“ما بعرفن/ ما شايفن/ لفوا وجوههن بالقهر/ خبو سلاحهن بالوعر/ خبوا أساميهن/ ما في حدا بيشوفهن إلا إذا ماتوا/ وتعلقوا مثل التحف مثل القمر/ عم ينخطف من عندهن/ صاروا عدد مثل الخطر مارق على سهل الجمر”.
لقد تربينا في طفولتنا على هذه الأغنية للفنان اللبناني مارسيل خليفة (كلمات الشاعر الراحل عصام العبدالله)، التي تحكي حكاية المقاومين ضد الإحتلال، لم نكن نعلم حينها ونحن نرددها، أننا نعيش حرباً لا تقل أهمية عن حرب البندقية؛ حروب الإعلام. لكن المقاتل في حرب الإعلام عليه أن يظهر وأن يكون نموذجاً، وأن يلتفح بالضوء ليبني وطنه، خلافاً للفدائي الذي عليه أن يلتفح بالظلام ليضرب عدوه ويستشهد أحياناً ولا يعرف كثيرون حتى بإسمه.
كذلك إلتحفت الزميلة شيرين أبو عاقلة بالضوء علّها تساهم في كشف حقائق الاحتلال في وطنها فلسطين وبلدتها ـ مدينتها القدس، حتى استشهدت “متل القمر عم ينخطف” عن عمر 51 عاماً.
كان المشاهدون العرب الذين تعرّفوا على الفضائيات الاخبارية العربية قبل ما يزيد على الربع قرن يعرفونها جيداً، ويعرفون من خلالها كما العديد من زملائها الصحافيين، بعض جرائم الاحتلال. بالنسبة لفتيات عربيات كثيرات، فإن أبو عاقلة وزميلاتها أثلجن صدورنا، وهن يطوين صفحة تزعج المرأة العربية الجادة سادت في مرحلة التسعينيات.
إذ كانت الشاشة عموماً مخصصة لصنف واحد من النساء اللواتي ترى جمالهن قبل أن ترى القوة فيهن أو المعرفة أو الفكر أو الوعي، كانت مرحلة العشرين سنة الماضية، مرحلة مهمة للمرأة العربية عموماً وللإعلامية العربية خصوصاً عندما بدأت تظهر على الشاشة إعلاميات على قدر من الجرأة والمهنية، تخاطب المشاهد وتدعوه بحزم بأن لا ينظر إلى جمالها فقط بل إلى قوتها وجرأتها ومهنيتها ووطنيتها ومناقبيتها، وكانت الزميلة شيرين أبو عاقلة إحداهن، لا بل أبرزهن.
برغم عمل المراسلات العربيات عموماً في وسائل إعلام وفضائيات لا تتبنى القضايا العربية، إلا أنهن تمكنّ من بناء صورة إيجابية باتت المرأة العربية بحاجة إليها بعد أن تكالبت عليهن نماذج تختصر المرأة في الجسد والشكل الخارجي فقط، فكانت أبو عاقلة وزميلاتها في مطلع هذه الألفية نماذج أثْرَتْ المرأة العربية في هذا الجانب وغيره
لا يمكن إنكار أن حضور الزميلة أبو عاقلة ونماذج عديدة لمراسلات من فلسطين ولبنان والعراق ودول عربية أخرى (نخص هذه البلدان الثلاثة كونها تعيش في إطار نزاعات، وللمراسلات فيها خصوصية عالية) ساهم بشكل كبير في تحرير شابات عربيات كثيرات من حبس الجسد الجميل إلى ساحات الجرأة والوعي والموقف.
وهنا لا بد ان نستذكر الإعلامية العراقية الشابة والواعدة أطوار بهجت، التي قُتلت في العراق وهي ابنة ثلاثين عاماً في العام 2006.
إن كنا في هذه المرحلة مجبرين على بدء طي صفحات مراسلات إعلاميات في وقت مبكر إلى هذا الحد، فلا بد من القول، إننا في العالم العربي شهدنا في هذه الألفية البائسة إيجابية عندما لمع نجم مراسلات اعلاميات وصحفيات في فلسطين والعالم العربي، ولهذا قيمة عالية جداً، فالحروب منذ ثمانين عاماً ثقافية ـ إعلامية، أي أنها حرب الوعي أولاً، وكان لا بد أن يكون هنالك نماذج تُرسخ صورة المرأة الجادة والمدركة لـ”المشروع” ومخاطره.
