كم مرة سمعنا عن مبدعين تورطوا في أنواع عديدة من الإدمان وكيف تساهل الجمهور معهم بسبب ما أنتجوا من حصاد جميل ومثمر؟
والإدمان ليس مرادفاً للمخدرات، كما قد يتبادر إلى ذهن كثيرين؛ هو أنواع ودرجات، قد يكون جنساً أو تسوقاً أو كافيين، وقد يكون انترنت ومواقع إباحية أوعشقاً ممنوعاً.
قبل كتابة هذه المقالة، كنت أقرأ دائماً عن تجارب الإدمان والإبداع، إلى الحد الذي يجعل البعض يُبرر مثلاً لرسامين ومغنين وممثلين، بينما يصبح الأمر غريباً ومستهجناً لدى علماء وكتّاب نؤمن برصانتهم وأفكارهم، لكن الحقيقة أن البشر كلهم يتساوون مهما أعطينا من تبريرات لهذا أو ذاك منهم.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، لنتناول قصة سيغموند فرويد أب الطب النفسي وخالق نظرية الليبيدو بوصفها منشأ اللذة ومرتكز اللاوعي الإنساني، فما هي قصة فرويد والكوكايين؟
يتردد أن مضغ أوراق الكوكايين كان يسُتخدم من قبل سكان جبال الأنديز في الساحل الغربي لأميركا الجنوبية منذ آلاف السنين، لكن تم تصنيعه وتوليفه للمرة الأولى عام 1855 على يد فريدريك جايدك، الذى أطلق عليه اسم “الإريثروكسيلاين”. وبحلول منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر، أصبح يُطلق عليه اسم “كوكايين” وكان يتم وصفه من قبل شركات الأدوية التى قامت بتصنيعه على أنه علاج شمولي، أي يصح وصفه للعديد من الحالات والأوجاع!
تعرّف فرويد على هذا الدواء الجديد ـ العجيب من خلال مقالة إطلع عليها فى مجلة تدعى Therapeutic Gazette كانت مملوكة من شركة Parke-Davis وهى الآن شركة تابعة لشركة Pfizer للأدوية (تعرفنا إلى منتجها فايزر في زمن الكورونا). أرسلت الشركة عيّنات إلى فرويد البالغ من العمر 28 عاماً والذى كان يعمل باحثاً مساعداً فى علم الأمراض العصبية فى جامعة فيينا، وكان متحمساً جداً لتجربة هذه العينات من الدواء الجديد.
فى هذه المرحلة، كان فرويد يسعى إلى تحقيق إنجاز كبير يُخلّد اسمه. اعتقد فرويد أن الكوكايين هو تذكرته نحو الشهرة والثروة. تسلّم أول دفعة من صيدلية Angel فى نيسان/أبريل من العام 1884 وبدأ على الفور بإختباره على نفسه بمنتهى نكران الذات.. وعلى طريقته باسم العِلم أولاً وأخيراً.
كانت الآثار الجسدية والنفسية جذّابة جداً. فى مراسلاته مع أصدقائه، تحدث فرويد عن كيفية تناوله الكوكايين “لمواجهة الاكتئاب وعسر الهضم”. بحلول نهاية العام، نشر فرويد ورقة بعنوان “Über Coca” أو “عن الكوكايين”، وصف فيها “الإثارة الأكثر روعة” التى شعر بها عند أخذه أول جرعة كوكايين حيث كتب يقول: “ابتهاج ونشوة دائمة”.. إلى جانب الإشارة إلى أنه تخلص من الشعور بالتعب والجوع، ولكنه لم يُعر أي إهتمام لآثار وتداعيات إستخدام هذا “المُنشط” بصورة دائمة.
وفقًا لدومينيك سترتفيلد، مؤلف كتاب “الكوكايين: سيرة غير مصرح بها”: “إذا كان هناك شخص واحد يمكن اعتباره مسؤولاً عن استخدام الكوكايين لأغراض ترفيهية فهو فرويد”.
