انتخابات لبنان بين الصمت واستراتيجيّات التدمير!

من المفترض أنّنا دخلنا في لبنان، منذ الساعة صفر من صباح الخميس الماضي، في ما يُسمّى "الصمت الانتخابي". صمت، سيكون متقطّعاً. يعود ويغيب تبعاً للأيّام المقرّرة لعمليّات الاقتراع، في الداخل اللبناني وخارجه. صمت، تمنّى لبنانيّون كُثُر أن يكون صمتاً أبديّاً لبعض المرشّحين (لمعظمهم؟).

لـ”الصمت الانتخابي” فلسفته الخاصّة. وضعتها القوانين الغربيّة بهدف إعطاء الناخب فسحةً من الهدوء والسكينة. ولتصدّ عنه المؤثّرات الخارجيّة. لئلاّ يقع في حالةٍ من الإرباك، قبل ساعاتٍ من العمليّة الانتخابيّة. ففي فترة الصمت هذه، يستطيع الناخب أن يختار البرنامج والحزب السياسي الذي سيصوّت معه. بمعزلٍ عن تشويش الحملات الدعائيّة للمرشّحين وهم يسوِّقون لأنفسهم. ويرمون كلّ الآثام والمعاصي على خصومهم.

معظم دول العالم تعمل بـ”الصمت الانتخابي”، قبل أيّ انتخابات. أمّا عندنا في لبنان، فلا تأثير لهذا الصمت على الإطلاق. فهو فعلٌ يشبه كثيراً الطلب من شخصٍ أبكم أن يغنّي موّال عتابا أو أبو الزلف. لماذا؟ الأسباب عديدة. قد يكون أهمّها، أنّ عمليّات الاقتراع في لبنان هي أقرب إلى التعيينات منها إلى الانتخابات. نعم. إذْ، غالباً ما يحدِّد الناخب موقفه من المترشّح عند الترشيح. وأحياناً، قبل أن يترشّح. وأكثر. تحدِّد المُسمّاة “الأحزاب السياسيّة” في بلدنا للناخب، المرشّحين الواجب عليه أن يسقِّط أسماءهم في صندوقة الاقتراع. وبفضل “عبقريّة” مشرِّعي القانون الانتخابي العجيب الغريب (المفصَّل على قياس بعض المرشّحين)، بات بالإمكان التحكّم بفوز هذا المرشّح أو ذاك بالصوت التفضيلي. وماذا ينفع يا صاحِ الصمت الانتخابي، حين توزَّع الأصوات التفضيليّة (والأصوات عموماً) على وقْع “تكليفٍ شرعي” من هنا. أو “تحريمٍ وفتاوى” من هناك. أو “رمي حُرمٍ كنسي” من هنالك؟ طبعاً لا شيء.

لكن، لن تكتمل فرحتنا بالصمت الانتخابي. ففي 9 و10 و13 أيّار/مايو، سيُعاود المرشّحون حملاتهم الانتخابيّة. وككلّ شيء في لبنان، يمسخ اللبنانيّون ما هو مفترَض أن يكون “حملات انتخابيّة”. يعرف أخصّائيّو الاتصال السياسي عمّاذا أتكلّم. فلقد أُرهِقوا، طوال الأسابيع الماضية، مثلما أُرهِقنا نحن اللبنانيّين. أرهقهم المرشّحون باحتلالهم الفضاء العامّ، بالطول والعرض. أُرهِقنا، بخاصّة، من خطابات مرشّحي الأحزاب السيّئة الذِكر. ومن حجم البلاهة في عنتريّات التيّارات السيّئة الذِكر، أيضاً.  أين كان مُدَّخَراً هذا الكمّ المهول من الدجل؟ من التفاهة؟ من الإنكار؟ من الغطرسة؟ أينك يا أيّها الربّ العليّ القدير؟

وكأنّه لم يمرّ 17 تشرين على هذا البلد. وكأنّه لم يمرّ 4 آب على هذا البلد. وكأنّهم لم يقتلوا في هذا البلد. ولم يسحلوا. وينهبوا. ويهجّروا ربع الشعب. ويدمّروا كلّ المؤسّسات. ويُفلِسوا كلّ القطاعات. ويُذِلّوا الجامعة الوطنيّة. ويحوِّلوا القضاة إلى حُرّاس حصانات. ويُحيلوا العسكر إلى شحّاذين. و..و..و. بات الكلام عنهم مثل جَلْد النفس. مُمِلاًّ للقرّاء. انظروا إليهم كيف لا يخجلون! يعتلون المنابر ليجيّشوا بصخبٍ وعهرٍ غير مسبوقيْن في تاريخ الجمهوريّة. حملاتهم الانتخابيّة طردت النوم من عيوننا. ليس لأنّنا نتابعها. بل لأنّ ثقلها كان يُطبِق على صدورنا في الليالي كما في النهارات. بماذا تفوّهوا قبل أن يصمتوا؟

بعدما أعْيَتنا المنشورات والملصقات واللافتات والصور، أتحفونا بهيجانٍ استثنائي في إطلاق الكلام. الهذر، بمعنى أدقّ.

