هيكل “الأستاذ”.. و”العارفة”

تسنى لي أن اعرف «الهيكلين»: الأول، محمد حسنين هيكل القريب من جمال عبد الناصر إلى حد اعتباره المعبّر الدقيق عن آرائه، المبشر برؤيته التاريخية، والناقل الأمين لأفكاره ومواقفه؛ الثاني، محمد حسنين هيكل صاحب التجربة الغنية والذاكرة الهائلة التي لا تنسى رجلاً أو واقعة أو حدثاً.

في تقديري، شخصياً، أن محمد حسنين هيكل ما بعد جمال عبد الناصر كان أهم وأخطر من محمد حسنين هيكل اللصيق بعبد الناصر إلى حد نسبة كل ما يقوله أو يكتبه إلى القائد العظيم الذي أثبت مقدرة مميزة على تطوير معارفه، بالتجربة، وتوسيع دائرة اهتمامه بالضرورات السياسية، وإغناء فكره بالحوار كما بالتجربة وتثبيت إيمانه بالبديهيات عن طريق المعايشة والاحتكاك المباشر بالجمهور، وذلك الحوار المفتوح بينهما والذي أضاف إلى ثقافة عبد الناصر فرصة التعديل والتطوير من اجل فهم أفضل لنبض الناس بأفكارهم وأحلامهم وهمومهم المعتقة بعد قرون من الظلم والاستهتار بمطالبهم واحتقار وجودهم مع الادعاء بشرعية تمثيلهم.

وأفترض أن «الأستاذ»، وبعد أن أفاق من صدمة غياب جمال عبد الناصر، قبل الأوان، قد أعاد صياغة ذاته ودوره ولغته مركزاً على محاولة تعويض الغياب بمزيد من القراءة النقدية في مراجعة للتجربة الغنية واستكمال النظر في دروسها المستفادة بالصحيح والخطأ فيها. وبهذا فإن خروجه من «الأهرام» كان خدمة عظيمة له ولنا ولو على حساب مكانة «الأهرام» ودورها.

وهكذا انتقل من دور الشارح والمنظّر والمترجم إلى دور المُراجع والناقد من موقع المحب والمؤمن بدور القائد، من دون التغاضي عن الأخطاء ومحاولة تبريرها بالظروف القاهرة والانفعال أو حتى سوء التقدير.

كان «الأستاذ» يدرك أن التمسك بصوابية القرارات جميعاً، وفيها المصيري والتاريخي، وفيها أيضا المدفوع بالعاطفة أو بالانفعال بمرارة الخيبة، يسيء إلى القائد الذي آمن بكفاءاته وقدراته، كما يسيء إليه.

وبالمقابل، فإن نقد التجربة الغنية من موقع الحريص والشاهد وربما الشريك في التمهيد للقرار أو المبادر إلى تبريره قد يسيء إلى القائد الذي آمن باستثنائيته وبمكانته التاريخية. ولقد ساعده في اختيار الموقف الصحيح أن «خصوم التجربة الناصرية» بالانجازات التاريخية التي حققتها، كما بالخيبات والنكسات التي مُنيت بها، كانوا اقل كفاءة وأبأس في تطلعاتهم وأردأ في ارتباطاتهم وأفقر في تجربتهم كما في ثقافتهم من أن يقارنوا بالقائد التاريخي حتى حين يخطئ، خصوصاً وانه يملك الشجاعة والمصداقية على المراجعة والاعتراف بالخطأ، فضلاً على أن تجربته، كشاب اقترب من السياسة حتى المشاركة في تظاهرات الطلاب، وعاش مرارة الهزيمة في حرب فلسطين الأولى جعلته يدرك عمق الترابط بين التقدم والتحرر، وبين دور الشعب قبل الجيش ومعه في التغيير.

