هناك معتقد شائع عند بعض المثقفين المعاصرين أنّ الإسلام يحرّم الشعر ويدين الشعراء. هذا المعتقد سطحي، وناتج عن قلّة معرفة أو قراءة خاطئة للفكر الإسلامي كون الشعر هو أحد ركائزه وساعد في نشر وإيضاح الكثير من المعتقدات والمفاهيم والحجج التي صاغها الفقهاء والمتكلّمون، وهو ما جعل من الشعر أحد أهمّ مزايا الحضارة الإسلاميّة.
النقاش حول الشعر هو كأي نقاش آخر في الإسلام لا يوجد حوله إجماع مطلق. بعض العلماء، وهم قليلون جدّاً، حرّموا الشعر وشيطنوا الشعراء واستنجدوا ببعض الأدلّة لتبرير قولهم وإبراز حجّتهم. من هذه الأمثلة نجد الآية الشهيرة “والشعراء يتبعهم الغاوون” (سورة الشعراء 224) والتي يُردّدها كل من يجادل (عن جهل) على أنّ الله لعن الشعراء وحرّم الشعر. لكن من يقرأ سورة الشعراء يُفَاجأ بأنها منظومة شعراً (ليست بالضرورة على أوزان الشعر الجاهلي). والمثير للانتباه في هذه السورة أيضاً أنّها لا تعالج موضوع الشعر والشعراء، بل هي تقصّ أخبار الأنبياء (كموسى وإبراهيم ونوح وهود وغيرهم). فقط في آخر سبع آيات منها (من أصل 227 آية)، يتحولّ الكلام إلى الشعراء:
“هل أُنَبِّئُكم على من تنزل الشياطين؟ تنزل على كلّ أفَّاكٍ أثيم. يُلقون السّمع وأكثرُهم كاذبون. والشعراء يتبعُهم الغاوون. ألم ترَ أنّهم في كلّ واد يَهيمُون. وأنّهم يقولون ما لا يفعلون. إلاَّ الذين آمنوا وعمِلوا الصّالحات وذكروا اللّه كثيراً وانتصروا من بعد ما ظُلموا وسَيعْلم الذين ظَلموا أيّ مُنقلبٍ يَنقلبون”.
هذا المقطع لا علاقة له بما جاء قبله في الـ 220 آية من سورة الشعراء. لكن ليس هذا هو بيت القصيد. إذا قرأنا الجزء الأوّل من هذا المقطع، يمكن أن نستخلص أنّ القرآن يقول إنّ الشعراء يستلهمون شعرهم من الشياطين، ويطيفون من وادٍ إلى وادٍ لإشاعة الكذب والإثم. لكن يفاجئنا المقطع الأخير (الآية 227) بقوله: “إلاّ الذين آمنوا..”. هل هذا استثناء يعني “إلاّ الشعراء الذين آمنوا”، أم لا؟ إذا قلنا لا، وهو رأي غير منطقي، يمكن أن يقودنا ذلك إلى القول إنّ القرآن وصف الشعراء كلّهم بالكفر والكذب. وإذا قلنا نعم، نستنتج أنّ القرآن لعن الشعراء الذين تبعوا الشياطين لا الشعراء الذين آمنوا بالله.
لنضع القرآن جانباً وننظر في كتب التفسير. يقول الطبري (ت. 924) في تفسير الآية 227:
“إن هذا الاستثناء نزل في شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ثم هو لكل من كان بالصفة التي وصفه الله بها“.
ويوافقه الشيخ الطوسي (ت. 1067) في ذلك ويضيف: “أراد (الله) الشعراء الذين ردّوا على المشركين هجاءهم للمؤمنين، فانتصروا بذلك للنبيّ والمؤمنين“. وهناك إجماع في كتب التفسير (سنّة أم شيعة) على إعطاء الآية 227 هذا المعنى.
نستنتج من ذلك أنّ المُفسّرين إمّا أنّهم أساءوا فهم الله أو تجاهلوه وفي الحالتين ما أراده الله كان عكس ما دعا إليه المفسّرون. الأصحّ، أنّهم فهموا قصد الله بأنّ هناك فرقاً بين الشعراء المؤمنين وغير المؤمنين ووضّحوا ذلك.
