كورونا يتحوّر.. واللقاحات تطارده

لا يدعو الأمر للمفاجأة أبدًا أن تتغيّر اللقاحات، لا سيّما تلك الخاصة بالفيروسات الرجعية Retro viruses كون هذه الفيروسات الأكثر قدرة على التحوّر والتغيّر، ومع كلّ متحوّر لفيروس كورونا المستجد كان السّؤال الأول الذي يُطرح: هل ما زالت اللقاحات فعّالة؟

منذ العام 1940، مع الموافقة الأولى على الجرعات الأولى للقاح الإنفلونزا في الولايات المتحدة وهذا اللقاح يتم تعديله سنوياً، بل كلّ موسم لمجاراة المتحوّرات على هذا الفيروس الأكثر تشعبًا وخطرًا من فيروس كورونا، حيث تقوم مراكز الدراسات حول العالم بمراقبته على مدار العام لتحديد السّلالة الأكثر انتشارًا وفي شهر شباط/فبراير من كلّ سنة، تنتقي منظمة الصحة العالمية ثلاثاً من هذه السلالات (على أساس التهديد والانتشار) وينطلق العمل لتطوير لقاح جديد ليكون جاهزًا قبل حلول فصل الخريف.

ومع متحوّر أوميكرون، بدأ مطورو لقاح “فايزر- بيونتك” بتطوير لقاح جديد ومعدّل مخصّص لمكافحة السلالة الجديدة التي تشير الدراسات إلى أنّها ستكون السّائدة عالميًا في الأسابيع والأشهر القادمة بسبب سرعة انتشارها من جهة وعوارضها الخفيفة التي تساهم في المزيد من الانتشار من جهة ثانية.

وبالفعل ستنتطلق التجارب مطلع هذا الأسبوع على عيّنة مؤلفة من 1415 شخصاً، حيث سيحصل:

  1. 615 منهم على جرعتين من اللقاح الأول لـ”فايزر- بيونتك” بشكل مشابه لما يحصل حاليًا معنا جميعًا وجرعة ثالثة من اللقاح المعدّل.
  2. 600 من الذين لُقّحوا سابقًا بثلاث جرعات من اللقاح القديم سيحصلون على جرعة رابعة من اللقاح الجديد المعدّل.
  3. مجموعة صغيرة مؤلفة من 200 شخص من الذين لم يأخذوا اللقاح حتى الآن سيحصلون على ثلاث جرعات من اللقاح الجديد حصرًا.

وهذا اللقاح الجديد سيكون جاهزًا بحلول شهر آذار/مارس المقبل، بحسب تصريح المدير التنفيذي لشركة “فايزر” ألبرت بوريا، أما مؤسس شركة “بيونتك” أوغور ساهين فقد أكّد أنّ اللقاحات متشابهة لناحية تأمين الحماية اللازمة من الفيروس ومتحوراته ولكن مع التعديل عليها ستبقى المناعة المكتسبة في أجسامنا لوقت أطول، وأضاف بأنّ المختبرات التابعة للشركة مع شركائها العالميين قادرين على صناعة ما يقارب أربعة مليارات جرعة خلال هذا العام من اللقاح المعدّل طبعًا في حال كانت الأرقام الآتية من الدراسات مشجعة.

وفي ما يتعلّق بالتعديل على اللقاحات من الجيل الثالث (فايزر- بيونتك وموديرنا مثالًا) فيتم بمبادلة الشيفرة الموجودة حاليًا بالبروتينات الشوكية الفيروسية بأخرى مطابقة لسلالة أوميكرون من فيروس كورونا المستجد، كون معظم التحوّرات وقعت في هذه المنطقة من المادة الوراثية الفيروسية، والمدة الزمنية المطلوبة للقيام بهذه التعديلات لا تتخطى الأيام ويتبعها أسبوع لتصنيع عددٍ كافٍ من الجرعات والقيام بالاختبارات اللازمة، بالتالي الفاصل الزمني لن يتخطى الـ 100 يوم للحصول على اللقاح المعدّل جاهزًا للاستعمال بشكل واسع، وهذه من الإيجابيات الكبيرة للقاحات الجيل الثالث.