***

كان «الأستاذ» الذي يعرف أكثر مما يجب، لا يطيق أن تباغته بمعلومة لا يعرفها، فيتحول المحقق وينهكك بالأسئلة: وعرفت ازاي؟ مين اللي قال كده؟ انت تعرفه كويس؟ يعني انت تثق بمعلوماته؟

انه «العارفة»، كما كان يقول العرب عن مرجعهم في المعلومات عن الأحوال والبلدان والناس.. ذلك أنه يسمع كثيراً، ويدقق كثيراً، ويقرأ كثيراً، ويحلل كثيراً. يهتم بتفاصيل التفاصيل. يسألنا في الطريق إلى برقاش مرات عديدة: صرتم فين؟ أي طريق تسلكون؟ خذوا بالكم من قرية ماريا القبطية التي أهداها بطريرك الأقباط إلى الرسول العربي محمد بن عبدالله؟ هل تعرفون أن الرقابة قد حذفت من الطبعة الجديدة لكتاب بنت الشاطئ «نساء النبي» ما أوردته نقلاً عن السيدة عائشة؟ سنكمل عند وصولكم.. هيا.

إنه لا يستعرض معارفه. هذا أسلوبه في التدقيق، وحين نصل نجده يمسك بكتاب بنت الشاطئ ويقرأ من طبعة سابقة ما حذفته الرقابة حديثاً.

لا أظن انه قد أتيح لكاتب من أسباب المعرفة، بلاداً وأحوالاً، قادة ورجال فكر، بحاثة ونساء قُدّر له أن يلعبن أدوارا في التاريخ الحديث، ما أتيح لـ«الأستاذ» أن يعرفه خلال تجربته العريضة التي كادت تشمل العالم جميعاً بشرقه وغربه، بعربه وعجمه وشعوب إفريقيا، القارة المظلومة بتاريخها كما بجغرافيتها وثوراتها التي أغرت بها المستعمرين فقسموها بينهم إرباً ليتحكموا بحاضرها ومستقبلها.

لقد أمضى هيكل سحابة عمره الطويل يتعلم بدءاً من الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى الحرب على فلسطين والهزيمة العربية فيها، فإلى الثورة في مصر ورجالاتها جميعاً، إلى الصداقة الحميمة التي جمعته مع القائد العربي العظيم جمال عبد الناصر وجعلته كاتم أسراره والمطلع على أحلامه وأفكاره، يناقشه بغير وجل ويحاول التعبير عن آرائه، ولو بطرحها للمناقشة.. وقد أفاد من «الأهرام»، برصيدها المميز، فجعلها الدار الجامعة لكبار المثقفين والمفكرين والمبدعين المختلفين في ما بينهم حول عبد الناصر وثورته، حول العروبة والاشتراكية، حول هوية مصر ودورها.. فكان بينهم الفرعوني والمصري الذي لا يعرف ما يجرى حول بلاده وفى جوارها فضلاً على البعيد الذي لا بد أن يؤثر عليها.. كما جعلها دار ضيافة ومنتدى ثقافياً يستقبل كبار المفكرين في العالم، من أمثال جان بول سارتر، إلى كبار القادة العسكريين من أمثال مونتغمري، الذي عرف عنه انه كان يسبح عارياً في بحر الشاطيء الشمالي بين الإسكندرية والعلمين أثناء الاستعداد للمعركة الفاصلة مع رومل في الصحراء الغربية إبان الحرب العالمية الثانية.

***

التقى “الأستاذ” وحاور الكبار في عالمه الواسع: من جواهر لال نهرو إلى ابنته انديرا غاندي، ومن تيتو يوغسلافيا إلى شوان لاى الصين ومن خروشوف الاتحاد السوفياتي، ومن الجنرال ديغول إلى ميتران، ومن الإمام الخميني إلى هاشمي رفسنجاني، فضلاً على الحكام العرب كافة على امتداد نصف قرون او يزيد، وصولاً إلى رؤساء مصر جميعاً، من أنور السادات الذي أخذه الاختلاف معه إلى «خريف الغضب» وحتى حسني مبارك الذي لم يكن له موقف ليتخذ منه موقفاً إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي أراد نصحه فلم تمهله الأيام لإتمام هذا الدور.

صحيح أن الظروف التي عاشها هيكل عبر مسيرته التي امتدت لثلاثة أرباع القرن قد أتاحت له أن يعيش في قلب الأحداث وليس على هامشها، ولكنه كان ذاكرة لا يصيبها الضعف وقلماً لا يعرف التعب وعقلاً لا يعرف الهدوء والتسليم بأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وان لعمرك حقاً عليك، وان عليك أن تتقاعد وقد تجاوزت التسعين..

