الإنتخابات محطة استعراضية وفرصة لتنفيس الإحتقان النفسي كل أربع سنوات، على شاكلة بطولة كأس العالم. في بطولة كأس العالم التي تستمر لحوالي الشهر، ينتهي هذا الإستعراض في المباراة النهائية، فالمهم ليس من يلعب بشكل أفضل وخطة متقنة، بل تنحاز غالبية الجماهير (أكرّر، غالبيّة الجماهير، وليس جميعها) لاصطفافات وهمية، يكبر ويتربى على اعتناقها، وتتحوّل بفعل الإعلام والدعاية إلى قضيّة شخصية. الغالبية الساحقة ممن ترفع علم هذا البلد أو ذاك تصرخ وتهتف للاعبين وفرق، لن ينالهم شيء مما سيحصده أو يحصل عليه هؤلاء، من مكافآت وجوائز وأموال بعد انتهاء البطولة، وسيستيقظ الجميع في اليوم التالي، من فاز فريقه ومن خسر، ليواجه الحياة بكلّ مصاعبها ومآسيها وأفراحها القليلة. وحدهم اللاعبون سيتمتعون بنعيم المال والشهرة، إضافة إلى القنوات التي كانت تُحرّض وتبثّ الحماسة المُصطنعة في نفوس الجماهير المتعطشة لفوزٍ واهم، فيما تحصد هي مئات ملايين الدولارات وربما أكثر.
عام 2009 أدركتُ أنّ التغيير لا يمكن أن يتمّ من خلال أدوات نظام ولّادة أزمات، وغير قابل للإصلاح والتطوير، بل الحلّ الوحيد هو في تغييره، إن أمكن. لا عدالة ولا إنصاف في الإنتخابات اللبنانية، ككرة القدم، قد تقدّم لعبًا ممتعًا وخطة محكمة، لكن يكفي بعض الحظ كي تنقلب النتيجة رأسًا على عقب، وكي يفوز الفريق الأقل استحقاقًا بالبطولة ليتربع على عرش الصدارة لأربع سنوات. في تلك الإنتخابات، كانت “الأغلبية الشعبية” مع “قوى الثامن من آذار” ومن ضمنها التيار الوطني الحرّ، بينما حصدت قوى “الرابع عشر من آذار” الأغلبية النيابية!
خدعة التغيير
يمكن القول، بأنّ أكثر السياسيين نفاقًا وخداعًا وتضليلًا للرأي العام في لبنان، أولئك الذين يوهمون الجماهير بقدرتهم على تغيير الواقع، هؤلاء تحديدًا هم قاتلو الأمل والإرادة والتغيير، عرفوا ذلك أم جهلوا، النتيجة واحدة. ولأجل تأكيد هذا الإتهام فلننطلق من السؤال الأول: ما هي المشكلة الكبرى في لبنان؟ لا أعتقد أنّ أيّ عاقل سيتردد في القول أنّ طبيعة نظامنا الطائفي، الذي مهدت له دول الإستعمار الغربي أثناء احتضار السلطنة العثمانية، للتدخل في شؤونها والتأثير عليها، ثمّ رسّخته بعد زوال السلطنة وسقوطها، هو العلّة الكبرى والسبب الأوّل لتفريخ الأزمات الداخليّة التي لا تنتهي، وهو أمر ضروري من أجل التأثير على المحيط الأوسع ومدّه بالأزمات، وذلك حفاظًا على قدرة الغرب في التأثير، وحماية القلعة المتقدمة له في فلسطين المحتلة.
كل الذين رفعوا شعارات التغيير، حين انخرطوا في السلطة وأصبحوا داخلها ابتلعهمم “السيستم”، وباتوا أسرى لعبة التوازنات الداخلية. الحلّ الوحيد للتغيير الحقيقي في أي بلد يعاني الظلم والقهر والإستعباد، هو في قيام ثورة تحرّك كلّ الجماهير، تتشارك في رفضها للواقع القائم، وتصبو تحت راية واضحة من أجل هدف محدد. لم تأتِ الثّورات الفرنسيّة والبلشفيّة والخمينيّة بفعل الدخول إلى “السيستم” ثم العمل على تطويره وتحسينه، تمّ اقتلاعه من الجذور، ولو بنسب مختلفة.