لم يوفِّر المرشّحون وسيلةً إلاّ واستخدموها. على أمل جمع أكبر عدد من الأصوات للأيّام الأربعة الحاسمة (6 -8 -12 -15 أيّار/مايو). إنّما الفروقات واضحة بين حملاتٍ وحملات. فالمرشّحون الجُدد (من مجموعات الثورة وأخواتها) كانت خطاباتهم “الرسميّة” مطابقة، إلى حدٍّ بعيد، للمواصفات “المنصوص عليها” في قوانين وبروتوكولات الحملات الانتخابيّة. وإنْ كشّر بعضهم على السوشيل ميديا، أحياناً، عن أنياب كراهية وعنصريّة وذكوريّة و.. تجاه منافسيه. أمّا في الجبهات المُعتَّقة، فالوضع كان مختلفاً.

كأنّه لم يمرّ 17 تشرين على هذا البلد. وكأنّه لم يمرّ 4 آب على هذا البلد. وكأنّهم لم يقتلوا في هذا البلد. ولم يسحلوا. وينهبوا. ويهجّروا ربع الشعب. ويدمّروا كلّ المؤسّسات. ويُفلِسوا كلّ القطاعات. ويُذِلّوا الجامعة الوطنيّة. ويحوِّلوا القضاة إلى حُرّاس حصانات. ويُحيلوا العسكر إلى شحّاذين. و..و..و.

اختلفت الوسيلة ولم تختلف الغاية. أي، إغراء الناخب وتدمير الخصم عبر استراتيجيّات لجأت، غالباً، إلى التلاعب غير الأخلاقي بعواطف الجمهور الناخب. حصل هذا التلاعب، حصراً وبحدّة، في حملات أحزاب السلطة. والتي تحوّلت إلى جبهات حقيقيّة بين أتباعهم ومناصريهم. غير أنّ عمليّات الكرّ والفرّ تفاوتت، أيضاً. تبعاً لـ”نوع السلاح” المستخدَم. وكلّما كان السلاح خفيفاً، كلّما كان وطيس المعركة أقوى. كيف؟

أتقن الثنائي الحزبي الذي يُمسك بقرار الطائفة الشيعيّة إدارة معاركه على الجبهات المحدودة. في الواقع، ليس هناك من معارك أو جبهات. فمنذ عقود طويلة، قرّر “حزب الله” و”حركة أمل” إراحة المواطنين الشيعة من التفكير لاختيار نوّابهم. فهُما مَن أخذ على عاتقه تحديد “مواصفات” المواطن الشيعي الذي يحقّ له دخول البرلمان اللبناني أو لا. لكن هذا لا يعني أنّهما لم يقوما بحملاتٍ انتخابيّة! فحملاتهم بدؤوها في ساحات 17 تشرين. رصاصاً حيّاً أو قلعاً للعيون. واستكملوها بما بات يُعرَف بسلاح “السحسوح”. هي ظاهرة الاعتذار “للقادة” بالإجبار. ولهذه الجولة من الانتخابات، اجترح الثنائي سلاحاً فتّاكاً جديداً للتطويع بعد الإذلال. بحيث تتبرّأ العائلات الشيعيّة من أبنائها “الناشزين”. أي، من كلّ مَن تسوّل له نفسه انتقاد مرشّحٍ من مرشّحي الثنائي. أو من كلّ مَن تجرّأ على الترشّح بوجه مرشّحي الثنائي. يا لفظاعة القهر!

إقرأ على موقع 180  بري رئيساً للبرلمان اللبناني.. ولكن!