لقد عاش هذا الأستاذ الكبير حياته ليتعلم ويتعرف ويناقش ويحلل، يسافر ويقابل رجالات العصر ساسة ومفكرين ومبدعين فيحاورهم ليعرف أكثر، وهكذا مد معارفه من السياسة إلى الثقافة ومن الاقتصاد إلى الفن رسما ونحتاً وغناء وموسيقى ومن الرياضة إلى الآثار وآخر صرعات الموضة.

إقرأ على موقع 180  الممر الهندي الخليجي الأوروبي.. ماذا إذا تعثر؟ 

***

لقد انتهى عصر «الكبار» في السياسة كما في الصحافة. انتهى عصر الجمهور الذي يشكل وعيه بمبادئه معززة بأسباب المعرفة والثقافة.. ولقد كانت الصحافة بين مصادر الوعي خصوصاً وأن ما تطرحه من قضايا تسهم في تنوير الرأي العام وتعزيز الحوار وتكثيف المعرفة.

لقد حوّل هيكل الصحافة من وسيلة إعلام وإخبار وتعليقات سريعة ومحاورات مع المسؤولين، غالباً بشروطهم منعاً للإحراج، إلى منتدى ثقافي رفيع المستوى يجمع بين كبار الكتّاب والمثقفين المختلفين في المنطلقات ومنابع معرفتهم كما في أنماط إبداعهم وإشكالات نتاجهم مسرحاً ورواية وشعراً، قصة ورسماً ونحتاً وتصويراً مع مساحة مميزة لمبدعي الكاريكاتور.. وهو بهذا قدّم الصورة الكاملة للصحيفة بمهامها التنويرية، وهي سياسية بعمقها.. أفليست المسرحية والقصيدة والقصة ونقل معارف الشعوب الأخرى وثقافتها بين وسائط «تثقيف» القارئ وتمكينه من الدخول إلى عصره من باب المعرفة من دون أن يخسر اعتزازه بهويته وبإسهام مبدعيه ـ على مر التاريخ ـ في إغناء وجدانه وتأكيد جدارته بأن يكون شريكاً في إنتاج الحضارة الإنسانية وليس مجرد شاهد أو ناقل أو مترجم أو من الدعاة للسلطان بطول العمر؟

أما خارج الصحافة وبعدها فقد تحوّل «الأستاذ» الذي جعل من «الأهرام» منارة معرفة، إلى مبدع مجدد في الثقافة السياسية، وهو القارئ النهم والمحاور المميز، وإلى مؤرخ لمرحلة لعلها الأخطر في التاريخ العربي الحديث، بشخصياتها المؤثرة، المميز منها والمثير للدهشة أو الاستغراب.. وبالتأكيد فإن المكتبة التي أنتجها محمد حسنين هيكل عن السقوط الذريع من التاريخ ستشكل ضوءاً كاشفاً في الطريق إلى المستقبل.

كان لا يتعب من القراءة من أجل أن يعرف أكثر، وكان في بيته في عمارة جوهرة النيل في القاهرة، أو في مزرعته في قرية برقاش، قرب القناطر الخيرية، كما في بيته الصيفي سواء على شاطئ المعمورة أو في الغردقة، «مكتبات» عدة فيها النفيس من كتب التاريخ ومذكرات بعض من أسهموا في صنع البعض من محطاته أو تحولاته. كان حريصاً على تخطي ظواهر التطورات والأحداث ليغوص إلى العمق، إلى الأسباب والدوافع ليفهم النتائج وما ستؤدي إليه… من هنا كان حرصه على أن يتعرف إلى صنّاع الأحداث ليحاورهم مزوداً بقراءاته ولّادة الأسئلة والاستفسارات بحثاً عن يقين.

***

أفاد هيكل من قربه من القائد الراحل جمال عبد الناصر ومن إيمانه برسالة الصحافة، لتحويل «الأهرام» إلى أهم وأخطر مؤسسة صحفية ـ ثقافية، فيها مركز مهم للدراسات، ولديها القدرة والحق باستضافة كبار المفكرين وجنرالات الحرب العالمية الثانية، بغض النظر عن مدى الاتفاق والخلاف معهم. كما صار عدد يوم الجمعة من «الأهرام» مكتبة كاملة تغنى قارئها في ما يتجاوز السياسة إلى الثقافة، مسرحية وقصة ورواية، رسماً وشعراً، كأن يلتقي على صفحاتها كما في «طابق الخالدين» توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وصلاح عبد الصبور ولويس عوض والحسين فوزي إلخ وجمهرة من الكتاب الشباب.. ومن نافلة القول إنها خرّجت نخبة من الصحافيين المميزين.

