بينما تواصل روسيا حشد قواتها على الحدود الأوكرانية، يتزايد الانقسام داخل الحلف الأوروبي حول الأزمة. يفتقد الاتحاد الأوروبي حتى الآن إلى موقف متناسق وواضح تجاه الأزمة، ودول الاتحاد الثلاث الكبرى؛ ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، تتخذ قراراتها إما بدون تنسيق مع باقي الدول الأوروبية، أو بما يحقق مصالحها سواء الداخلية، أو داخل الاتحاد، أو مصالحها مع روسيا. هذا الأمر أثار غضب دول الاتحاد الأوروبي في شرق أوروبا وذبذب ثقتهم في سياسات دول غرب أوروبا وقدرتها على التعامل مع التهديد الذي تشكله روسيا.
كما صاغها جيرمي شابيرو في مقالة على “موقع المركز الأوروبي للعلاقات الخارجية“، نجد أن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يواجه فضيحة سياسية داخلية قد تطيح به، والحكومة الفرنسية تنتظرها انتخابات رئاسية تؤثر بشكل كبير على كافة قراراتها، والحكومة الألمانية الجديدة منقسمة وخصوصا حول روسيا. يشير توم ماكتجاو في مقالته على “ذي أتلانتك” أن موقف كل دولة من الدول الثلاث في الأزمة، كأكبر ثلاثة لاعبين في أوروبا، تقوّض موقف الأخرتين، هذه مشكلة، أما الأخرى فهي أن مع كل أزمة جديدة في أوروبا، يتزايد ضعف الولايات المتحدة وتتراجع هيمنة نظامها العالمي، ولا يمكن حتى الآن معرفة ما النظام الذي سيحل محله.
الموقف الألماني زاد من الأزمة سوءا. منعت ألمانيا إرسال الأسلحة الدفاعية إلى أوكرانيا؛ فعرقلت محاولات إستونيا إرسال أسلحة ألمانية الصنع إلى أوكرانيا، وتفادت طائرة بريطانية تحمل أسلحة لأوكرانيا المجال الجوي الألماني. ترى جودي ديمبسي في مقالها المنشور على “مركز كارنيجي” أن السبب في ذلك هو اعتقاد ألمانيا أن إرسال أسلحة إلى أوكرانيا سيزعزع استقرار أوروبا، ويجعل من الصعب إجراء حوار مع روسيا. كما رأت أن التاريخ قد يفسر هذا الموقف، فألمانيا تنظر إلى أوكرانيا وبيلاروسيا وجورجيا كمناطق عازلة بين روسيا والغرب، بالإضافة إلى استمرار شعور ألمانيا بالذنب بسبب ما ارتكبته في أوكرانيا وبيلاروسيا تحت حكم هتلر. إلى جانب هذا لا ترغب ألمانيا في الإخلال بعلاقاتها مع روسيا المستمرة منذ عقود، سواء السياسية أو التجارية. وهنا يصبح من أهم المشروعات بينهما هو مشروع نقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى ألمانيا، ومن ثم أوروبا، مباشرة عبر خط أنابيب غاز نورد ستريم 2 الذي سيمر تحت بحر البلطيق. هذا الخط الذي سيضعف نفوذ أوكرانيا كنقطة هامة لنقل الغاز الروسي للسوق الأوروبية، والذي تراه الدول الأوروبية يزيد من اعتماد ألمانيا على روسيا، إلا أن ألمانيا ترفض وقف المشروع.
