رغم طغيان الحروب على تاريخ البشرية وتعدد أسبابها وأنواعها، إلا أن تبرير الحرب التوسعية وزيادة مساحات دولة كبرى وقوية، بذريعة توفير الحاجات الأمنية والغذائية، تعود إلى العالم الألماني فردريك راتزل (1944 ـ 1905) الذي استقى مصطلح “المجال الحيوي” من كتاب “أصل الأنواع” لتشارلز داروين، ففي كتابه “الجغرافيا السياسية”، يقول راتزل إن الدولة تشبه الكائن الحي، من حيث التطور والنمو، وحين تبلغ كمال قوتها ونموها تتطلع إلى أراضي الآخرين لضمها بهدف الحفاظ على وجودها وقوتها.
هذه الذريعة لإستخدام القوة وتبرير التوسع، سيتحدث عنها أدولف هتلر بإسهاب وإطالة في كتابه “كفاحي”، ومما يقوله “إن حدود الدول من صناعة البشر وتبديلها يتم على أيدي البشر، وبالنسبة لألمانيا فالطريقة المثالية التي يمكن اتباعها تقوم على إحراز مدى حيوي في القارة الأوروبية بالذات، والشرط الأساسي للوصول إلى مستوى الدول العظمى هو في إحرازها المدى الحيوي الذي يؤمن لشعبها مقومات البقاء، ذلك أن الإنتصارات العسكرية تكون سهلة على الدول ذات المدى الحيوي الضيق”.
وبالإعتماد على هذه التبرير النظري، اجتاح الجيش الألماني بولندا في الأول من أيلول/سبتمبر 1939، وتلا هذا الإجتياح اجتياحات أخرى، أفضت في النهاية إلى نشوب الحرب العالمية الثانية التي سقط في قبور كوارثها وأهوالها عشرات ملايين القتلى.
لم يكن الشرق الأوسط ولا المنطقة العربية بعيدين عن نظرية “أحجار الدومينو” وما اعتبره الأميركيون “مجالهم الحيوي”
وتحت ظلال التبرير إياه، خرجت الولايات المتحدة الأميركية بعد اكتمال قوتها الإمبريالية في الحرب الكونية الثانية لتتحدث عن نظرية “أحجار الدومينو” التي لا تفترق قيد انملة عن نظرية “المجال الحيوي” بل إنها تعبير متجدد لها، فالولايات المتحدة اعتبرت أن سيطرة الشيوعيين على دولة ما في منطقة معينة، ستؤدي إلى سقوط دول أخرى في المنطقة ذاتها تحت النفوذ الشيوعي، وبذلك يتهدد المجال الحيوي للولايات المتحدة ويتهدد معه أمنها الإستراتيجي، وبناء على ذلك، كان التدخل الأميركي في فيتنام والهند الصينية في عام 1964، وكذلك في الطرف الجنوبي من القارة الأميركية، وفي العالم قاطبة، وهذه النظرية، كان كشف عنها الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور في خطاب تاريخي في الأول من نيسان/ابريل 1954، قال فيه:
“إنظر لأحجار الدومينو واطرق على أحدها، وانظر ماذا سيحدث للحجر الأخير، حتماً سيسقط بسرعة كبيرة، إذا تخلينا عن فيتنام وسيطر الشيوعيون عليها، فذلك سيؤدي إلى انتصار الشيوعيين في لاووس وكمبوديا وتايلاند والهند واليابان والفيليبين وإندونيسيا وأوستراليا ونيوزيلندا، وعواقب ذلك على العالم الحر، لا يمكن حصرها وتقديرها”.
بطبيعة الحال لم يكن الشرق الأوسط ولا المنطقة العربية بعيدين عن نظرية “أحجار الدومينو” وما اعتبره الأميركيون “مجالهم الحيوي” ففي السادس من كانون الثاني/يناير 1957 جاء عنوان الصفحة الأولى لصحيفة ” الحياة ” اللبنانية الذائعة الصيت آنذاك، كالآتي “إيزنهاور لن نسمح ببلشفة الشرق”. وفي التفاصيل ما يلي “أدلى الرئيس ايزنهاور ببيانه المنتظر عن سياسته والمعروف بمبدأ ايزنهاور بصدد الشرق الأوسط، وذلك في رسالة وجهها إلى مجلسي الشيوخ والنواب، طلب فيها إعطاءه سلطة مسبقة لإستخدام الجيوش الأميركية في الشرق الأوسط إذا وقع اعتداء عليها”.