قريبًا جدًا سيشاهد اللبنانيون الفارق بين الشعارات الرنانة، وبين العمل بالأدوات المتاحة والإمكانات المحدودة، أو المعدومة، لكن ما سيتركه مدّعو التغيير، هو توسيع دائرة الإحباط وتعزيزها في نفوس الناس، وتيئيسهم من أيّ قدرة على التغيير، هؤلاء هم حماة المنظومة وجنودها الأوفياء.
إنتخابات 2022
قبل الإنتخابات الأخيرة، كنت وبعض الأصدقاء نستشعر رفض الجميع بالتسليم بالهزيمة أو الخسارة أو التراجع، فلا الأغلبية حافظت على تفوّقها، ولا المعارضة حازت الأغلبية، ولا القوى التغييرية اكتسحت المشهد، والجميع كما توقعنا، يدّعي الإنتصار ولا أحد يتبنى الخسارة. لكن كان لافتًا للإنتباه، على غير عادته، أن يصرّ بعض إعلام الأغلبية السابقة على نفي التراجع، من خلال التحايل على وجوه لم تعلن موقفها حتى الآن، وحسنًا فعل السيد حسن نصرالله، حين أقرّ بأنّ الأغلبية فقدت نصابها، وأننا أمام مشهد جديد لن تتضح معالمه إلّا في أوّل استحقاق نيابي، وهو انتخاب رئيس المجلس النيابي ونائبه.
ماذا لو قدّم حزب الله برنامجًا إنتخابيًا يقوم على دراسة علمية وحقيقيّة لإصلاح الكهرباء؟ ماذا لو قال لأهل الشمال والمتن والشوف والبقاع والجنوب وبيروت، بأنّنا وضعنا دراسة مفصّلة وجاهزة للتنفيذ لإصلاح الكهرباء، وسنقاتل خلال مدة المجلس القادم من أجل من يحبنا ومن يُبغضنا، لأنّ الطاقة هي المدماك الأوّل لأي نهوض حقيقي لاقتصاد البلد واستعادة عافيته
لكن لماذا فقد حزب الله الأغلبية مع حلفائه، وأين تكمن نقاط ضعفه؟
اوّلًا، لقد تضرّر التيار الوطني الحرّ بشكلٍ أو بآخر، من خلال الحملة الداخلية والخارجية التي شُنّت عليه، وبرأينا هذه الحملة لا تتصل تحديدًا بدوره في الأزمة السياسيّة والإقتصادية القائمة، وإن تم الإستفادة منها، بل تنطلق من كونه يُشكل أهمّ غطاء لحزب الله تحديدًا. باتت المعركة على أسوار التيار، وأصبح الحديث عن الأغلبية المسيحية جديًا وبالنقاط، بعد أن كان الفارق شاسعًا، مما قد يدفع التيّار إلى إعادة قراءته للمشهد ودفعه لأخذ خياراتٍ تُخفّف عنه ضغط واشنطن وممالك ومشيخات وإمارات الخليج.
ثانيًا، أظهرت نتائج الجنوب أنّ هناك قوًى وطوائف تمّ خلق زعامات وهمية وفرضها عليها بقوّة العدد، أرقام كل النوّاب غير الشيعة تدلّل على ذلك. ولو قُدّر لتيار المستقبل أن يشارك في هذه الإنتخابات، لرأينا خرقًا ثالثًا للائحة الأمل والوفاء في دائرة الجنوب الثالثة.
ثالثًا، أصبح حلفاء حزب الله من الطائفة السنيّة، يشعرون بحاجة ملحّةٍ للتمايز عنه، ويكاد معظم هؤلاء يُردّد بأنّ لا شيء يجمعنا مع حزب الله سوى المقاومة، وهذه نقطة ضعفٍ لا يمكن التغاضي عنها، وفوز النائب أسامة سعد والدكتور عبد الرحمن البزري مؤشر إلى قدرة البعض على تغيير خطابه وتحلّله من دعم حزب الله والإستغناء عنه، فالإتكال على عضلات حزب الله لم يعد مفيدًا بل أصبح مضرًا.
