هي قفزة كبيرة للرئيس فلاديمير بوتين في التاريخ. قفزة من نظام دولي متهالك الى نظام دولي جديد.. ومجهول. العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا مثل رصاصة انطلقت من القرن العشرين لتستقر في قلب القرن الحادي والعشرين. هي لحظة تاريخية بكل معنى الكلمة.
يعرف بوتين، وهو رجل مخضرم عاصر القرن الماضي ويحاول ترك بصمته في القرن الجديد، أن الحرب قرار والنصر إرادة. يعرف جيداً أن التاريخ دونه زمن يقدّر من يدخله ومن يلفظه. بات واضحاً استدعاء بوتين تاريخ روسيا القيصرية والسوفيتية من اوسع أبوابه في كلمته التي وجهها الى العالم عند بدء العملية العسكرية. هو زمن الخيارات الاستراتيجية، وحتماً لا عودة إلى الوراء، بحساباته المعقدة.
فاضت الكتابات التي تبحث عن المبررات والاسباب التي دفعت بوتين للقفز من نظام إلى نظام. من روسيا إلى أوكرانيا. لا مبالغة في القول ان ما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا ليس كما قبله. هو زمن جديد.. فالعملية العسكرية الروسية لا تلغي اتفاقيتي مينسك (2014 ـ 2015) فقط، بل هي تنسف اتفاقية يالطا (1945) التي على اساسها أنشئ النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. نسفُ اتفاقية يالطا يستدعي البحث عن مصير النظام العالمي الفاقد للتوازن منذ ثلاثة عقود من الزمن لمصلحة أحادية قطبية. هي معركة بين روسيا من جهة وأميركا ومعها دول الناتو من جهة أخرى. أوكرانيا مجرد ساحة للقتال والموت والدمار. في ساحة الاقتصاد، تتشابك خطوط الطاقة ومن بعدها النفوذ. ثمة مصالح متشابكة ومعقدة اصلاً. تداعيات الحرب الاوكرانية تتخطى حدود الامن الاوروبي والروسي مجتمعين. إنتفت الحدود بين أحواض البلطيق والأسود والمتوسط والاطلسي. في الامن الغذائي تعد اوكرانيا من أكبر مصدري القمح في العالم. تعطل الامدادات سيؤدي الى ارتفاع اسعار المواد الغذائية المرتفعة اساساً جراء التضخم العالمي.
بوتين يقف على ابواب كييف صحيح، لكنه يقف مستندا إلى ضعف امريكي كذلك. يا ترى هل تصنع الازمة الاوكرانية انفراجا عالميا طال انتظاره؟ ثم هل تملأ الازمة فراغا في القوة ممتدا من جبال افغانستان وحتى سواحل البحر الابيض المتوسط؟
للمرة الأولى منذ العام ١٩٩١ يتمخض صراع جديد ـ قديم. لا انتمى الى جيل الحرب الباردة. جل ما اعرفه عن تلك الحقبة السياسية هو مجرد قراءات وقصص. نحن جيل احداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول. لم نكن نعرف المدى الاستراتيجي لموسكو وان اوروبا الشرقية هي الخاصرة الحيوية لروسيا. غير ان احداث اوكرانيا الحالية اعادت تشكيل عقارب التجربة الماضية. نحن جيل حرب افغانستان وحرب العراق وحروب الربيع العربي وما بينها من ثورات وثورات مضادة وحروب أهلية مستمرة. غير أن الحرب الأفغانية او “المصيدة الاستراتيجية”، كما سماها زبيغنيو بريجنسكي هي التي اسقطت الاتحاد السوفيتي ومعه النظام العالمي. مصيدة شكلت نقطة فاصلة في مسار التاريخ..
الرئيس جو بايدن هو الوحيد الذي يملك ولا يقدر ولا يقرر. يعرف وهو الذي عايش الحرب الباردة ان الاتحاد السوفيتي لم يسقط من الخارج. سقط من الداخل. بعد ان وقع في الفخ الاستراتيجي. “هناك فرصة” قالها بريجنسكي ومشى. لو كان على قيد الحياة لربما كان سيعترف ان الفرصة قد انتهت صلاحيتها. هو من اعتبر ان توسيع دائرة الصراع في الشرق الاوسط من شأنه ان يسرّع عملية انتهاء قيادة امريكا للعالم، مشيراً إلى أن كتب التاريخ ستتذكر امريكا بانها أسرع امبراطورية تخسر موقعها في قمة الهرم الدولي. عشرون عاما كانت كافية لمزاحمة أمريكا في قمة الهرم الدولي. الإمبراطورية الرومانية أخذت أكثر من ثلاثمائة عام لتسقط. الإمبراطورية العثمانية أخذت أكثر من مائتي عام. أما الإمبراطورية الإنجليزية فأخذت أكثر من مائة عام لتغيب عنها الشمس كباقي الدول.