لكن فرويد ليس وحيداً. مبدعون كثر سقطوا أو أسقطوا أنفسهم في فخ الإدمان. منهم من يراها ذريعة تنقله إلى عالم الهلوسة الإبداعية وترفع نشاط المخ إلى مستويات تحليقية، وآخرون إنتموا إلى عالم سفلي قادر على توفير ما تسمى “الممنوعات” ومنها الكوكايين بيُسر وسهولة.. وهناك “أندية النخبة” وهناك الكثير الكثير من الفئات..
ليس سهلاً الخوض في هكذا موضوع من دون أحكام قيمية مسبقة. هذه محاولة لتوصيف العلاقة القائمة بين الإبداع والإدمان، ما خفي منها وما بان ولنحاول تجاوز “الحقائق” أو “الأساطير” المتداولة.
لطالما ساد إعتقاد عند بعض المبدعين أن تعاطي المواد المخدرة أو المسكرات يساعدهم في تحرير تفكيرهم من قيود وتقاليد وقواعد خانقة وصارمة، ما يفضي إلى جرأة وانسيابية في طرح الأفكار الجديدة وإطلاق العنان للخيال والإبداع وصولاً إلى البحث عن حالات مزاجية مختلفة وأنواع جديدة من الانفعالات
تحرير العقول بالـ…
لا يُقصد بالإبداع مجموعة الأفكار العشوائية التي يبدو أنها تظهر من العدم ببساطة، فهناك أشكال أخرى من التفكير الإبداعي؛ منها التفكير المتضافر والمتنوع. وتشير عملية التفكير المتضافر إلى دمج أكثر من معلومة، ربما تكون معلومات مختلفة تماماً، والوصول إلى نتيجة/شيء يربط بينها. ويعرف أفضل اختبار لقياس مهارات التفكير المتضافر باسم “اختبار الأفكار المترابطة المتباعدة”.
يستسهل الكثيرون إطلاق صفة المبدع على شخص يقوم بواجبه على اكمل وجه، وأظن أن الإبداع يتخطى الحد المطلوب ويتجاوز المتوقع لندخل في صلب الدهشة. دهشة الفكرة والكلمة واللوحة واللحن إلخ..
ويقول أستاذ علم النفس التربوي في مركز تورانس للإبداع بجامعة جورجيا وعضو مجلس إدارة مركز إبداع الطفولة مارك أ. رونكو إن الشخصية الإبداعية تتميز بالحكم الذاتي والمرونة، وتفضيل التعقيد، والانفتاح على الخبرة، والحساسية والمزاح، وتحمُّل المخاطر، والدوافع الذاتية، وفاعلية الذات والاهتمام الواضح والفضول وإذا ما اضفنا إليه الحساسية الفائقة التي تُميز المبدع والمزاجية العالية فإنه يمكن فهم سهولة التعلق بكل ما يؤثر بالمزاج والسلطنة حسب التعبير الشعبي المتداول.
وقبل الخوض في تفاصيل التحليل العلمى لهذه الظاهرة، لا يجب أن ننسى أن مشاهير من المثقفين والفنانين والمبدعين ارتبطت أسماؤهم بالمخدرات أو الخمور، مثل إدجار آلان بو الذي كان مدمن خمور، والشاعر بودلير الذي أدمن الأفيون، وكذلك الشاعر الإنجليزي كلوريدج الذي أدمن أيضاً الأفيون طوال حياته، والروائي العالمي أرنست همنجواي والفنان التشكيلي جاكسون بولوك وهما أدمنا الكحول.
ولطالما ساد إعتقاد عند بعض المبدعين أن تعاطي المواد المخدرة أو المسكرات يساعدهم في تحرير تفكيرهم من قيود وتقاليد وقواعد خانقة وصارمة، ما يفضي إلى جرأة وانسيابية في طرح الأفكار الجديدة وإطلاق العنان للخيال والإبداع وصولاً إلى البحث عن حالات مزاجية مختلفة وأنواع جديدة من الانفعالات. طبعاً لا يوجد وصفة واحدة عند هؤلاء. قد تكون المسألة أبسط من ذلك ولا تفسير لها، وهذا نوع من العبث المفهوم. قد نجد البعض يبحث عن فرصة إسترخاء للعقل والجسد والتحليق بعيداً عن الهموم اليومية الرتيبة وكذلك التقليل من الشعور بالقلق والتوتر الناتج عن ضغوط الحياة اليومية.