وثمة منعطفان تاريخيان في ذرائع وسياسات الولايات المتحدة و”مجالاتها الحيوية” لا يمكن إغفالهما، الأول، يتمثل في محاولات إسقاط نظام الرئيس فيديل كاسترو في كوبا عام 1962، والثاني، يتعلق بإسقاط النظام الديموقراطي في جمهورية تشيلي عبر انقلاب عسكري دموي أطاح بأهم رموز “الإشتراكية الإنسانية” الرئيس المنتخب سلفادور الليندي عام 1973، والعودة إلى تلك المرحلة، تنطوي على فائدة إنعاش الذاكرة:
ـ في عام 1962، اندلعت أزمة “الصواريخ الكوبية” بسبب اعتبار الولايات المتحدة أن كوبا تدخل في نطاق “مجالها الحيوي”، ووقف العالم آنذاك على حافة يوم القيامة جراء اقترابه من احتمالات نشوب حرب نووية، وعكست صحيفة “الحياة” في 23تشرين الأول/اكتوبر 1962 مخاطر تلك الأزمة بهذا العنوان “فرضت أميركا الحصار الحربي على كوبا” ونقلت “الحياة”، عن الرئيس جون كيندي قوله في خطاب عاجل موجه إلى الشعب الأميركي “إن تكديس الأسلحة الروسية في كوبا غدا ذا طابع هجومي، وأميركا ستمنع أية سفينة تحمل أسلحة هجومية إلى كوبا، وأن أميركا تعتبر إطلاق أية قذيفة على أي من دول أميركا اللاتينية اعتداء من الإتحاد السوفياتي على أميركا نفسها، وهذا الإعتداء يقتضي رداً انتقامياً ضد روسيا نفسها”.
ـ في عام 1970، وصل سلفادور الليندي إلى سدة الرئاسة في جمهورية تشيلي عبر عملية انتخابية مشهودة، وبما أن الولايات المتحدة ترى في تشيلي موقعا من مواقع “مجالاتها الحيوية”، عملت على تأليب قطاعات الإقتصاد ووسائل الإعلام على الإتجاهات السياسية والإصلاحية للرئيس الليندي فصوّروه شيطاناً، وفي 11 تشرين الأول/أكتوبر 1973 قاد الجنرال اوغيستو بينوشيه بالتعاون مع وكالة الإستخبارات الأميركية (CIA) انقلابا عسكريا دمويا أدى إلى مقتل الليندي، وقال الإنقلابيون العسكريون إنه انتحر، وفي اليوم الثاني بعد الإنقلاب (12 ـ 10 ـ 1973) خرجت صحيفة “نيويورك تايمز” متبنية ازعومة الإنتحار، وجاء عنوانها الرئيس وفق المضمون التالي:
Allende out, reported suicide
Marxist regime in Chile falls in armed forces’ violent coup
في المقابل، لم تكن السياسات الخارجية السوفياتية طوال الحقبة الحمراء، سوى الوجه الآخر لتطبيق مفهوم “المجال الحيوي”، وآخر نماذجها التوسعية إجتياح أفغانستان عام 1979، وقبله كان هناك نموذجان فائقا السوء، الأول في هنغاريا والثاني في تشيكوسلوفاكيا، وخلاصتهما على الشكل التالي:
ـ “ربيع بودابست”: في الثالث والعشرين من تشرين الأول/اكتوبر 1956، شهدت جامعات وشوارع العاصمة المجرية بودابست احتجاجات صاخبة على تردي الأوضاع الإقتصادية المترافقة مع قبضة سلطوية غليظة وعنيفة، وإثر ذلك جرى تعيين إيمري ناج رئيسا للوزراء، فتماهى مع مطالب المحتجين، وعمل على تشكيل حكومة متعددة الأطياف السياسية وأتاح هامشا واسعا للحريات العامة وتجاوب مع دعوات المحتجين للخروج من حلف “وارسو” وإعلان المجر دولة حيادية على غرار النمسا، إلا أن هذه المطالب رأت فيها موسكو إستهدافاً لـ”مجالها الحيوي” ومساً بأمنها الإستراتيجي، فأعلنت النفير العام وأرسلت دباباتها المدعومة جواً إلى بودابست في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر لإسقاط النظام الجديد المخالف لتوجهاتها، وهذا ما حدث بالفعل، إنما بعد سقوط آلاف القتلى وعشرات آلاف الجرحى وتهجير ما لا يقل عن 200 ألف شخص إلى الخارج، وبعد سنتين تم إعدام ايمري ناج بتهمة “الخيانة العظمى”.
تصوّروا من رئيس للجمهورية في تشيكوسلوفاكيا إلى مشرف على إدارة الغابات.. والسبب: “المجال الحيوي”
في كتاب “ثورة هنغاريا” الذي صدر في نيويورك عام 2006، وشارك فيه اريش ليسينغ، المصور الذي عايش عملية اجتياح بودابست، وجورجي كونراد الروائي من اصل هنغاري، تفاصيل مرعبة عن عمليات الإعدام الميدانية التي نُفذت بالثائرين على سلطة الكرملين، وهي المشاهد نفسها التي تكررت في تشيلي عقب الإنقلاب الأميركي على سلفادور الليندي.
