القضاء اللبناني ينتفض ضد السلطة السياسية.. ماذا بعد؟

بقعة ضوء في نفق الظلام اللبناني الطويل أن تتمرد السلطة القضائية في لبنان على امعان السلطة السياسية في التدخل بشؤونها وكل تفاصيل عملها وبنيانها، إلا أن الاهم هو ان يتمسك القضاء بموقفه ويطوّره الى أن يصبح سداً معنوياً وعملياً في وجه اي تدخل أو تطويع.

شكّل إمتناع رئيس مجلس القضاء الاعلى القاضي سهيل عبود والنائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات ورئيس هيئة التفتيش القضائي القاضي بركان سعد، عن حضور جلسة مجلس الوزراء الاستثنائية التي خصصت اليوم (السبت) لبحث موضوع القضاء في ضوء القرارات التي صدرت بحق عدد من اصحاب المصارف، أول اعتراض علني وعملي في وجه المنظومة السياسية، بعدما لمس رؤساء السلطة القضائية ان دائرة الاعتراض تتمدد في الجسم القضائي مثل بقعة الزيت، وان امكانية السيطرة على “الغضب القضائي الكامن” امر لا تنفع معه سياسة “العصا والجزرة” التي اعتمدت منذ تسعينيات القرن الماضي وحوّلت القضاء الى تابع وخاضع لمشيئة اركان المنظومة الحاكمة التي لها القرار الأول بالتعيين والتشكيل.

اكثر من يتعرض للضغوطات، حسب المعلومات، هو النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، على خلفية عدم تصديه للقضاة الذين يتبعون لنيابته وكونه السلطة الاعلى، لا بل ثمة محاولة مكشوفة لابتزازه من خلال التلميح الذي بلغ منزلة التهديد بازاحته من موقعه، ولكن يبدو ان العين الدولية صارت جزءاً من منظومة حماية عويدات بعدما تجاوب مع كل الطلبات التي وردت من دول أوروبية لها علاقة بملف حاكمية مصرف لبنان وملفات قضائية اخرى.

الجلسة الاستثنائية لمجلس الوزراء كان يفترض ان تعقد منذ زمن، وليس لبحث موضوع القضاء، انما لوضع حد لاهانة المواطن اللبناني على ابواب المصارف والمستشفيات وامام محطات الوقود(…) وفي كل مؤسسات ودوائر الدولة

خلال الحرب العالمية الثانية، وعندما كانت لندن تقصف بالقنابل والصواريخ النازية، يروى أن تشرشل سأل معاونيه عن وضع القضاء، فأُجيب بأنه ما زال يعمل على أكمل وجه، عندئذ اطمأن تشرشل وقال إن بريطانيا بألف خير. ما كان يعنيه رئيس الوزراء البريطاني أن القضاء هو الحجر ـ المفتاح في عقد المؤسسات، إن هو سقط، سقطت معه جميع المؤسسات، وانهارت الدولة بكاملها. والقضاء هو جميع المؤسسات التي تفصل في القضايا الخلافية وتصدر الاحكام، وتحدّد أيضاً صحة أو عدم صحة التشريع في حال الطعن به.

لقد تناولت الشائعات القضاء في مختلف مواقعه، متهمة إياه بالفساد وعدم الفعالية، وبالتبعية للسلطات السياسية التي ألغت استقلاليته وفرضت على قسم من القضاة ضغوطاً جعلتهم ينحرفون عن السلوك القويم، ويبتعدون عن الأداء الصحيح، وينسون أن عليهم إحقاق الحق في المقاضاة بين الناس. وعندما تتكاثر الشائعات وتتكرّر، تصبح يقيناً في ذهن الناس، وتشمل الصالح والطالح معاً، وتقتل الحس النقدي عند الشعب، فيحكم على الجميع بالفساد. وهذا أسوأ ما يصاب به مجتمع، لأنه يؤدّي الى فقدان الثقة بين المؤسسات والشعب، وأسوأ الحروب التي قد تخاض على امرئٍ هي تلك التي تسعى لتدمير سمعته، لذلك على القاضي التنبّه الى أنه ينتمي لمجتمع له سلوكه الخاص، وأيضاً له عاداته وتقاليده، وأن يبتعد عن أي تصرف قد يسهّل ضرب سمعته؛ فسمعة القضاء هي من سمعة القضاة.

الامر يحتاج الى جرأة، وفي زمن تحلل الدولة، فان اوان هكذا جرأة قد آن، فلتذهب السلطة السياسية بالتغيير الذي تتشدق به الى جعل القضاء سلطة منتخبة فتصبح حكماً سلطة مستقلة مع استقلالٍ إداريٍ، وهكذا يفصل فعلياً بين السلطات مع وضع التشريعات اللازمة لخلق التوازن في ما بينها. وهذا الطرح قد يقابل من الممعنين في تعطيل القضاء بالقول “ان هذا التغيير يتطلب وقتاً، ودونه صعوبات”. والرد على هؤلاء هو أن أي تشريع أو تنظيم لا قيمة لهما، ولا يضمنا أي عدالة، إن لم يتمتّع القَيّم على تطبيقهما بصفات مميزة تحصّنه أخلاقياً، وبكفاءة واستقلالية، وبضميرٍ نيّر يذكّره دائماً بأن واجبه هو إحقاق الحق، ويمنحه المناعة ضد السقوط بالخوف أو بالإغراء.

