لا أشك للحظة واحدة فى صحة الرأى القائل بأن الرئيس فلاديمير بوتين الذى سعى بجهود بالغة وتكلفة باهظة عبر سنوات ليحصل على اعتراف حكام العالم وبوجه خاص حكام أوروبا وأمريكا، كل على حدة وكلهم معا، باستحقاقه مكانة لروسيا تليق بقدراتها العسكرية وتاريخها الإمبراطورى، حقق بفضل أزمة أوكرانيا والتهويل الأمريكى جانبا كبيرا من هدفه حين وقف الرأى العام العالمى شاهدا على مواكب الحكام الغربيين تطرق أبواب الكرملين ليسمعوا ما يريد الرئيس الروسى قوله وليسمعوه نصيبهم من رد الفعل الغربى كما صاغته الولايات المتحدة. حرص البعض منهم على أن يتدثروا بغطاء القوة وغرورها. تنافسوا على إطلاق أشد التهديدات فى محاولة لإخفاء حقيقة أمورهم والأوضاع فى مجتمعاتهم وحال الشروخ القديمة والناشئة داخل الحلف الأطلسى وداخل الاتحاد الأوروبى وانحدار مكانة الدولة القائد فى المعسكر الغربى.
***
أحد التيارات فى مجتمع مفكرى ومنظرى العلاقات الدولية يعتقد أن الأزمة الراهنة حول أوكرانيا، مفتعلة كانت أم ثمرة تلاقح عدد من التطورات الدولية، كشفت عن قرب بزوغ نظام دولى جديد. يستند هؤلاء فى اعتقادهم أو ظنونهم إلى شهادة التاريخ. يشهد التاريخ أن الأزمة كادت تكون شرطا لازما لإعلان نهاية نظام دولى وبزوغ آخر. وفى اعتقادى الشخصى أن هذا الشرط إن صح وجوده فى النظام الدولى فقد ينطبق أيضا على تطور النظم الإقليمية، أو على الأقل على تطور النظام الذى نعرفه أكثر من غيره وهو النظام الإقليمى العربى. نشأ النظام العربى، كما النظام الدولى فى خضم أزمة حادة، وهى الحرب العالمية الثانية. تبلور وتجسد بعد نهايتها مباشرة ولكن الفكرة نبتت وتطورت خلال معاناة الأطراف العظمى وبعض الأطراف العربية وتوقعاتها للمستقبل نتيجة قراءتها للتطورات والتغيرات فى ميزان القوة الدولية والإقليمية. أضرب مثلا واحدا. لا أظن أن سياسيا فى الدول العربية المستقلة نسبيا وغير المستقلة لم تخطر على باله فى أواسط الحرب العالمية الثانية أن نهاية الإمبراطوريتين الإنجليزية والفرنسية قد اقتربت، وبالتالى سوف تفرض نهاية الحرب أوضاعا جديدة فى العلاقات الإقليمية بالخارج والعلاقات فيما بين الدول العربية. لم يتعود السياسيون العرب قبل الحرب على التعامل باستقلالية كافية مع العالم الخارجى ومع بعضهم البعض، من ناحية أخرى توجست بريطانيا العجوز خطرا يهدد مصالحها فى المنطقة فتدخلت خلال الحرب لتتبنى توجها عربيا بدأ بتجمعات من المثقفين وقادة فكر تسعى لعقد مؤتمرات عربية شاملة. نشأ التوجه فى حقيقته خلال أزمة نهاية الإمبراطورية العثمانية وجدد وبقوة نشاطه خلال الحرب العالمية الثانية.
تسريع عملية الاندماج فى نظام شرق أوسطى لا نكون فيه أطرافا منفردة ومعتمدة ومنسلخة عن عروبتها وعقائدها بينما الأطراف الأخرى فى معادلة الشرق الأوسط الجديد ملتزمة وربما بتعصب بمواريثها وخصوصيتها الثقافية. أزعم أن هذا البديل الجارى تجربته بالفعل لن يكون بمنأى عن العواصف والمخاطر المؤلمة. ومع ذلك هو البديل الأنسب إذا التزم العرب به جماعة قومية تؤمن بالتعددية العرقية والدينية فى داخلها وخارجها
أسفرت الحرب العالمية الثانية عن اعتراف بنشأة نظام إقليمى عربى، وأسفرت نشأة النظام الدولى الجديد عن منظومة قواعد جديدة للعمل الدولى وعن القطبية الثنائية والأمم المتحدة وبخاصة مجلس الأمن هياكل وممارسات أسفرت جميعها عن تجمع لدول فيما سمى بالعالم الثالث اختارت عدم الانحياز أسلوبا ونظاما يحميها من تجاوزات القطبية الثنائية. لم يطل عهد عدم الانحياز الذى ارتبط تاريخيا ومنطقيا بنظام القطبين. انفرط نظام القطبين ومع انفراطه وصعود القطبية الأحادية انفرط عقد منظومة الكتلة الثالثة وتبعثرت الآمال والتوجهات بحثا عن بديل ممكن لحالة وتنظيم عدم الانحياز ولم يوجد البديل مما أشاع صفة الفوضى على الحالة الدولية. وفى ظل هذه الفوضى أو نتيجة لها أو بسببها نشبت أزمة أوكرانيا لتكشف عن صعوبات جمة تكتنف عملية بزوغ نظام عالمى جديد. بعض هذه الصعوبات كاد فى الأيام الأخيرة يلامس صفة الحرب العالمية، وراح يطرح أسئلة سابقة على أوانها وبدائل صعب التكهن بصلاحيتها.