ولو أن الزميلات المراسلات كن في وسائل إعلام تعمل فعلياً لمصلحة قضايا أوطانهن وأمتهن، لكان تأثيرهن أكبر وأعمق. مع ذلك، وبرغم عمل المراسلات العربيات عموماً في وسائل إعلام وفضائيات لا تتبنى القضايا العربية، إلا أنهن تمكنّ من بناء صورة إيجابية باتت المرأة العربية بحاجة إليها بعد أن تكالبت عليهن نماذج تختصر المرأة في الجسد والشكل الخارجي فقط، فكانت أبو عاقلة وزميلاتها في مطلع هذه الألفية نماذج أثْرَتْ المرأة العربية في هذا الجانب وغيره.
ما سبق، إضافة إلى الحزن الكبير على الزميلة أبو عاقلة التي لم تكل يوماً عن نقل صورة جرائم الاحتلال، شأنها في ذلك شأن زملائها من المراسلين والمراسلات في الأراضي الفلسطينية، والذين لا يختلفون أبداً عن المناضلين في ساحات القتال، أقول ما سبق لا يمنعنا من قول كلمتين في السياسة، لوضع الحزن في سياقه الحقيقي، وحتى لا يتم تجيير الحزن الذي تستحقه الزميلة المناضلة لمصلحة مؤسسات أو مشاريع لا تخص القضية الفلسطينية المركزية.
للأسف الشديد، فإن هذه الطاقات الغنية من الزملاء المراسلين، الذين تمكنوا من رفع سوية الإعلام العربي بطاقاتهم وإبداعهم ووطنيتهم، لم تندرج ضمن مؤسسات إعلامية تتبنى قضايانا القومية، ولا يمكن لوم الزملاء أبداً على ذلك، نظراً لغياب وسائل إعلام عربية منسجمة مع مشاريعنا الوطنية. ومن المعلوم أن غياب وسائل الإعلام المنسجمة مع قضايانا، يعود لغياب مشروع قومي عربي حقيقي حتى الآن.
قد يقول قائل، بأن هذه الفضائيات تفضح جرائم الاحتلال، نعم صحيح، لكن من قال إن دور الإعلام يقوم على الفضيحة فقط؟ دور الإعلام يقوم على البناء، والسؤال المهم طرحه، كيف لوسيلة إعلام ساهمت وتساهم في فضح الاحتلال أن تقف ضد سوريا الدولة لمصلحة الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل خلال الأزمة السورية وغيرها من الأزمات العربية الكبرى؟
إن فضائيات عربية عديدة، بنت مصداقيتها على مهنية وتضحيات زملاء مناضلين أمثال شيرين أبو عاقلة، لكنها للأسف لا تعمل لأجل قضايانا العربية، بسبب غياب المشروع العربي، وهذا الأمر وإن كان يثير الحزن على واقعنا مرّة، فإنه يثير الحزن على من ضحى بروحه لأجل وطنه ومهنته كما الزميلة أبو عاقلة مرات عديدة.
كلنا يعلم أن الصحافي عندما يقتحم الساح لا يكون مجرد سائح فقط، بل يحلم بغد أفضل، وما الفائدة من قول الحقيقة إن كان سيتم تجييرها لمصلحة العدو في نهاية المطاف؟
في مرحلة التسعينيات وفي عز تبعيتنا الإعلامية للغرب، كانت الفضائيات العربية وليدة، وبعد ان كانت القنوات الأميركية مصدرنا في حرب العراق عام 1990، بدأ يشتد عود الفضائيات العربية في انتفاضة الأقصى، وبعد ذلك فوراً في مرحلة احتلال بغداد من قِبَل الولايات المتحدة، لتصبح قنواتنا العربية مصدر المعلومة للغرب، ويوم احتلال بغداد أجمع الكل على أن الرابح العربي الوحيد في تلك الحرب كان الإعلام العربي، لكن بعد عشرين عاماً تبين أننا يجب أن نتوقف ونراجع التجربة، ونسأل: لمصلحة أي مشروع تم تجيير جهد الزميلة أبو عاقلة ورفاقها ورفيقاتها؟ لا لشيء.
كي لا يذهب دم الزميلة أبو عاقلة، وشهداء إعلاميين منتظرين هدراً، لا بد من المراجعة وأخذ العبر.