“صداقتنا صلبة كالصخر”، هذ ما قاله وزير الخارجية الصيني وانغ يي، أمس، مؤكداً “أن آفاق التعاون مع روسيا هائلة”، ومذكراً بما كان أعلنه الرئيس الصيني شي جين بينغ لدى استقباله نظيره الروسي فلاديمير بوتين أوائل شباط/ فبراير الماضي أن صداقة البلدين “من دون حدود”. تصريحات كانت منتظرة لمعرفة الموقف الرسمي الصيني بصراحة.
لم يتردد وزير خارجية الصين في قوله إن الأزمة معقدة وليست وليدة اليوم، في إشارة ضمنية الى رفض موسكو وبكين معاً مشروع انضمام أوكرانيا الى حلف الشمال الأطلسي (الناتو). كما تناول الرغبة الأميركية (المرفوضة أيضاً) في تشكيل ما يشبه “الناتو” في شرق آسيا والباسيفيك والمخصص لمواجهة بكين وطموحاتها في محيطها الحيوي.
الموقفان الصيني والروسي متفقان لمواجهة مشاريع الهيمنة الأميركية التي وضعت بكين وموسكو في رأس أولوياتها الاستراتيجية منذ وصول جو بايدن الى البيت الأبيض. غير أن الإتفاق يتحول حرجاً بمجرد اعلان الوزير الصيني رغبة بلاده بلعب دور الوسيط في الحرب الناشئة منعاً لاستفحالها وفرضها خيارات صعبة على الجميع، مع علمه المسبق أن بوتين لن يقبل أقل من هزيمة أوكرانيا واعلان حيادها والاعتراف بانفصال مقاطعتين عنها وقبولها ضم روسيا لشبه جزيرة القرم.
روسيا بحاجة للصين اقتصادياً، والعكس ليس صحيحاً بالضرورة . فتجارة الصين مع الغرب تساوي 20 ضعف تجارتها مع روسيا ، فهل “ستهزأ” بغضب الغرب وعقوباته المحتملة وهو شريكها التجاري الأول بلا منازع وبما لا يقاس مع غيره؟
الموقف الصيني لم يثلج كفايةً قلب بوتين الذي يواجه أقصى العقوبات الغربية، ويعوّل على جاره العملاق للالتفاف على تلك العقوبات، فالوزير الصيني بقي في الحديث السياسي من دون أي ذكر للشأن الاقتصادي؟
تجارياً، في الوقت الذي كانت فيه الصادرات الصينية بلا نمو في الشهرين الأولين من السنة، ونامية بنسبة 16% فقط على أساساً سنوي مقابل 60% في السنة السابقة، فانها مع روسيا سجلت نمواً قياسياً بنسبة زادت على 41%.
الصين هي الشريك التجاري الاول لروسيا منذ 12 عاماً، أي انها أكبر مصدر لها. لكنها شراكة غير متكافئة، فروسيا الشريك رقم 18 بالنسبة للصين المصدرة بكيات هائلة الى دول الغرب.
استوردت الصين السنة الماضية من جارتها بما قيمته 79 مليار دولار تشكل 3% من اجمالي استيرادها، اما صادرات الصين الى روسيا فبلغ نحو 67 مليار دولار تشكل 2% فقط من الاجمالي.
النفط وبعض المواد الأولية والأخشاب هي الأساس في الاستيراد الصيني من روسيا، والصادرات النفطية الروسية الى جارتها 16% من اجمالي حاجتها بمتوسط 1.6 مليون برميل يومياً.
بالنسبة للغاز الروسي المصدر الى الصين بالكاد يساوي 5% من حاجة الأخيرة علماً بأن النسبة تزيد تباعاً. ولذلك وقع الطرفان الشهر الماضي اتفاقاً جديداً بواقع 10 مليارات متر مكعب من الغاز، وللبلدين عدة مشاريع أنابيب مشتركة منها واحد صغير القدرة بدأ العمل به منذ 2019.
يذكر ان روسيا هي بين أكبر المستثمرين في سوق السندات الصينية بقيمة تقدر بنحو 140 مليار دولار. وحتى تاريخه، فان 17% فقط من المبادلات تتم باليوان الصيني، والنسبة قد تزيد للخروج من رادار العقوبات الغربية على روسيا التي ترغب بقوة في زيادة التعاملات المالية والمبادلات التجارية مع الصين.