نجد الأمر ذاته في أُمّهات كتب الحديث (مثل صحيح البخاري وسنن الترمذي ومسند أحمد بن حنبل وغيرهم). هناك أحاديث في نبذ الشعر مثل القول المنسوب إلى النبي: “لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خيرٌ له من أن يمتلىء شعراً”. لكنّنا نجد أيضاً أحاديث في مدح الشعر والشعراء، مثل قول النبي: “إنّ من الشعر حكمة”. وفي حديث آخر عن عائشة، قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يؤيّد حسان بروح القدس ما يفاخر، أو ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”. والمعروف أنّ حسان بن ثابت كان شاعر الرسول. وفي حديث آخر أنّ النبي قال: أصدق بيت قالته العرب: “ألا كل شيء ما خلا الله باطل” (وهو من قصيدة للشاعر لبيد بن أبي ربيعة ألقاها أمام النبي عندما جاء إلى المدينة وأسلم). ونجد أيضاً الحديث: “الشعر كلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح”.
برأي ابن قدامة، من دون الشعر، لا نفهم اللغة العربية ولا كيف نفسّر القرآن أو كلام الله ورسول الله ولا تاريخ العرب وأنسابهم. وذهب بعض الفقهاء إلى درجة جعل الشعر من فروض الكفاية، أي إذا أهمله المسلمون جميعاً كفروا
إذاً كان النبي يردّد بعض الشعر وكان يعتقد أنّ الشعراء يأتيهم الوحي من الله عبر الروح القدس. هنا أيضاً نقول جدلاً إذا حرّم الله الشعر، يكون النبي تجاهله. وإذا رفضنا الادلّة وأصرّينا على أنّ النبي حرّم الشعر، نسنتتج من كتب الحديث والتفسير أن معظم المسلمين تجاهلوه، وفسّروا القرآن بطريقة تبيح الشعر ولفّقوا أحاديث نسبوها إليه في حبّه للشعر والشعراء.
وأيّ قارئ للتراث الإسلامي يستوقفه الحجم الهائل من الشعر وأسماء الشعراء الذي تحويه كتب التفسير والسيرة والتاريخ والفتوح والكلام والتصوف والفقه، الخ، إن لم نذكر مئات الدواوين الشعرية أو كتب اللغة والأدب والحكمة والمعاجم. النقطة التي أريد أن أشدد عليها هنا هي أنّ الشعر لا نجده فقط في التراث الأدبي غير الديني، بل هو ركن أساسي من كتب الدين والفكر الديني.
وفي ذلك يقول ابن قدامة الحنبلي (ت. 1223) – وهو من أعظم الفقهاء الحنابلة – في كتابه “المغني”:
“وليس في إباحة الشعر خلاف، وقد قاله الصحابة والعلماء، والحاجة تدعو إليه لمعرفة اللغة العربية، والاستشهاد به في التفسير، وتعرّف معاني كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ويستدلّ به أيضاً على النسب والتاريخ وأيام العرب. ويقال: الشعر ديوان العرب”.
إذاً، برأي ابن قدامة، من دون الشعر، لا نفهم اللغة العربية ولا كيف نفسّر القرآن أو كلام الله ورسول الله ولا تاريخ العرب وأنسابهم. وذهب بعض الفقهاء إلى درجة جعل الشعر من فروض الكفاية، أي إذا أهمله المسلمون جميعاً كفروا. كما ينقل الإمام ابن عابدين (ت. 1836) في حاشيته “ردّ المحتار على الدر المختار” عن قاضي قضاة مصر شهاب الدين الخفاجي (ت. 1669) قوله في ذلك:
“معرفة شعر أهل الجاهلية والمخضرمين (وهم من أدرك الجاهلية والإسلام) والإسلاميين، رواية ودراية، فرض كفاية عند فقهاء الإسلام لأن به تثبت قواعد العربية التي بها يعلم الكتاب والسنة المتوقف على معرفتهما الأحكام التي يتميز بها الحلال من الحرام. وكلامهم وإن جاز فيه الخطأ في المعاني فلا يجوز فيه الخطأ في الألفاظ وتركيب المباني”.