هذه التعديلات لن تقتصر على لقاحات الجيل الثالث بل ستقوم مختبرات أخرى بتعديل لقاحاتها مثل أوكسفورد-أسترا زينيكا وجاماليا صاحبة سبوتنيك V.

أوميكرون، بين الأمنية والحقيقة

إلى ذلك، ثمة معادلة بسيطة ومعقدة في عالم الفيروسات في آن معاً: كلّما انخفضت نسب الوفيات بعد الإصابة وغابت العوارض المميتة سينتشر الفيروس بشكل أسرع وأوسع كي يصل لأكبر عدد ممكن من الناس فالهدف واحد: التكاثر والبقاء، وفيروس كورونا باقٍ بيننا ولكن بأشكال مختلفة.

لكن هل متحور “اوميكرون” هو الأخير؟ هذا هو السؤال الأبرز الذي يُطرح اليوم بعد وصول المتحوّر الجديد أوميكرون إلى ذروة الانتشار العالمي، فاستطاع منافسة سلفه دلتا مسجّلًا عددًا أكبر من الحالات خلال وقت أقل، على سبيل المثال ولاية واشنطن الأميركية سجلت أكثر من 500 ألف حالة خلال أقل من أسبوع من الانتشار بينما سجّلت أقل من 200 الف حالة مقارنةً بالمدّة نفسها مع المتحوّر دلتا.

أما الجواب فيتدرج كالآتي:

أولًا: كلا لن يكون أوميكرون المولود الأخير لفيروس كورونا، فهذا الفيروس سيطرأ عليه مستقبلًا المزيد من الطفرات الجينية التي ستؤدي بطبيعة الحال لظهور متحوّرات مختلفة وجديدة ولكن ما يسمح بأخذ نفس عميق هنا أنّ المتحوّر الحالي أقل شراسة ولا يصيب الرئتين بأضرار بالغة مثل أسلافه عند أغلبية المصابين (لا كلّهم) وهذا ما يدفع به ليكون أكثر انتشارًا، فالعوارض الشديدة لن تظهر على الناس وبالتالي سيتابعون حياتهم بشكل طبيعي.

ثانيًا: الجائحة لن تنتهي قريبًا، فقبل الوصول إلى مناعة مجتمعية عالمية لا يمكن القول بأنّ الحياة عادت إلى طبيعتها، وهذه المناعة لن تكون حقيقة قبل إيصال اللقاحات إلى كلّ أصقاع الكوكب كي نستطيع وضع حدّ لانتشار الفيروس ووصوله للأجسام الضعيفة بيننا، نعم نسبة القتل تدنّت كثيرًا مع أوميكرون ولكن هذا لا يدعو للارتياح بشكل كامل، طالما هناك أشخاص لا يستطيعون مقاومة المرض يجب منع الفيروس من الوصول إليهم، كيف؟

عبر نشر اللقاح بشكل أكبر وأفعل لا سيّما في الدول الفقيرة حيث تعتبر الإجراءات الصحيّة ترفًا غير مقدور عليه، فحتى كتابة هذه السّطور وصلت نسبة التلقيح عالميًا إلى نحو 60% من سكان الكوكب (جرعة واحدة على الأقل)، ويتم توزيع حوالي 34 مليون جرعة لقاح يوميًا، ولكن المفارقة الكبرى تبقى إذا دخلنا في قراءة ومقارنة الأرقام بين الدول الغنية والفقيرة:

إقرأ على موقع 180  البحر الأحمر.. بحيرة إسرائيلية
# الدولة عدد السّكان (بالملايين) النسب
جرعة أولى جرعة ثانية النسبة العامة
1.    نيجيريا 200 3.53 2.33 5.86
2.    إثيوبيا 115 6.59 1.35 7.94
3.    إيطاليا 59 6.73 75.08 81.81
4.    كوبا 11.33 6.67 86.25 92.92
5.    الولايات المتحدة 330 12.29 62.46 74.75