لان القضاء السليم يقوم على الاستقلالية والنزاهة والكفاءة، تبقى الحاجة الى تعديل الكثير من القوانين الإجرائية غير المفيدة، وما اكثرها. وخصوصاً تلك التي تطيل المهل بدون حاجة، فتتكدّس الملفات على الطاولات وفي الخزائن. وبمثل هذه التعديلات يُقتصد الوقت وتُضمن فعالية أفضل، فلا يتأخر البت في الدعاوى؛ فالمواطن لا يستطيع أن يفهم كيف لبعض القضايا أن تأخذ سنوات حتى تصدر أحكام القضاء فيها، فالعدالة المتأخرة ليست بعدالة، واليوم أكثر من اي وقت مضى آن الأوان للخروج من هذه المعادلة.

انه تطور مهم ان يتمكن القضاء في لبنان ولو مرحليا، من نقل الصراع من داخل الجسم القضائي وبين مكوناته الى مواجهة مع السلطة السياسية لرفع يدها عن السلطة القضائية وتحريرها من احتلال سياسي استمر لثلاثة عقود من الزمن

موقف رؤساء السلطة القضائية بالامتناع عن حضور جلسة مجلس الوزراء والذي هو عمليا بمثابة الاستدعاء، هو في جانب منه تأكيد على مسؤولية القضاء في نهوض الاقتصاد الوطني، إذ لا يقوم اقتصاد مزدهر في بلد يتخلّف فيه القضاء عن القيام بواجبه، ولا يحفظ حقوق المودعين والمستثمرين، أو يسمح لعامل الوقت أن يضيّعها. لقد جرت العادة أن من يريد الاستثمار في لبنان يبحث دائماً عن غطاء سياسي قبل الشروع بمشروعه، بينما الوضع السليم يفرض أن يكون القضاء هو الغطاء، وهو صمام الأمان.

إقرأ على موقع 180  ماكرون ـ بومبيو: نعم لإستقرار لبنان، لا لهيمنة إيران، لا لتمدد تركيا

يُعتبر الدستور اللبناني هو النص الأساسي الذي يحدد عمل النظام القضائي اللبناني، وتكرّس المادة 20 منه استقلال السلطة القضائية اللازمة لإحقاق الحق. إنّ أحكام الدستور اللبناني تعكس بشكل عام أحكام الصكوك الدولية ذات الصلة، خاصة المبدأ الأوّل من المبادئ الأساسية المتعلقة باستقلال القضاء حيث جاء فيه أنّ “الدولة تضمن استقلال القضاء الذي ينبغي النص عنه في الدستور أو التشريع الوطني (…)”. خاصة أن الفقرة الثانية من مقدمة الدستور تنص على أنّ لبنان هو عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم بمواثيقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وتنص الفقرة التالية على أنّ لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة. أما الفقرة الخامسة من المقدمة ذاتها فتنص على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها. وبذلك فإنّ الدستور يكرّس من حيث المبدأ التوازن بين السلطات الثلاث القضائية والتشريعية والتنفيذية، ويرفض هيمنة إحداها على الأخرى.

يكمن مفهوم إستقلالية القضاء، بقدرة كل قاضٍ على إتخاذ قراره او حكمه في الدعاوى والنزاعات المعروضة عليه بعدالة وحياد، دون تدخل جهات خارجية، اكانت من قضاة آخرين أو من أشخاص او مؤسسات، مهما علا شأنهم. ويعني أيضا ان يرعى مجلس القضاء الاعلى شؤون القضاة والمحاكم ويحمي مصالحهم واستقلاليتهم ويعززها، وأن يكون بدوره مستقل عن التدخلات من أية جهة كانت.

موقف رؤساء السلطة القضائية بالامتناع عن حضور جلسة مجلس الوزراء والذي هو عمليا بمثابة الاستدعاء، هو في جانب منه تأكيد على مسؤولية القضاء في نهوض الاقتصاد الوطني

انه تطور مهم ان يتمكن القضاء في لبنان ولو مرحليا، من نقل الصراع من داخل الجسم القضائي وبين مكوناته الى مواجهة مع السلطة السياسية لرفع يدها عن السلطة القضائية وتحريرها من احتلال سياسي استمر لثلاثة عقود من الزمن، والجلسة الاستثنائية لمجلس الوزراء كان يفترض ان تعقد منذ زمن، وليس لبحث موضوع القضاء، انما لوضع حد لاهانة المواطن اللبناني على ابواب المصارف والمستشفيات وامام محطات الوقود(…) وفي كل مؤسسات ودوائر الدولة. والامل ان يتحد المواطن اللبناني مع القضاء في موقف واحد لفرض الاستقلال التام للقضاء، حينها يحكم من يجلس تحت القوس باسم الشعب اللبناني وليس باسم من اختاره في هذا الموقع او ذاك.

ربما هذا حلم، وبعض الاحلام قد تتحقق.

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  باراك رافيد: الاتفاق اللبناني الإسرائيلي غير مسبوق سياسياً.. وأمنياً!