحدة تعني تقبّل الآخر برغم اختلافه عنّا، وتعني المحبّة غير المشروطة (أو السعي إليها). ما هي رسالة المسيح ورسالة محمدّ (عليهما أفضل السّلام) إن لم تكن هذه (التّوحيد بكل معانيه، والمحبّة غير المشروطة)؟ بالمناسبة، ما هو عيد المسيح إن لم يكن عيد المحبّة غير المشروطة، المحبّة الإلهيّة؟

إذن، فالخيار مبدئيٌّ وعمليٌّ معاً: الوحدة خير من التّفرقة والتّقسيم بكلّ أشكالهما. ودولة المواطنة والمساواة هي أفضل خيار يمكن تصوّره في هذا العصر: روحيّاً وأخلاقيّاً وعلميّاً وبراغماتيّاً. الدّولة الطّائفيّة هي دولة رجعيّة. الطّوائف هي مصطَنع هدفه إخفاء الدّين، تنحيته، تبديله بتصوّرات جامدة ومصطَنعات غير حقيقيّة هدفها الأخير هو حكم بعض رجال السّياسة والمال والدّين. الطّائفيّ لا يعرف – في الحقيقة – لا روحانيّاتٍ ولا ديناً ولا أخلاقاً. هو يعبد صورة وأسماء سمّاها هو وآباؤه، ما أنزل الله بها من سلطان. الله هو الوجود الحقّ والحيّ: لا يمكن اختزاله بتصوّر ذهني وعقائدي دون آخر، ولا يمكن حصره بمفهوم أو باسم.. فسبحانَ ربِّك ربِّ العزّة عمّا يصِف الطّائفيّون.

انتهى، فلا تضيعوا وقتنا: لعبة الطّائفيّة ليست لعبة الله، بل لعبة أبي الحجاب الأكبر والتّغرير الأخطر، أي لعبة الشّيطان (أو: “لوسيفير” أبي الضّدّ والحُجُب). الله يدعو إلى الوحدة والمحبّة، والشّيطان يدعو إلى التّفرقة والتّضاد. لا ريبَ في أنّ الطّائفيّة من أعمال الشّيطان الخبيثة، فيا ليتَ أهل أرضي يجتنبونها لعلّهم يرشدون.

لا أتخيّل نفسي في “لبنان” لا يتضمّن الأرز وبشرّي وإهدن وطرابلس وزحلة وبعلبك وصيدا وجبل عامل والبقاع والشّوف وبيروت.. هذه كلّها أرضي كما هي أرض كلّ مواطن لبناني. لقد نشر “لوسيفِر” جنوده في كلّ هذه المناطق ليمنَع الوحدة. هذا الواقع الشّيطاني أمامنا لكنّ أغلبنا لا يراه لغشاوة في قلبه (وفي عينيه أيضاً)! هذا لبنان الذي عشنا ونعيش فيه، ولم يُقنعْني جنود الشّيطان بأنّي كشيعي المولِد مختلفٌ عن غيري الماروني أو السنّي أو الدرزي أو الكاثوليكي أو.. هذا هراء وكُفر! الكُفر الأخلاقي شرّ من الكُفر الشّرعي: أليس الأمر كذلك يا أيّها الشّيخ الأكبر عمانوئيل كانط؟ “التّصوّف إذا لم يعمّ مكارم الأخلاق لا يعوّل عليه”: أليس هذا قول الشيخ الأكبر محي الدّين ابن عربي أيضاً؟

انتهى، فلا تضيعوا وقتنا: لعبة الطّائفيّة ليست لعبة الله، بل لعبة أبي الحجاب الأكبر والتّغرير الأخطر، أي لعبة الشّيطان (أو: “لوسيفير” أبي الضّدّ والحُجُب). الله يدعو إلى الوحدة والمحبّة، والشّيطان يدعو إلى التّفرقة والتّضاد. لا ريبَ في أنّ الطّائفيّة من أعمال الشّيطان الخبيثة، فيا ليتَ أهل أرضي يجتنبونها لعلّهم يرشدون

تقسيمُنا والإصرار على ذلك هو كُفرٌ بالمعنى الأخلاقي. أرى ذلك بالمشاهدة العينيّة كلّما أمرّ بمدينة زحلة ليلاً وأنا عائد من قريتي “حزّرتا” على طريق بيروت-ترشيش-البقاع: روحانيّة زحلة ليلاً من روحانيّة ابتسامة السّيّد موسى الصّدر. وجه هذا الأخير بالمناسبة يشبه وجهَ لبنان: يجمع المعالم الإسلاميّة والمسيحيّة والعربيّة والفارسيّة – وحتّى الغربيّة – معاً وبشكل ساحر.

إقرأ على موقع 180  عندما يُساق اللبنانيّون مع خواريف العيد!

الخيار الصّحيح بالنّسبة إليَّ شخصيّا، إذن: هو الذّهاب الفوري نحو دولة المواطنة العصريّة. قد يكون ذلك بالتّدرّج وعلى مراحل، لكنّ هذا هو الطّريق الحقّ، وهذا هو الخيار الأخلاقي والإنساني والعلمي. على أنّ السّير في هذه الطّريق يلزمهُ قادة ورجال دولة.. هل هم موجودون حاليّا في هذا البلد؟ أعرف باليقين واحداً على الأقل لا شكّ عندي بقيادته و”رجولته”. لكن، من السّهل تحميل الأمر كلّه لقائد واحد لأهداف إقليميّة واضحة.. الصّدق هو أن نطلبَ إجماعاً وطنيّاً حول ذلك، وأن ندفعَ نحو السّير به بشجاعة. لكنّ الأرجح أنّ هذا القائد (وغيره من الرّجال والقادة الصّادقين) ستتمّ محاولة إحراجه مجدّدا للقبول بصيغة “الزومبي” أو بصيغة تقسيميّة أخرى ولو مُلتوية.

