الغزو السوفيتى لتشيكوسلوفاكيا.. ما أشبه الأمس باليوم الأوكراني!

فى آب/أغسطس من عام ١٩٦٨ نفذت القوات السوفيتية واحدة من أكبر عملياتها العسكرية بعد الحرب العالمية الثانية حينما قامت قوات من حلف وارسو بقيادة سوفيتية باجتياح حدود دولة تشيكوسلوفاكيا والقبض على عدد من قيادات الحزب الشيوعى فى البلاد وخطف آخرين وإجبارهم على توقيع اتفاقيات تضمن السيادة السوفيتية على قيادات الحزب.

كانت هذه العملية العسكرية هى ثانى أكبر عملية تقوم بها القوات السوفيتية بعد قمع ثورة المجر قبل ذلك بنحو ١٢ عاما، ورغم مرور هذه السنوات بين العمليتين، إلا أن الأسباب كانت واحدة ــ محاولة دولة شيوعية فى أوروبا الشرقية الخروج من تحت عباءة الاتحاد السوفيتى والتقرب إلى الغرب، وهى نفسها الأسباب التى تقود روسيا الآن لإعلان الحرب على أوكرانيا رغم مرور أكثر من نصف قرن من الزمان!
كانت دولة تشيكوسلوفاكيا من الدول القليلة فى أوروبا الشرقية التى شهدت نظاما ديموقراطيا فى فترة ما بين الحربين، كما أنها كانت الدولة التى شهدت إرهاصات بداية الحرب العالمية الثانية، بعد أن تخلت عنها فرنسا وبريطانيا فى مؤتمر ميونخ ١٩٣٨ بالسماح لهتلر باحتلالها مقابل تعهد الأخير بعدم احتلال المزيد من الأراضى الأوروبية وهو الوعد الذى أخلف به هتلر بعد ذلك بقليل لتندلع الحرب!
بعد انتهاء الحرب العالمية حاولت قيادات تشيكوسلوفاكيا التقرب من الغرب وطلبت الاستفادة من مشروع مارشال (مشروع المساعدات الاقتصادية الأمريكية لدول أوروبا الغربية)، ولكن القيادة السوفيتية ضغطت لمنع ذلك وأسست قيادة شيوعية فى البلاد استمرت لمدة ٢٠ عاما طيعة لموسكو وقيادات الحزب الشيوعى السوفيتى، إلى أن بدأت رياح الرغبة فى التغيير تدب فى براج (عاصمة تشيكوسلوفاكيا)، وهو ما سبب المتاعب للاتحاد السوفيتى وقادها لاحتلال البلاد.

***

كانت المتاعب الاقتصادية قد بدأت تحل على براج بسبب السياسات الاقتصادية والتنموية السوفيتية التى أدت إلى إبطاء معدلات النمو والتأثير على حياة العمال والبسطاء وهو ما امتد سريعا ليسبب ضغوطا اجتماعية وسياسية وثقافية على حكومة الرئيس أنتونين نفوتنى القائد الشيوعى المخلص لموسكو، وهو ما اضطره بحلول منتصف الستينيات الماضية إلى اتباع بعض الإصلاحات الاقتصادية لامتصاص الغضب الممتد بين العمال والمثقفين والكتاب والذى بدأ يؤثر داخل الحزب الشيوعى فى البلاد بعد صعود تيار من الإصلاحيين الذين أرادوا تغييرات شاملة سياسية واقتصادية.

كانت حسابات بريجنيف بخصوص رد فعل الولايات المتحدة على غزو تشيكوسلوفاكيا صحيحة، فقد توقع الزعيم السوفيتى أن أقصى ما ستقوم به الولايات المتحدة هو الإدانة والاستنكار وربما تأجيل بعض المباحثات المباشرة مع القادة السوفييت، وبالفعل استنكرت إدارة الرئيس جونسون عملية الغزو كما أجلت اجتماعا كان من المفترض أن يجمع بريجنيف وجونسون

نتيجة لهذه الضغوط المتزايدة، نجح التيار الإصلاحى فى الإطاحة بالرئيس نفوتنى من قيادة الحزب الشيوعى فى كانون الثاني/يناير من عام ١٩٦٨ــ وكان قبلها بشهر واحد (كانون الأول/ديسمبر ١٩٦٧) قد دعا الزعيم السوفيتى ليونيد بريجنيف إلى زيارة براج لدعمه ــ وانتخبوا بدلا منه السياسى المحسوب على التيار الإصلاحى ألكسندر دوبتشيك، وبعدها بشهرين تم الإطاحة بنفوتنى من رئاسة البلاد واستبداله بإصلاحى آخر وهو الرئيس لودفيك سوفوبودا.

***

فور وصول دوبتشيك إلى قيادة الحزب الشيوعى أظهر نيته المؤكدة فى الإصلاح، فأخذ يوجه الإعلام بالسماح بالانتقادات العلنية للنظام، بل أنهى سيطرة وزارة الثقافة على اتحاد الكتاب وهو أحد أقوى التجمعات الثقافية فى البلاد والتى كانت دائمة التأثير على الحركة الثقافية فى شرق أوروبا حتى من قبل الحرب العالمية الثانية، ثم ــ وفى خطبة عامة فى نيسان/إبريل ــ وجه بمزيد من الإصلاحات والتى أدت إلى الإفراج عن عدد كبير من السياسيين والمعارضين فى البلاد بل أعلن عن عزمه السماح بالتعددية الحزبية وبدأ فى دعم المشروعات الاستثمارية الخاصة، ثم أعلن عن فلسفته بخصوص الأيديولوجية الماركسية ــ اللينينية ورغم تأكيده على عدم الخروج عليها لكنه دعا إلى أن تتمتع الشيوعية بوجه إنسانى، لأنه لا معنى لتحرير العمال من سيطرة البورجوازية ووضعهم تحت سيطرة السياسات الحديدية للشيوعية وهى الفلسفة التى لاقت رواجا وقبولا كبيرا داخل تشيكوسلوفاكيا وخارجها أيضا.
بدأ بريجنيف التشكك فى حقيقة ولاء دوبتشيك لموسكو وطالب الأخير بالتأكيد على الولاء للأيديولوجية اللينينية ــ الماركسية كمرجع للحزب الشيوعى التشيكوسلوفاكى، ورغم تعهد دوبتشيك لبريجنيف مجددا إلا أن هذا لم يقنع الأخير فبدأ مباحثاته مع دول حلف وارسو لمناقشة كيفية إيقاف إصلاحات براج (عرفت أيضا باسم ربيع براج).