ـ “ربيع براغ“: بين الأعوام 1957 و1968، تولى أنطونين نوفوتني منصب رئاسة الدولة في تشيكوسلوفاكيا، غير أنه كان الحاكم الفعلي للبلاد منذ عام 1953 لكونه الأمين العام للحزب الشيوعي المتفرد بالسلطة، وفي مطلع العام 1968 كانت الأحوال المعيشية في تشيكوسلوفاكيا قد انحدرت إلى منزلق خطير، فتنحى نوفوتني عن السلطة على مضض، فخلفه ألكسندر دوبتشيك، وعلى عجل قام الأخير بتنفيذ مجموعة من الإصلاحات الإقتصادية والسياسية من ضمنها التساوي بين المكونين الوطنيين في بلاده، أي تشيكيا وسلوفاكيا، وأعلن عن انطلاق “طريقة خاصة للإشتراكية في تشيكوسلوفاكيا”.
لم يرق هذا الأمر لموسكو، فقررت اجتياح تشيكوسلوفاكيا بالتعاون مع أعضاء آخرين من حلف “وارسو” في العشرين من آب/أغسطس 1968، ولما انتهت العمليات العسكرية كان دوبتشيك في موسكو قد غدا معتقلاً، وجرى إجباره على توقيع معاهدة عسكرية قضت بإلغاء الإصلاحات مقابل انسحاب الجيوش الحمراء من البلاد، ولكن مع تجدد الإحتجاجات في آذار/مارس 1969، دفعت القيادة السوفياتية دوبتشيك إلى الإستقالة من موقع الرئاسة، ليصار إلى تعيينه سفيراً في أنقرة لسنة واحدة، ومن ثم جرى استدعاؤه ليتولى الإشراف على إدارة الغابات في مدينة براتيسلافا عاصمة جمهورية سلوفاكيا الحالية.
تصوّروا من رئيس للجمهورية إلى مشرف على إدارة الغابات.. والسبب: “المجال الحيوي”.
يُنسب إلى وزير خارجية اليابان الكونت ايشي قوله عام 1915: “لا تطمئن اليابان إلى وجود جيش صيني قوي، ومن حق اليابان أن تقلق من قوة اقتصادية صينية ناشطة سوقها المحلية حوالي 400 مليون شخص وأكثر”
في القارة الأسيوية، خطت اليابان منذ أواخر القرن التاسع عشر نحو التدحرج إلى نظرية “المجال الحيوي”، فبطشت كما بطش غيرها من الإمبرياليات، فكانت الصين أولى ضحايا البطش الياباني في عام 1895، وسبقتها كوريا عام 1894 حين غزتها اليابان، وحين حاولت روسيا القيصرية التصدي للتوسع الياباني الإمبراطوري، هزمتها اليابان في حرب العام 1905، مما دفع بالطرفين إلى ترسيم حدود “المجال الحيوي” لكل منهما في عمق الصين وفي آسيا العميقة.
ومع تنامي القدرات العسكرية اليابانية، وما رافق ذلك من نهضة علمية وإقتصادية، وارتفاع في عدد السكان في العشرية الأولى من القرن العشرين الماضي، راحت اليابان توسع مجالها الحيوي على إيقاعات الشعار القائل “آسيا للأسيويين”، فرسخت نفوذها في الصين عام 1905، وتوسعت في منشوريا عام 1931، وفي عام 1937 هاجم اليابانيون مدينتي بكين وشنغهاي، واحتلوا تايوان، وبحلول العام 1938 كان نصف الأراضي الصينية تقريبا تحت السيطرة اليابانية، وفي عام 1941 اجتاحت اليابان الفيليبين واندونيسيا وفيتنام وماليزيا وسنغافورة وبورما.
عن المجال الحيوي الياباني، يُنسب إلى وزير خارجية اليابان الكونت ايشي قوله عام 1915: “لا تطمئن اليابان إلى وجود جيش صيني قوي، ومن حق اليابان أن تقلق من قوة اقتصادية صينية ناشطة سوقها المحلية حوالي 400 مليون شخص وأكثر”.
هنا سؤال: ماذا تقول اليابان عن الصين الحالية؟
في الختام ما يلي:
بصرف النظر عن ملايين الضحايا البشرية التي خلّفتها كوارث نظرية “المجال الحيوي” شرقاً وغرباً، قد يكون مهماً التفكر والتأمل بالآتي:
ـ شعوب أوروبا الشرقية التي أخضعها الإتحاد السوفياتي لنفوذه طوال سبعة عقود، تميل نحو الليبرالية ولا تستسيغ السياسة الروسية، وتهرب إلى حلف “الناتو” لتحتمي من موسكو.
ـ شعوب اميركا اللاتينية التي اكتوت بالأنظمة العسكرية التي رعتها الولايات المتحدة، ذو نزعة يسارية لا تنفك تعمل على الخروج من هيمنة واشنطن، وفي أغلب العمليات الإنتخابية يفوز يساريون مناوئون للولايات المتحدة.
أليس في ذلك مفارقة؟
هي دعوة للتأمل قد تحتاج نقاشاً.