ونأتي إلى “معسكر” الإخوان السُنّة. فمع غياب الضابط السياسي والانتخابي (سعد الحريري)، لا حَوْل ولا قوّة لحملاتهم الانتخابيّة بالرغم من البذخ المالي. لكنّ ضعف الحملات (التي استقوت أكثر ما يكون بالتصويب على حزب الله)، قابلته زحمة في اللوائح. وكثرة في أعداد المرشّحين في الدوائر التي تضمّ العدد الأكبر من الناخبين السُنّة. أمّا المعركة الانتخابيّة في الساحة الدرزيّة، فـ”إحداثيّاتها” الجنبلاطيّة كانت دقيقة للغاية. فالمعركة “مصيريّة”. ولا تحتمل هفوات يمكن أن تتسبّب فيها المهاراتُ الهزيلة لوريث الزعامة. ولا سيّما، بعد دخول خيّالٍ طموح إلى الشوف على صهوة جوادٍ مُهَجَّن. هذا في حين قبع “الأمير الصغير”، طويلاً، منتظِراً حَسَنةً لم تأتِ من الحلفاء! وبعد؟

نصل إلى معارك “داحس والغبراء” عند الإخوان المسيحيّين. فعند أسوار زعمائهم تكسّرت النصال على النصال، وبعد أن بلغ السيل الزبى. لا أدري كم من مرّةٍ اعتراني الشعور، خلال الأسبوع الفائت، بأنّ العالم يتداعى حتّى أصبح ممسوخاً. فهستيريا الانتخابات التي انتابت زعماء الأحزاب والتيّارات المسيحيّة، هي التي ولّدت لديّ هذا الشعور. فعبثاً محاولة إقناع العونيّين والقوّاتيّين والمردة والكتائب وفلول الأحرار والكتلاويّين والسكافيّين و..، أنّه لم يعد مُجدياً تكرار الرهانات الباهظة. والمغامرة بالوطن وكأنّنا نمتلك وطناً آخر. أنّه لم يعد هناك حاجة إلى كسر ما تفتّت، أصلاً، في هذا البلد. وأنّ الإنسان عندما يركب القطار الخطأ، يجب أن ينزل في أوّل محطّة. فكلّما زادت المسافة، زادت تكلفة العودة. لا حياة لمَن تنادي. وكأنّهم منذورون للعيش مع “سيكولوجيا الانتقام”.

فلقد اجتازوا كلّ الخطوط الحمراء في حملات تشفّيهم ببعضهم. حملاتهم ارتكزت إلى أخطر وسيلة كاشفة لتداخل الفكر والأخلاق: اللغة. لم يبقَ قَذْع أو فحْش أو سباب أو شتيمة، إلاّ وتقيّؤوها بوجه بعضهم البعض. صار أداؤهم السياسي يُلخَّص بحربٍ لغويّة تتأسّس على مفردات منحطّة وأساليب دنيئة. إنّنا بصدد “تلوّث لغوي” سافر ومضطرد. تلوّث يرتكبه فاعلون تحرّكهم ماكينات “السحق” و”التدمير”. لقد أصبحنا إزاء وضعٍ غير مسبوق من “الاستعراء السياسي” في لبنان. ودونما أدنى تفكير في كيفيّة حماية المجال العامّ منه. سوء الظنّ يسبق الجميع. علاماتٌ لا تشي إلاّ بعقلٍ بشريٍّ مريض. أفرط في أمنياته وطموحاته. لا يسمع إلاّ نفسه. ولا يناقش إلاّ أفكاره.

هناك سمة أساسيّة مشتركة بين مرشّحي أحزاب السلطة. هي أنّ رائحة النذالة تفوح منهم جميعاً. ولو بنسَبٍ متفاوتة، تبعاً للأحجام والتجربة والتاريخ. يقول كارل ماركس أحد ألمع المفكّرين على مرّ العصور (الذي لا يستسيغه زعماء لبنان أبداً): “عندما يصبح البؤس معمَّماً، تصعد كلّ قمامة المجتمع إلى السطح مجدَّداً”. فكيف بحالنا اليوم، بعد أن تحوّل لبناننا التعيس إلى “البلد المزبلة”؟

كلمة أخيرة. بدأنا هذه السطور بالحديث عن صمتهم. ونُنهيها بالحديث عن صمتنا. لبنان صار مكاناً خطيراً جداً للعيش. ليس لكثرة الأشرار فيه. بل لصمت الأخيار عمّا يفعله الأشرار فينا وفيه. فمع الزمن، يقول الشاعر والعالِم الفقيه جلال الدين الرومي، “يتحوّل الألم إلى حزن، ويتحوّل الحزن إلى صمت، ويتحوّل الصمت إلى وحدة ضخمة شاسعة كالمحيطات المظلمة”. إقتضى أن نكسّر هذا الصمت الذي فينا.. إقتضى.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الزعامة العربية.. بورقيبة تونس نموذجاً