مؤسف مشهد المجتمع الدولي. يراقب لعبة حافة الهاوية بلا حول ولا قوة. كل المؤسسات الدولية المنبثقة من رحم النظام الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية تقف عاجزة امام الحدث الأوكراني. الامم المتحدة تقف على أرجل من ورق. الناتو يقف على اعصابه. المانيا تبحث عن دور جديد في قيادة أوروبا ومنافسة روسيا، غير أن موقعها الجغرافي لا يسمح بالمناورة. باقي دول اوروبا محتارة. أفضل ما عند الغرب رئيس فرنسي يبحث عن دور أكبر منه ومن كرسي جلس عليه شارل ديغول يوما ما. اما بريطانيا الخارجة من حيرة الانضمام الى القارة العجوز فإن رئيس حكومتها بوريس جونسون يبحث في قاموس لغته عن مفردات تعيد قليلا من ماء الوجه. زمن خطابات تشرشل قد ولى. أوروبا تتمسك بمقولة أشهر الدبلوماسيين السوفييت أندريه غروميكو الذي قال في معرض وصف القوة السوفييتية “صافح بيد واحمل الحجر باليد الأخرى”.
لكن عقارب الساعة الاستراتيجية لا تعود. وما اخذ بالهزيمة لا يسترد بالتفاوض. حين استلمت واشنطن قيادة كوكب الارض اقرت موسكو بالهزيمة. اليوم الرئيس بوتين يقول جاء دوركم لتقروا ان روسيا لم تعد مهزومة. بوتين يقف على ابواب كييف صحيح، لكنه يقف مستندا إلى ضعف امريكي كذلك. يا ترى هل تصنع الازمة الاوكرانية انفراجا عالميا طال انتظاره؟ ثم هل تملأ الازمة فراغا في القوة ممتدا من جبال افغانستان وحتى سواحل البحر الابيض المتوسط؟ رب قائل ان مرحلة اللا حرب واللا سلم قد طالت. ثم كيف لتوازن دولي ان يخرج من رحم التردد؟
لا يمكن التكهن بمصير مستقبل النظام الدولي من دون فحص حدود القوة الأمريكية. مُحدداتها. مرُكباتُها. مصادر قوتها.. بالمقابل، لا بد من تفحص قدرة الصين وروسيا على مواجهة “الإمبراطورية”. هل يستطيعان إمتلاك مطبعة جديدة للعملة تخرجهما ومعهما كل من يقول لا من المدار الأمريكي؟
القوة وحدها تحسم الصراع على النظام الدولي المزمع ولادته، سواء بالتوازن أو بالهيمنة. قوانين الطبيعة تفرض نفسها على الدول. حتى كتابة هذه السطور المعركة لم تحسم بعد. لكن روسيا لم تعد مهزومة. وأمريكا لم تعد منتصرة. وهذا تبدل كبير في الميزان الاستراتيجي. صحيح أن لا قوة تطغى على القوة الأمريكية بفرعيها الصلب والناعم في يومنا هذا. غير أنها أصبحت قوة تأثير لا قوة تغيير. وما العقوبات الاقتصادية المتعددة إلا خير دليل على ذلك. أيضا ما نشاهده من مناكفات روسية ومنافسة صينية لا يحسم الجدل الدائر عن مصير القوة الأمريكية. القوة الأمريكية مرهقة ومتعبة من الاستنزاف الذي خاضته جراء جروحها في أفغانستان والعراق. جروح التهبت على مر الزمن بعوامل التاريخ والجغرافيا التي لا ترحم. لكنها تبقى قوة عظمى. والصين قوة صاعدة. أما روسيا فهي قوة مناكفة طالما لم تحسم نفوذها في مدارها الأسيوي. أقله باتت تملك حق الفيتو.
مرة جديدة تفرض الجغرافيا أحكامها. انقرة لابد أن تتخذ موقفا من الحدث الروسي ـ الأوكراني. هي ضمن الناتو ولكن ليس ضمن اليورو. هناك قاعدة روسية في سوريا جنوبا وعسكر روسي في وضعية قتالية وهجومية في الشمال. موقع الاناضول في الخريطة السياسة تحدده الأيام المقبلة. ومعه جزء من المشرق العربي. دول الخليج العربي ومع بوادر الاتفاق النووي الايراني لا بد من احياء مجلس التعاون الخليجي ضمن دائرة الغرب. والعمل على دفع ارتدادات الصراع الدولي عن حدوده. أما مصر التي تملك موقعا وقدرة على لعب دور ما هل تتحرك؟ اسرائيل محرجة وفي موقع غير مريح استراتيجيا. تحتاج الى الحرب وتخشاها. دولة شخصيتها توسعية تجد نفسها محاصرة بخطوط حمراء تخشى اختراقها. الناتو وامريكا لم يساعدا اوكرانيا، فهل يساعدان تل أبيب؟ بقي لبنان والعراق وكلاهما غربي الموقع وكذب المنجمون ولو صدقوا.
لا يمكن التكهن بمصير مستقبل النظام الدولي من دون فحص حدود القوة الأمريكية. مُحدداتها. مرُكباتُها. مصادر قوتها.. بالمقابل، لا بد من تفحص قدرة الصين وروسيا على مواجهة “الإمبراطورية”. هل يستطيعان إمتلاك مطبعة جديدة للعملة تخرجهما ومعهما كل من يقول لا من المدار الأمريكي؟ في النهاية، لا بد من لغة مصالح قابلة لأن تتحول طاقة قتدرة على صنع نظام دولي جديد. إنه زمن الخيارات الإستراتيجية. لننتظر ونرَ.
(*) بالتزامن مع “الشروق”