دعوى البراغماتيّة وحماية الأقلّيّات: “لبنانُهم هُم”

دخل لوسيفِرُ المحنّكُ اللّعبة السّياسيّة والاقتصاديّة اللّبنانيّة من أبوابها العريضة، وتداخَلَ معها، فعشعشَ في تفاصيلها الضّيقة. لقد دخل أيضا، على ما أراه، في أغلب المؤسّسات الدينيّة والطّائفيّة الرّسميّة. إنّه ينادي بالكُفر الأخلاقي حيثما وصل، ويدعو إلى التّفرقة والتّقسيم بدل الوحدة. يعِد النّاس من كلّ الطّوائف بالفقر وبالبؤس وبالمصائب وبالتّهجير: ما هو الحلّ مولانا؟ الحلّ عنده هو بالخوف من الآخر وبالانعزال وبالتّقسيم. يكره الوحدة: إنّها ضدّ الأقليّات حسبما يقول.. يُقنع الأكثريّات أيضا أنّها ضدّهم، فالوحدة قد تنفي وجود أكثرية في مقابل الأقليّة من أصله. لوسيفِر هو شيخ عالم الضدّ والحجاب والخداع والغُرور، واليوم هو شيخ من مشايخ هذه الطّبقة المتحكّمة من وفي كلّ الطّوائف.

ماذا نتوقّع إذن في هكذا سياق؟ أن تذهب بنا هذه الطّبقة نحو الوحدة النّهائيّة لهذا البلد، ونحو دولة المواطنة؟ طبعاً لا. ستحاول الحفاظ على مكتسباتِها واحتكاراتِها من خلال الدّفع باتّجاه أنواع ملتوِية (غير صادقة) من التّقسيم تحفظُ مصالحَها وزعاماتِها. أقول ملتوية لأنّ هناك أنواعاً صادقة. لا يجب قمع من ينادي – بشكل علميّ – بالفيدراليّة بهدف الوصول إلى الوحدة، ولو اختلفنا معه. بعضهم صادق. في النّهاية، هناك من يقول إنّ فشلَ النّظام الحالي لا يمكن أن يستمرّ، وعلينا إيجاد حلول عصريّة: الفيدراليّة واحدة منها. لا أوافق طبعا، لكنّني ضدّ قمع هذا الرّأي من قبل رجال السّلطة لأهداف أخرى بعيدة عن العلم.

لماذا لا ينادي هؤلاء بفيدراليّة مناطقيّة غير طائفيّة، وهي الأصحّ برأيي ضمن الطّرح الفدرالي؟ أوَليسَ أهلُ مكّةَ أدرى بشِعابِها؟ فهمتُ أنّه طرح الفيلسوف اللّبناني الأصل، نسيم نيكولاس طالب، وهو مفكّر كبير يتوجّب قراءته (في الاقتصاد والإدارة أكثر من السّياسة والتّاريخ بالتأكيد، حيث يشطح على الدّوام..). يمكن بحث هذه الطّروحات جميعها، لكن لا أثق في أنّ الطّبقة السّياسيّة والطائفيّة الحاليّة سوف تذهب بنا نحو درس الطروحات الجدّيّة والعميقة على اختلافها..

فعلى الأرجح، سيذهب بنا أهل الطّبقة الحاليّة في اتّجاه آخر كما أشرنا: التّقسيم و/أو الفَدرلة، لكن المقنّعَين والملتوِيَين والمموَّهَين. “لوسيفِر” وجنود الظّلام معشعشون في اللّعبة الدّاخليّة اللّبنانيّة إلى حدّ كبير ومخيف. ولن يُخرجنا من هذه الظّلمات إلّا “رجالٌ” يحبّون النّورَ ويحبّهم، ويتجلّى من خلالِهم في كلّ وقتٍ إلهي (لا وقتٍ زمني).. يعرفونَ أنّ رقيّ الإنسان هو بالسّعي نحو المحبّة والودّ والوحدة، لأنّ الله واحدٌ ولكنّ فهمنا للدّين متعدّد. لا أملَ عندنا إلّا بهذا الصّنف من رجال الله (مسيحيّين ومسلمين).. وندعو الله أن يقتنِعَ هؤلاء من رجالِه وقادة رجالِه – سريعاً – بضرورة أن نتحرّك باتّجاه بناء دولة المواطَنة الواحِدة، حفظاً لهذا البلد وحفظاً لمستقبل مواطنيه وحفظاً لقضاياهم الاستراتيجية الكبرى!

ما هذا بالتّفلسُفِ ولا بالمزايدَةِ ولا بالتّعدّي على دور القادة الصّادقين، ولكنّه رجاءُ مواطنٍ صادقٍ أنشِدُ فيه:

فاقبَلْ رجائيَ ليسَ الصّدقُ معصِيةً/ إنّ الصّراحةَ أُختُ الطّاعةِ المَحْضِ

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  متى يفك "حزب الله" إرتباطه الأمومي بإيران؟