بمعنى آخر، من دون الشعر، لا يمكن لمسلم أن يعلم أحكام الله والتمييز بين الحلال والحرام.
حتّى علماء مثل ابن عساكر (ت. 1176) الذي كان له دور عظيم في إحياء السنة في بلاد الشام، كان يختم كلّ درس يعطيه في الجامع الأموي في دمشق بقصيدة من الشعر في موضوع الدرس الذي ألقاه. مثلاً في آخر كتابه “فضل حفظ القرآن”، يختم ابن عساكر ببيتين من الشعر أنشده إياهم أحد أساتذته:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي/ فأرشدني إلى ترك المعاصي
وذلك أنّ حفظ العلم فضل/ وفضل الله لا يؤْتاه عاصِ.
وفي كتابه “نفي التشبيه”، يختم ابن عساكر بقصيدة تحوي البيت الآتي:
تبّاً لِذيّ سفهٍ يقول بأنّه (الله)/ جسم وأنّ سماتنا كسماته.
أمثال ابن عساكر من العلماء الذين استخدموا الشعر من أجل تفسير معتقداتهم الدينية ونظرتهم للإسلام لا يمكن حصرهم. نجد منهم الإمام البوصيري (ت. 1295) الذي ألّف سيرة للنبي محمدّ شعراً أسماها “قصيدة البردة” والتي كان لها قبول عظيم في المجتمعات الاسلامية، خصوصاً في مصر والسودان وشمال أفريقيا وشرقها وغربها، واستخدمت كنصّ أساسي في كثير من احتفالات المولد النبوي في هذه البلدان، إلى أن شهدنا انتشار السلفية فيها في ثمانينيات القرن المنصرم (حرّم مشايخ السلفية قصيدة البوصيري لما فيها برأيهم من غلوّ في مدح النبي). والمعروف أنّ الشاعر الكبير أحمد شوقي استلهم قصيدته “نهج البردة” من قصيدة البوصيري، وغنّت بعض أبياتها المطربة العربية الرائدة الفنانة أمّ كلثوم.
وهناك ايضاً المتصوّف الشهير جلال الدين الرومي (ت. 1273) وديوانه “المثنوي” الذي كتبه بالفارسية، وفيه قصيدته الشهيرة “أنين الناي” (أنشدها الشيخ أحمد حويلي)، والتي ترمز إلى معاناة البشر لبعدهم عن لله وأنينهم إلى اليوم الذي يعودون فيه إليه:
أنصت الى الناي يقول في أنينه/ من ألم الفراق ويشكو المصاب
منذ قُطعت من سبخة القصب/ والناس تبكي لأنيني وتنحب
أبغي صدراً قد مزقه الفراق/ لأبوح له بآلام البعد والغرب
كلّ من قُطِع عن أصله يحنّ/ أبداً إلى وقت وصال المحبّ
واستخدم الشعر أيضاً أبو العلاء المعرّي (ت. 1057) ليعيب أولئك الذين لا يفهمون من الدين إلاّ الغلوّ في الفرائض، كما يقول في إحدى قصائده في “اللزوميّات”:
ما الخير صومٌ يذوب الصائمون له/ ولا صلاة ولا صوف على الجسد
وإنّما هو ترك الشرّ مطرّحاً/ ونفضك الصدر من غلّ ومن حسدّ
ما دامت الوحش والأنعام خائفة/ فرساً فما صحّ أمر النُسك للأسد.
خلاصة القول أنّ للشعر في التراث الإسلامي دور رائد. دور أغنى الفكر الديني وشكل ركيزة من أبرز ركائز اللغة العربية، وأصبح الاستغناء عنه في نظر الكثير من العلماء كالاستغناء عن الإسلام، أي أنه مستحيل. لكن عندما جاءنا المستعمر، أقنعنا أنّ الإسلام يحرّم الشعر، فصدقناه (كما صدقنا كثير من آراء علمائه عن الإسلام)، فأصبحنا مستهلكين للتاريخ الذي اخترعه لنا، وظلمنا تاريخنا وهويتنا ولغتنا وتراثنا وشعراءنا والأهم أننا ظلمنا أنفسنا.