***
بالنسبة لنا، نحن العرب أصحاب نظام إقليمى راح منذ زمن يتخفف تدريجيا من أعبائه ومسئولياته ويتحرر من ماضيه ويقترب من نهاية أجله، وضعنا الراهن لا يختلف كثيرا عن أوضاع بقية شعوب العالم الثالث. بل وبمبالغة معقولة دعونا نعترف أن جميع الشعوب تعيش مرحلة دقيقة استدعت فى غالب الحالات استخدام قوة ضبط أو قمع رهيبة أحيانا ومرتبكة أو مترددة فى أحيان أخرى. نحن العرب نختلف قليلا. فنظامنا يجمع، أو لعلنا نزعم بأنه يجمع إلى جانب إقليميته صفة القومية الواحدة. كلاهما الآن محل إعادة نظر. أزمة النظام العربى تبدو لى أكثر تعقيدا من أزمات الاتحاد الإفريقى والآسيان ومنظمة الوحدة الأمريكية وبالتأكيد أقوى حدة من حالة الاتحاد الأوروبى. إن السؤال الذى نجتمع حوله مع غيرنا هو التالى: إن صح أن العالم صار بالفعل على الطريق الشاق والعنيف نحو تشكيل نظام عالمى جديد ثلاثى الأقطاب، قطب أمريكى سوف يبذل أقصى الجهد والثمن للحيلولة دون استعادة روسيا مكانها كقطب ودون اكتمال عملية تنصيب الصين قطبا ثانيا وإحباط حلمها أن تكون القطب الأول، إن صح هذا التوقع، فأى موقع سنختار أن نكون فيه أو نكلف به وبعدم تجاوزه؟.
تبقى البدائل أمامنا محدودة:
أولا: أن نشكل مع الآخرين كتلة رابعة وهو الأمر المستحيل.
ثانيا: أن نلقى بأنفسنا فى أحضان قطب من الثلاثة وننتمى إليه وحده دون غيره، وبيننا من يجرب بالفعل هذا البديل، وأظنه بديلا محفوفا بمخاطر جمة خصوصا فى المرحلة الراهنة، مرحلة أزمات تشكيل النظام الدولى الجديد واختبارات القوة. أظنه أيضا بديلا مستحيلا على الأمد الأطول لأسباب ثقافية وحضارية ودينية.
ثالثا: الانفصال التام والعودة إلى أفكار غير مناسبة للعصر من نوع التنمية المستقلة ورفض التبعية، بمعنى آخر تبنى التجربة الصينية فى مراحلها المبكرة، وهو أيضا أمر يكاد يكون مستحيلا فى ظروف عولمة تأبى أن تنصرف.
رابعا: ممارسة أساليب جربتها بنجاح نسبى ولكن لأمد غير قصير الإمبراطورية العثمانية وورثتها لبعض خلفائها، ومنها أسلوب اللعب على الحبلين. يكاد الأسلوب يكون صعبا إن لم يكن مستحيلا فالحبال صارت ثلاثة.
خامسا: تسريع عملية الاندماج فى نظام شرق أوسطى لا نكون فيه أطرافا منفردة ومعتمدة ومنسلخة عن عروبتها وعقائدها بينما الأطراف الأخرى فى معادلة الشرق الأوسط الجديد ملتزمة وربما بتعصب بمواريثها وخصوصيتها الثقافية. أزعم أن هذا البديل الجارى تجربته بالفعل لن يكون بمنأى عن العواصف والمخاطر المؤلمة. ومع ذلك هو البديل الأنسب إذا التزم العرب به جماعة قومية تؤمن بالتعددية العرقية والدينية فى داخلها وخارجها. هو البديل الأنسب فى غياب الجامعة العربية بيتا كريما وأصيلا ومتوفرة فيه فرص الرقى والتحضر والحماية والعمل الجماعى المستدام فى كافة الميادين. ولكن الجامعة كالنظام الإقليمى صارت مستهدفة وتصرفاتهما معا تكشف عن حال استسلام لظروف تصوراها قاهرة ولقناعات مزدهرة بأنهما، النظام الإقليمى والجامعة العربية، فقدا صلاحيتهما.
***
لا شىء مؤكدا فى أوقات الأزمات. ما فات من أحداث خلال الأسابيع الماضية وما تحقق على أرض الواقع من نتائج وما استقر عليه الرأى الغالب تكفى جميعها لتغليب أمور بعينها على اجتهادات أخرى. نجحت الأزمة الأوكرانية، وبخاصة التصعيد المتوالى والمتبادل بين أمريكا وروسيا، فى تنبيه العالم إلى رغبة روسيا، ونجاحها، فى استعادة مكانة لائقة فى النظام الدولى الجديد، مكانة لا تتعارض مع موقع الصين فيه. نجحت الأزمة أيضا فى أنها بثت دخانا كثيفا فى سماوات الشرق الأوسط سهلت تسريع الإجراءات المخطط لها جيدا للانتقال من نظام عربى جرى تثبيت هلاكه وانتفاء فائدته إلى نظام شرق أوسطى شروطه المعلنة والمعتم عليها على حد سواء تجعله غير مجدٍ، إن لم يكن مؤذيا، لأغلبيته العربية.