بالنسبة لشابيرو أصبح الأوروبيون أكثر اعتمادا على الولايات المتحدة، ما يؤيد وجهة النظر الروسية القائلة بأن التحدث إلى الولايات المتحدة كاف، فمن المنظور الروسي والأمريكي، من غير المرجح أن توفر أوروبا مخرجاً لأزمة أوكرانيا، وأي حل أو تصعيد للأزمة سيأتي عبر قناة أمريكية ـ روسية
هناك أيضا انقسام داخلي في الحكومة الألمانية في تعاملها مع الأزمة الأوكرانية. فهذه الأزمة كما يقول أولريش شبيك في مقاله المنشور على “German Marshall Fund of the United States” ضربت الحكومة الائتلافية الجديدة في مرحلة مبكرة للغاية لم تستقر فيها بعد. يقود وزارة الخارجية الآن أنالينا بربوك، من حزب الخضر، التي تعارض نورد إستريم 2 وتريد سياسة أكثر حزما تجاه روسيا. إلا أن مستشار ألمانيا، أولاف شولتس، له اليد العليا في ملف روسيا. يشير أولريش شبيك إلى انقسام الحزب الديمقراطي؛ حيث يعتقد بعض الديمقراطيين الاشتراكيين أن الشراكة مع روسيا لا تزال ممكنة، بينما البعض الآخر مقتنع أن سياسة الجزرة لن تنفع مع الكرملين الذي يزداد عدوانية. تشير جودي ديمبسي إلى عدم رغبة شولتس وحزبه التخلي عن سياسة أوستبوليتيك – الانخراط مع روسيا من خلال الحوار والروابط الاقتصادية – وأن موقف ألمانيا تجاه روسيا لن يتغير إلا إذا أدرك شولتس أن سياسة أوستبوليتيك قد انتهت، وإذا لم تمارس ألمانيا القيادة الاستباقية التي تشتد إليها الحاجة في أوروبا.
***
أما بالنسبة لفرنسا، أوضح أولريش شبيك وجودي ديمبسي وتوم ماكتجاو وتارا فارما، كل في مقالته، كيف يجادل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بضرورة تأكيد الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي عن الولايات المتحدة، وأهمية إجراء أوروبا حوارها الخاص مع روسيا، وضرورة أن يكون للقارة سياسة أمنية ودفاعية مستقلة، وهو ما يعكس رغبة ماكرون في ملء الفراغ الذي تركته ميركل في الجانب الأوروبي بعدما كانت فرنسا الشريك الأصغر لبرلين في التفاوض مع روسيا عام 2014- 2015، ورغبته في تقويض حلف الناتو. تشير تارا فارما في مقالها المنشور على “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية” أنه على خلاف ما يحاول الجانب الفرنسي الترويج له بأن الأوروبيين غير مشاركين في المحادثات الدبلوماسية حول الأزمة في أوكرانيا، وعلى الرغم من أن روسيا حاولت تجاوز الأوروبيين من خلال المناقشات الثنائية مع الولايات المتحدة، إلا أن الأوروبيين كانوا حاضرين في المناقشات الرئيسية حول الأزمة؛ سواء من خلال مناقشات جنيف، ومجلس الناتو ـ روسيا، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، كل هذا إلى جانب مفاوضات نورماندي التي تتوسطها فرنسا وألمانيا مع كييف وموسكو والتي يُعترف الآن بها على أنها الإطار الرئيسي الذي يمكن من خلاله حل النزاع في شرق أوكرانيا.
كما تستطرد قائلة أنه بينما تحاول باريس تعزيز موقف الأوروبيين في الأزمة، إلا أنها تبذل قصارى جهدها لتجنب اندلاع حرب والتي من الممكن أن تقلب الحملة الرئاسية الفرنسية رأسا على عقب. فالسياسة الفرنسية لها اتجاه موال لروسيا يتجاوز خطوط الصدع التقليدية بين أقصى اليمين واليسار، وتدعو شخصيات من الجانبين إلى التقارب مع روسيا.