***

لقد كان «الأستاذ» الرجل الذي يعرف كثيراً، والذي لم يهجر شوقه إلى المعرفة وفضوله المنهك لسماع التفاصيل. ولقد أتاح له «التقاعد الإجباري» من الصحافة أن يعود إلى هوايته الدائمة: السفر والقراءة والمزيد من المعرفة بأحوال الدنيا. فعرف بلاداً كثيرة في الغرب والشرق، وتعرّف إلى شخصيات لعبت أدواراً تاريخية، ودُعي إلى ترؤس مجلس التحرير في صحف عالمية تقديراً لمكانته.. ثم إنه عرف لبنان وفهمه جيداً من كمال جنبلاط إلى العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله إلى الرئيس الراحل رفيق الحريري إلى رجل الأعمال الذي اختفى في ظروف غامضة إميل البستاني وكثر لا مجال لتعدادهم هنا.

على أن علاقته الخاصة بالأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله كانت حميمة، وطالما جاء إلى بيروت خصيصاً للقائه، قبل الانتصار في أيار/مايو 2000 وبعده، وقبل الانتصار في حرب تموز/يوليو 2006 وبعدها…

وبين مصادر اعتزازي بصداقة «الأستاذ» انه كان يخص «السفير» بزيارة تمتد ساعات كلما جاء إلى بيروت.. ولطالما جلس إلى أسرة التحرير يستمع فيها إلى أسئلة الزملاء كبيرهم والصغير، وقد يصحح السؤال لكي يكتمل الجواب… وكانت أسرة «السفير» تتباهى بهذا الشرف: أنها التقت هيكل واستمعت إلى تحليلاته العميقة التي تختزن الأسرار وتتضمن فيضاً من الأخبار، فضلاً على رسمه الدقيق لملامح الشخصيات بحيث يمكنك أن تتعرف إليها ولو لم يسمها.

وكان بين ما يستوقفني، خلال زيارته الحولية، انه في الأخيرة منه قد خصه الأمين العام لـ «حزب الله» بجلستين متتاليتين، ثم دار بعدها على مجموع من القادة السياسيين شاملاً أهل اليمين ويمين اليمين ومن تبقى من أهل اليسار، فضلاً على مراعاة البروتوكول، وكـأنه ضيف رسمي من الدرجة الأولى… وحين سألته بفضول: وما لك بأمثال الرؤساء السابقين وبعض الشخصيات التي باتت خارج التاريخ؟ ابتسم وهو يجيب: للمقارنة بين ما كانوا يقررونه أو يتخذونه من مواقف في ماضيهم، وما يتحدثون به اليوم. إنها متعة أن ترى البعض اثنين وأحيانا ثلاثة بينما التاريخ بالكاد يذكره او يتذكره.

رحم الله «الأستاذ» الذي استحق أن يوصف ب «صحافى القرن» ومن حظنا – نحن تلامذته ومن عاش في عصره – أننا قد تعلمنا منه ما وسعنا الجهد والاجتهاد…

ولعل «الأستاذ» قد اختار ميعاد مغادرته بالدقة ذاتها التي كان يحدد فيها مواعيد لقاءاته وقراءاته وراحته في رحاب التفكير.

ولم تكن مصادفة انه اختار الغياب مع انتهاء عصر الصحافة، اقله كما عرفناها في زمنه، وكما لن يعرفها الآتون بعده وبعدنا.. فلقد انتهى عصر الكلمة المثقلة بالأفكار، شارحة الأخبار والأحداث بدلالاتها الفعلية التي يقبلها العقل والمنطق، وتفتح باب الاستنتاج المستند إلى التحليل البعيد عن الهوى حتى ناقض الرغبات واستعجال التغيير.

رحم الله هيكل… والصحافة العربية (المصدر: موقع طلال سلمان)

 

Print Friendly, PDF & Email
طلال سلمان

رئيس تحرير جريدة السفير

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "معاريف": إيران تقترب من "النووي" ونحن نخسر أميركا!