***

كان الوضع فى الاتحاد السوفيتى لا يقبل المقايضة أو التساهل، فالخلافات مع الصين باتت واسعة، وكذلك فحلف وارسو أصبح فى مهب الريح بسبب تمرد دول رومانيا ويوغسلافيا وألبانيا على القيادة فى موسكو وانتقادها علنا، كما أن تصاعد الحركة القومية فى أوكرانيا قد زاد من قلق موسكو على تماسك قيادتها للكتلة الشرقية فاجتمع بريجنيف مع قادة الدول الأعضاء فى حلف وارسو وحصل على موافقة أربعة أعضاء (بولندا، المجر، بلغاريا، ألمانيا الشرقية) على اجتياح تشيكوسلوفاكيا وقد عرف الاجتياح باسم «وارسو ٥» فى إشارة واضحة على الانقسام داخل الحلف حول التدخل العسكرى لتغيير الأنظمة وإجبارها على الانصياع لموسكو وهو ما عرف أيضا فى أدبيات العلاقات الدولية باسم «مبدأ بريجنيف».
وفى ليلة ٢١ آب/أغسطس بدأت قوات «وارسو ٥» فى التحرك لاجتياح براج ثم تقرر ألا تشارك ألمانيا الشرقية فى اللحظات الأخيرة خوفا من استثارة حمية الشعب التشيكوسلوفاكى كون أن ذلك قد يذكرهم بالإجتياح النازى لبلادهم قبل ثلاثين عاما!
كانت العملية العسكرية سهلة نسبيا مقارنة بالعملية العسكرية السابقة فى المجر ورغم وقوع ضحايا من المدنيين والمدنيات (يقدرون بنحو ١٥٠)، إلا أنه لم تكن هناك مقاومة تذكر لقوات حلف “وارسو ٥”، وإن كانت براج قد لجأت لمبدأ المقاومة المدنية غير العنيفة للاحتلال السوفيتى، وقد استمرت هذه المقاومة صامدة لمدة ٨ أشهر، إلى أن أجبر الاتحاد السوفيتى دوبتشيك على الاستقالة من الحزب الشيوعى وتم الإبقاء على الرئيس سوفوبودا بعد تعهد الأخير بالولاء التام لموسكو!

إقرأ على موقع 180  تقارب إيران والسعودية برعاية الصين.. إنجاز دبلوماسي بامتياز

***

لكن ما هى أهم الآثار السياسية المترتبة على هذا الاجتياح العسكرى؟
أدى هذا الاجتياح العسكرى السوفيتى إلى تعميق الخلافات بين دول الكتلة الشرقية، وتقسيمها إلى جناحين، أحدهما جناح «وارسو ٥» بالدول سالفة الذكر وبقيادة الاتحاد السوفيتى، أما الجناح الآخر فقد كانت فيه الصين ورومانيا وألبانيا ويوغسلافيا، لكن هذا الجناح الثانى لم يمثل تهديدا كبيرا للاتحاد السوفيتى لأنه لم يكن متماسكا وافتقد إلى قيادة موحدة خاصة بعد أن قررت الصين لاحقا خوفا من اجتياح سوفيتى لها تحت مبدأ بريجنيف أن تعيد التقارب مع الأخير.
كذلك كانت من نتائج هذا الاجتياح تأكيد مبدأ التدمير الشامل المؤكد بين الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة وهو المبدأ الذى ردع كليهما من التدخل العسكرى فى مناطق نفوذ الآخر. فقد كانت حسابات بريجنيف بخصوص رد فعل الولايات المتحدة على غزو تشيكوسلوفاكيا صحيحة تماما، فقد توقع الزعيم السوفيتى أن أقصى ما ستقوم به الولايات المتحدة هو الإدانة والاستنكار وربما تأجيل بعض المباحثات المباشرة مع القادة السوفييت، وبالفعل استنكرت إدارة الرئيس جونسون عملية الغزو كما أجلت اجتماعا كان من المفترض أن يجمع بريجنيف وجونسون، كذلك تأجلت مباحثات الحد من انتشار الأسلحة بين الدولتين وإن كانت قد تم استئنافها لاحقا!

(*) ملحوظة: اعتمدت المقالة فى بعض فقراتها على تقرير بعنوان «الغزو السوفيتى لتشيكوسلوفاكيا ١٩٦٨» وكذلك على ملخص مذكرة للمخابرات المركزية الأمريكية عن الوضع الدولى للاتحاد السوفيتى بعد الغزو بتاريخ ١٩ أيلول/سبتمبر ١٩٦٨حملت الرقم المسلسل «٦٨/٦٢٣» وكلاهما منشور على موقع وزارة الخارجية الأمريكية.

(**) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  "مركز القدس": ماذا عن صمت السنوار وصوت محمد ضيف؟