من الناحية العلمية لا توجد دراسات وإحصاءات تؤكد أو تنفي هذه النظرية المتداولة درءاً لإكتئاب يعاني منه مبدعون أو هرباً من ضغط من أي نوع كان.
ورطة الشعر والكتابة!
عندما بدأت بالكتابة لم أكن أنوي التوغل إلى هذا الحد. أردت التركيز على ظاهرة إدمان كتابة الشعر وقراءته. لذلك صح القول إن الكتابة “ورطة” بهذا المعنى ولكنها ورطة لذيذة ومُحببة، ولطالما عرفنا أشخاصاً كان الموت أسهل عليهم من أن يأتي يوم يعجزوا فيه عن الكتابة الإبداعية التي أدمنوها.
وقد تسنى لي أن أطلع على بحث أجراه باحثون من جامعة اكستر البريطانية من خلال تقنية التصوير بالرنين المغنطيسي، وخلصوا فيه إلى أن مطالعة أي شيء مكتوب يؤدي إلى نشاط في “شبكة القراءة” بشكل عام، لكن نشاط الدماغ يكون أكبر في حال كان الشخص يقرأ الشعر، أو أي نصوص تحمل تعبيراً عن أحاسيس وعواطف.
وبالإضافة إلى ما تقدم، رصد العلماء تحسن الذاكرة لدى المتطوعين المشاركين في التجربة بعدما قرأ هؤلاء مقتطفات شعرية تترك أثراً في أنفسهم.. وهذا الأمر يحيلنا إلى الزمن الذي كان الكثيرون فيه من أبناء جيلنا وجيل من سبقونا يتنافسون في حفظ الشعر وتلاوته بينما ندر أن نجد في أجيال أيامنا هذه من يحفظ شعراً محلياً أو أجنبياً، وعندما تسأله يحيل نفسه إلى الجهاز الذكي الصغير بين يديه. الجهاز الذي يعطل عقول الناس وينوب عنهم ويجعلهم أسرى التكنولوجيا بدل العكس.
وعلى سيرة الدراسات، تبين أن للموسيقى تأثيرها الإيجابي الكبير على الدماغ حتى أنها تُحفّز نشاط الفصين في المخ، وأثار ذلك اهتمام علماء بريطانيين من جامعة ليفربول، فأجروا دراسات حول ما إذا كان للشعر التأثير ذاته على المخ، وانتهت إلى النتيجة ذاتها، أي أن قراءة الشعر تساعد في تحسين الذاكرة وتنشيطها.
وتفيد هذه الفكرة المثبتة بأهمية الإدمانات السلوكية وعدم الإقلال من شأنها بالنسبة للمبدع والمتلقي في آن معاً.
نعم، هذا هو النوع المحبب من الإدمان، اما في المقلب الآخر وبعيداً من التأثيم القانوني والديني، قد يكون مفيداً الإبتعاد عن الأحكام المسبقة وصولاً إلى معرفة الآثار المباشرة التي تحدثها العقاقير الخطرة على وظائف المخ، وبالتالي تحديد ما إذا كانت عنصر تحفيز للعمليات الإبداعية أو على العكس من ذلك، تمنعها وتعوقها وذلك أبعد من أثر اللحظة نفسها؟
نحن ندمن الحياة بصورة من الصور. نتعلق بها مهما كانت ظالمة أو جاحدة نتمسك بها أكثر كلما تقدم بنا العمر أكثر.
نحن ندمن الأصدقاء وندمن الأحبة وندمن المؤسسات الزوجية وندمن الأعمال وندمن الكثير من العادات. العادة هي نمط سلوكي مكتسب عن طريق التكرار التلقائي قابل للتعديل ولو أحياناً بصعوبة أما الإدمان فهو حاجة قهرية أو شكل متطرف من العادة التي يمكن أن تأخذنا إلى نقطة لا نستطيع العيش من دونها.