على الجانب الأوكراني من الحدود الروسية-الأوكرانية، بدأ الجيش الأوكراني، الخميس الماضي، في منطقة خاركيف مناورات مضادة للمناورات البيلاروسية-الروسية في منطقة بريست البيلاروسية. واللافت للإنتباه في المناورات الأوكرانية إستخدام نوعين من الأسلحة، هما صواريخ متطورة مضادة للدروع من طراز “جافلين” (Javelin) الأميركية وصواريخ “إن إل إي دبليو” (NLAW) البريطانية المضادة للدبابات ومسيرات “بيرقدار” التركية. هذان السلاحان، أي الصواريخ والمُسيرات، يُعوّل عليهما الغرب كثيراً في قلب المعادلات الميدانية في منطقة الدونباس بشرق أوكرانيا.
ولفهم أهمية ما تشكله المسيرات التركية في أي حرب مقبلة بين روسيا وأوكرانيا، يراهن السفير الأميركي السابق دنيس روس في مقال نشره موقع “ذا هيل” الأميركي في 28 كانون الثاني/يناير الماضي، على المسيرات التركية، لقلب ميزان المعركة في الشرق الأوكراني، ويدعو أميركا إلى النظر في ما يمكن أن تفعله من أجل مكافأة تركيا على خطوتها في تزويد كييف بهذه المسيرات.
بالنسبة إلى أوكرانيا، يعتبرها بوتين بمثابة مسألة وجودية، ويخاطر بحرب واسعة مع الغرب من أجل ضمان أن لا تنضم كييف إلى حلف شمال الأطلسي وتتحول شوكة في خاصرة روسيا. وتالياً، سيتحين الكرملين الفرصة للرد على تركيا إذا ما كان لمسيراتها من طراز “بيرقدار” دوراً رئيسياً في المعركة
وللمفارقة، يبدو أن الرجل الذي يخشى من إندلاع الحرب ولجوء أوكرانيا إلى إستخدام مسيرات “بيرقدار”، هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه. لذا نراه يكرر الدعوات إلى إستضافة قمة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ولهذه الغاية، زار أردوغان كييف، الأسبوع الماضي، لا بل ذهب أبعد من ذلك، حيث إتهم الغرب بتأجيج مناخ الحرب من طريق المواقف التي يطلقها.
وأكثر من مرة أبدى المسؤولون الروس عتبهم على أنقرة لتزويدها الجيش الأوكراني بالمسيرات، واعتبروا أن هذه الخطوة غير مفهومة. لكنهم أحجموا عن توجيه إنتقادات قاسية لتركيا في ما يتعلق بهذه المسألة وإكتفوا بالتلميح. ويعتبر أردوغان أن روسيا هي مُحتلة لمنطقة شبه جزيرة القرم، ويكرر على نحوٍ دائم حرصه على حقوق التتار، الذين يعتبرهم إمتداداً للعرق التركي في المنطقة. وفي أكثر من مناسبة، حرص على إبداء تأييده لوحدة الأراضي الأوكرانية، ولم يدع لعلاقاته الوثيقة مع موسكو، أن تأتي على حساب علاقاته مع كييف.
ومع ذلك، بالنسبة إلى روسيا تختلف أوكرانيا عن أذربيجان وعن ليبيا. ولن تبدي موسكو تسامحاً حيال أردوغان في حال تسنى لكييف كسب معركة الشرق الأوكراني، بفضل مسيرات “بيرقدار”، التي يعتبرها أردوغان اليوم فخر الصناعات التركية، وعبرها يشق طريقه إلى دول كثيرة في العالم، في وقت يحتاج فيه الإقتصاد التركي إلى العملة الصعبة.
وفي سوريا وأذربيجان وليبيا، إستطاعت موسكو أن تتعايش مع الدور التركي في هذه الدول. وتمكن بوتين من نسج علاقات شخصية مع أردوغان ونجح في إستمالته، وجعله يتخذ أحياناً يتبنى مواقف تتعارض مع الإستراتيجية الأميركية. خُذ مثلاً صفقة صواريخ أرض-جو المتطورة من طراز “إس-400” التي مضت فيها انقرة على رغم التهديدات الأميركية بفرض عقوبات عليها لأن نظام الصواريخ الروسي مصمم لإعتراض أحدث المقاتلات الأميركية “إف-35”. وفعلاً، علّقت واشنطن مشاركة تركيا في برنامج إنتاج هذا النوع من المقاتلات، رداً على الصفقة مع روسيا. ويقال أن أردوغان لن ينسى لبوتين أنه كان الزعيم الأجنبي الأول الذي إتصل به بعد المحاولة الإنقلابية في 15 تموز/ يوليو 2016.
لكن في كازاخستان، إستبعدت روسيا أي دور لأنقرة عندما أرسلت على جناح السرعة قوات التدخل السريع التابعة لمعاهدة الأمن الجماعي لإخماد الإحتجاجات على نظام الرئيس قاسم جومارت توكاييف. ولاذ أردوغان بالصمت حيال الإضطرابات في كازاخستان، بعدما رأى رسالة الحزم الروسية، علماً بأن الزعيم التركي يفاخر دائماً بأن كل دول آسيا الوسطى هي جزء من منظمة “الدول التركية”.
وإذا كان هذا الحال في كازاخستان، فكم بالحري بالنسبة إلى أوكرانيا التي يعتبرها بوتين بمثابة مسألة وجودية، ويخاطر بحرب واسعة مع الغرب من أجل ضمان أن لا تنضم كييف إلى حلف شمال الأطلسي وتتحول شوكة في خاصرة روسيا. وتالياً، سيتحين الكرملين الفرصة للرد على تركيا إذا ما كان لمسيراتها دوراً رئيسياً في المعركة.
ولئن أردوغان يستوعب هذه المخاطر، فهو يدرك تماماً أن تركيا ستكون من الدول الخاسرة، في حال نشوب الحرب، ولذلك، يحض على الحلول الديبلوماسية ولا يجاري الدول الأخرى الأعضاء في حلف شمال الأطلسي التي أرسلت قوات إلى بولندا ورومانيا أو دول البلطيق تحسباً لنشوب الحرب، ولم يهدد بالإنضمام إلى العقوبات الغربية، كإقفال خط أنابيب غاز السيل الجنوبي أو غيرها من الخطوات العقابية التي تلوّح بها الدول الغربية. بل على العكس، اعتبر أردوغان أن تهديد روسيا بالعقوبات وحشد القوات يخدم التصعيد وليس الحوار.
وفي ظل تعقيدات الأزمة الأوكرانية التي ترمي بثقلها على أكثر من بلد في العالم، لا تبدو تركيا بعيدة عن تأثيراتها. وتاريخياً، خاضت روسيا وتركيا أكثر من حرب. وكانت روسيا جزءاً من معاهدة سايكس-بيكو قبل أن تنسحب منها بفعل الثورة البلشفية وكشفها للمعاهدة. وكانت مضائق الدردنيل جزءاً من حصة روسيا في المعاهدة، بينما تقاسمت فرنسا وبريطانيا بلاد الشام.
يسير أردوغان الآن، على حبل مشدود بين الغرب وروسيا وهاجسه كيف يمكن أن يساهم في منع لإندلاع الحرب، على رغم أنه يعلم تماماً أن أوكرانيا اليوم هي في صلب لعبة الأمم الكبرى.