في تحليل الأرقام، يبدو واضحًا أنّ الدول الأكثر فقرًا تعاني كثيرًا للوصول إلى اللقاحات وهذا ما ينعكس سلبًا على صحة الكوكب كلّه، فدولة مثل نيجيريا بتعداد سكاني ضخم ونسبة تلقيح ضئيلة جدًا قد تتحول لمصنع للمتحورات الجديدة، وأوميكرون بالفعل خرج من دولة (جنوب أفريقيا) لم تتجاوز نسب التلقيح فيها الـ 5%.

وفي إيطاليا والولايات المتحدة تلعب المقدرات المادية والسياسية الهائلة في احتكار كميات فوق الحاجة من اللقاحات  دورًا إيجابيًا لناحية شعوب هذه الدول من جهة، فيمكن ملاحظة نسب التلقيح العالية التي تنعكس على نسب الاستشفاء المنخفضة، أما من جهة أخرى، فالدور سلبي جدًا على مستوى العالم حيث تعاني الشعوب الأخرى للحصول على الجرعات اللازمة والتي يتم التخلي عنها في احتفاليات إعلامية عند اقتراب تاريخ نهاية صلاحيتها!

أما في ما يتعلّق بكوبا، فصحيح أنّها من الدول الفقيرة، ولكنّها صاحبة استراتيجيات صحية رائدة، فهي قامت بإنتاج لقاحاتها الخاصة (عبد الله وسوبيرانا-2، وهي كلمة اسبانية تعني ذات السّيادة)، وبالفعل قامت بنشر جرعات اللقاحات بين سكّانها حتى وصلت النسبة إلى 90% بالإضافة لعقد عددٍ من الاتفاقيات مع دولٍ أخرى لتصنيع هذه اللقاحات، منها: الأرجنتين، فنزويلا، باكستان، الهند وإيران.

 ثالثًا: إذا كانت معدلات الاستشفاء والوفيات أقل، لماذا الخوف والاستمرار بالضغط لزيادة معدلات التلقيح؟

نحن في معركة مع عدو خفي ومراوغ يمكنه الاختباء بكلّ سهولة كما فعل سابقًا في الفترة الممتدة من العام 2002 مع الانتشار الأول لفيروس كورونا (سارس-كوف 1) حتى العام 2020 حيث عاد للظهور من جديد بصورة متطورة، أقل إماتة وأكثر انتشارًا.

وعليه لا يمكن ترك الفيروس ينتشر بين الناس بطريقة كبيرة لأسباب عديدة منها:

  1. أي انتشار كبير قد يؤدي (وهذا احتمال وارد) لظهور متحوّرات جديدة تتصرف بطريقة مغايرة ما يدفع بنا أشواطًا إلى الوراء.
  2. الانتشار الكبير يعني أرقام وفيات أكبر، نعم أوميكرون أقل شراسة ولكن لو تكلّمنا من وجهة نظر الرياضيات والأرقام، نسبة إماتة تصل إلى 0.4% على مستوى العالم فهذا يعني أنّه لو انتشر المرض على مستوى مدينة يقطنها مليون نسمة قد يموت منهم 40 ألفاً، وهذا مأساوي وكارثي.

وبناءً عليه، يجب أن تستمر الاجراءات الوقائية وأبرزها التباعد الاجتماعي، ولبس الكِمامات، وتحصين المجتمع باللقاحات بأكبر نسبة ممكنة للوصول إلى بر الأمان الذي لم يعد بعيدًا على كلّ الأحوال.. حتى لو بقي الفيروس مقيماً بيننا ولكن قيد سيطرتنا عليه.

Print Friendly, PDF & Email
فؤاد إبراهيم بزي

كاتب متخصص في المواضيع العلمية

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  كيف تواجهُ الدول جائحة كورونا بلا تفريط بمكتسباتها الوطنيّة؟