ترى ديمبسي أنه مع عدم ثقة دول أوروبا الوسطى بألمانيا التي يرون أنها موالية لروسيا، وعدم ثقتهم بماكرون ورغباته في أن تكون أوروبا ذات قدرات استراتيجية وعسكرية وهو ما يرونه يضعف علاقة أوروبا بحلف الناتو، تتقرب دول أوروبا الوسطى أكثر من الناتو وأمريكا في الأزمة الأوكرانية
ولكن بالنسبة لتوم ماكتاو في مقاله المنشور على ذي أتلانتك، فأوروبا لن تستطيع أن يكون لها تأثير في الأزمة. ففيما يخص الاستقلال الاستراتيجي الذي يطمح ماكرون إلى تحقيقه، على أرض الواقع، لا يرى الكاتب وجوداً لمثل هذا الاستقلال. ويرى أن الأمر لا يقتصر على عدم امتلاك أوروبا أي وسيلة لإبراز قوتها العسكرية، ولكنها أيضا لا تستطيع مراقبة حدودها أو ضمان إمداداتها من الطاقة والتي تأتي معظمها من روسيا، والضعف الجيوسياسي للقارة يذهب إلى ما هو أبعد من الطاقة والأمن، فهي لا تمتلك تكنولوجيا خاصة بها وما زال نظامها المالي معتمدا على النظام المالي الأمريكي والتجارة مع الصين.
يتفق مع هذا الرأي جيريمي شابيرو والذي يرى أن العلاقة عبر الأطلسي اختل توازنها منذ الأزمة المالية عام 2008 لصالح الهيمنة الأمريكية، وهذا الاختلال هو الذي أضعف أوروبا في الأزمة الأوكرانية. فذكر الكاتب كيف تفوقت الولايات المتحدة على الاتحاد الأوروبي من حيث الناتج المحلي الإجمالي وكيف أصبح الاقتصاد الأمريكي الآن أكبر بمقدار الثلث من اقتصاد الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة مجتمعين. هذا بالإضافة إلى الهيمنة التكنولوجية للولايات المتحدة على أوروبا، فالشركات الأمريكية الكبيرة – الخمسة الكبار؛ جوجل وأمازون وآبل وميتا (فايسبوك) ومايكروسوفت – اقتربت الآن من الهيمنة على المشهد التكنولوجي في أوروبا، ولم تتمكن أوروبا من تطوير بدائل محلية كما فعلت الصين. هذا إلى جانب الانقسامات المزمنة في أوروبا التي أضعفتها؛ فالأزمة المالية قسمت بين شمال القارة وجنوبها، وقسمت أزمات الهجرة وأوكرانيا بين شرقها وغربها، وقسم البريكست كل شيء آخر. بالنسبة لشابيرو أصبح الأوروبيون أكثر اعتمادا على الولايات المتحدة، ما يؤيد وجهة النظر الروسية القائلة بأن التحدث إلى الولايات المتحدة كاف، فمن المنظور الروسي والأمريكي، من غير المرجح أن توفر أوروبا مخرجاً لأزمة أوكرانيا، وأي حل أو تصعيد للأزمة سيأتي عبر قناة أمريكية ـ روسية.
***
أما بالنسبة للموقف البريطاني، فيشير توم ماكتجاو إلى ما أصدرته لندن من معلومات استخباراتية حول خطط الحرب الروسية، وإرسالها أسلحة إلى أوكرانيا، وما قدمته من عروض دبلوماسية لدعم مجموعة من دول أوروبا الشرقية. وهو جهد يراه الكاتب محاولة للحفاظ على حلف الناتو باعتباره المنظمة الرئيسية للأمن الغربي، وبالتالي ضمان عدم تجاهل بريطانيا. وكلما زادت قدرة بريطانيا على إقناع الدول الأوروبية بأنها لا تزال شريكًا أمنيًا جادًا، قل احتمال استبعادها من النظام الأمني المستقبلي لأوروبا.
ترى جودي ديمبسي أنه مع عدم ثقة دول أوروبا الوسطى بألمانيا التي يرون أنها موالية لروسيا، وعدم ثقتهم في ماكرون ورغباته في أن تكون أوروبا ذات قدرات استراتيجية وعسكرية وهو ما يرونه يضعف علاقة أوروبا بحلف الناتو، تتقرب دول أوروبا الوسطى أكثر من الناتو وأمريكا في الأزمة الأوكرانية، وهو ما سيعني أن تشكل هذه الدول عائقا أمام أي تكامل مستقبلي في الاتحاد الأوروبي خاصة في مجال الأمن والدفاع والسياسة الخارجية. هذا بالطبع لا يصب في صالح الاتحاد الأوروبي، ولا في صالح الولايات المتحدة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“