تتطور العلاقات بين البلدين بسرعة منذ ضم شبه جزيرة القرم والعقوبات التي نصبت ضد موسكو آنذاك. وبفعل موقعها التجاري العالمي المتفوق جداً، تكتنز بكين احتياطات عملات اجنبية هائلة تحديداً من الدولار واليورو، وهي الوحيدة القادرة (نظرياً) على مساعدة روسيا ونجدتها في هذا الظرف الدقيق والخطير. فهل بكين جاهزة لاجراءات عملية على هذا الصعيد؟
تتعين الإشارة الى أن روسيا بحاجة للصين اقتصادياً، والعكس ليس صحيحاً بالضرورة. فتجارة الصين مع الغرب تساوي 20 ضعف تجارتها مع روسيا ، فهل “ستهزأ” بغضب الغرب وعقوباته المحتملة بقوة عليها وهو شريكها التجاري الأول بلا منازع وبما لا يقاس مع غيره؟
بكين في توازن دقيق بين السياسي الاستراتيجي وبين الاقتصادي المصلحي. فبعد 2014 قبلت الصين الدفع باليوان بدلا من الدولار في بعض تجارتها مع روسيا. وغداة اعلان الحرب بادرت الى تخفيف شروط استيراد القمح من روسيا، ما ارسل اشارة تطمين ما الى موسكو من دون ان يعني ذلك المساعدة بأي ثمن. فالدول الغربية سارعت ومنذ الأيام الأولى للحرب الى التحذير من عواقب اي التفاف على العقوبات.
الصين تحوّلت في السنوات الماضية الى شريك أوكرانيا التجاري الاول وحلت بذلك محل روسيا. وتعتمد ايضا على القمح الاوكراني الذي استوردت منه العام الماضي ما لا يقل عن 7 ملايين طن
يذكر أن لدى الصين نظامها الخاص للدفع بين البنوك وتعاملاتها باليوان، وهو نظام بمقدوره الحلول ـ نظرياً ـ محل نظام “سويفت” الدولي الذي طردت معظم بنوك روسيا وبنكها المركزي منه. فهل تغامر البنوك الصينية وتشرع في تعاملات مع نظيرتها الروسية باستخدام هذا النظام؟ ليس الأمر بهذه البساطة، فالعقوبات الاميركية بالمرصاد، ولا ترغب الشركات الصينية بتاتاً خسارة أسواق الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد الأزوروبي وبريطانيا واستراليا وكندا.. بأي حال من الاحوال. فالتجارة مع تلك الأسواق تبلغ 1200 مليار دولار (1.2 ترليون) سنوياً مقابل 70 الى 80 مليار دولار فقط مع روسيا.
وكان واضحاً في الايام القليلة التي أعقبت إندلاع الحرب الروسية ـ الأوكرانية حذر البنوك الصينية من خلال تقاعسها الشديد عن فتح اعتمادات بالدولار لشراء مواد أولية من روسيا. أما البنك الآسيوي للاستثمار والبنى التحتية ومقره بكين، وهو بالنسبة للصين أشبه بالبنك الدولى لبقية العالم، فقد علق الخميس الماضي نشاطه مع روسيا وبيلاروسيا. يبقى أن الممكن هو غض الطرف عن بنوك صغيرة أو غير تجارية لتمرير اعتمادات ومعاملات تجارية لروسيا باليوان وليس بالدولار او اليورو، كما يمكن ذلك عبر البنك المركزي الصيني اذا توفر قرار سيادي مركزي من القيادة الصينية الشيوعية.
بالمقابل، اوكرانيا ليست قليلة الأهمية بالنسبة للصين. تربطها بها مصالح استراتيجية ابرزها امتدادات ما يسمى بـ”طريق الحرير” الذي يمر في الاراضي الاوكرانية والمعرضة مشاريعه الآن للتوقف. كما ان الصين تحوّلت في السنوات الماضية الى شريك أوكرانيا التجاري الاول وحلت بذلك محل روسيا. وتعتمد ايضا على القمح الاوكراني الذي استوردت منه العام الماضي ما لا يقل عن 7 ملايين طن.
تمشي الصين الآن على خيط رفيع، وكم تتمنى انتهاء هذه الحرب سريعاً، وهي تُكررعرض وساطتها يومياً في الحاح غريب لوضع حد ليس للحرب بل لحيرتها المضنية بين الاستراتيجي الوجودي والاقتصادي المصلحي.