رابعًا، انساق حزب الله إلى العنوان الذي وضعه خصومه للمعركة حول سلاح المقاومة، وهو بدا سعيدًا بذلك، إذ أطلق عليها “معركة تموزٍ السياسيّة”، واعتبرها استفتاءً على سلاح المقاومة. صحيح أنّ خصومه قد تكفّلوا بتجييش جمهوره واستعادتهم للمترددين والمعترضين، لكن من جهة أخرى، أثبت هذا العنوان أنّه استطاع تجييش البيئات الأخرى وتحريكها ضد جميع حلفاء الحزب، ما أدّى إلى سقوط عددٍ من حلفائه، وخسارته الأغلبية، إضافة إلى خلق صورة عن أنّ سلاح المقاومة هو سبب المشكلة ومحلّ النزاع الأوحد والأساسي، بينما الحقيقة تشي بأمر واحد: كل شيء في لبنان مهدد إلا سلاح حزب الله!
خامسًا، عدم وجود مشروعٍ سياسي إقتصادي إجتماعي واضح المعالم، يجمع بين المتحالفين، إذ لا يكفي أن يكون عنوان المقاومة هو الجامع الوحيد. نعم قد تكون المقاومة منطلقا وقاعدة صلبة لبناء مجالٍ أوسع للتفاهمات، لكن من غير المنطقي أن تخوض انتخابات عام 2022 من أجل حماية المقاومة (التي تتحيّن الفرصة لإزالة إسرائيل من الوجود). بل على العكس، ظهر حماة المقاومة على أشدّ درجات الخصومة والتنازع، وإليكم جزين نموذجًا.
ضرورة الإعتبار
هناك حاجة ملحة لإعادة بناء خطاب جامع وواضح بين حزب الله وجميع حلفائه، ولا شيء يمكن أن يحقّق ذلك، سوى وضع مشروع واقعي، وأهداف مشتركة، تدفع الجميع للعمل لأجلها. من الضروري الدخول إلى الساحات الأخرى مباشرة، ومخاطبةِ الجمهور والإحتكاك معه، والإجابة على أسئلته وهواجسه. على سبيل المثال، لقد تضرّرت صورة التيار الحر وحزب الله معًا، بسبب وجود تناقضات عصية على التفكيك والفهم بين الجمهورين، فلا حزب الله استطاع إقناع جمهور التيار بحساسيّته المفرطة تجاه تقليص علاقته مع بعض الحلفاء، ولا التيار الحر استطاع تبرير سقف خطابه الطائفي النافر والحادّ.
أمّا بالنسبة لممثّلي بعض الأحزاب والطوائف، فقد تكون هذه الإنتخابات فرصةً مناسبة ليعيد حزب الله تقييمه لحجم بعض الحلفاء، بالإضافة إلى تفهّمه لرغبة البيئة المحيطة والمختلطة معه. حتما يمكن إيجاد بدائل أكثر قبولًا وانسجامًا مع بيئتها، وإن كان الثمن أن تكون أقلّ مطواعيّة للحزب في بعض الخيارات غير المصيريّة، ولا داعي له للإستمرار بلعب دور المُضحي من أجل إضافة أوزان وهميّة لبعض حلفائه، لأنّه سيكون أوّل من يدفع ثمن الإعتراض والرفض.
إضافة إلى أنّه لم يكن من الصواب الإنجرار إلى عنوان المعركة التي حدّدها الخصوم. صحيحٌ أن المقاومة محل اختلاف بين القوى السياسية المحلية، لكن كان من الأولى رفع شعارات تتصل بحاجات كلّ اللبنانيين، ماذا لو قدّم حزب الله برنامجًا إنتخابيًا يقوم على دراسة علمية وحقيقيّة لإصلاح الكهرباء؟ ماذا لو قال لأهل الشمال والمتن والشوف والبقاع والجنوب وبيروت، بأنّنا وضعنا دراسة مفصّلة وجاهزة للتنفيذ لإصلاح الكهرباء، وسنقاتل خلال مدة المجلس القادم من أجل من يحبنا ومن يُبغضنا، لأنّ الطاقة هي المدماك الأوّل لأي نهوض حقيقي لاقتصاد البلد واستعادة عافيته. ماذا لو رفع حزب الله شعار إستعادة الأموال المهربة وحماية ما تبقى من ودائع من خلال آليات تنفيذية واضحة؟
لقد قدّم الخصوم عنوانًا خلافيًا للمعركة الإنتخابية، وكان من الأولى بحزب الله تقديم عنوانٍ جامعٍ لكل البلد، يرفع من شأن خطابه في كلّ المناطق والبيئات اللبنانية.
كلمة أخيرة، حين يضع القاتل سيفه على رقبتك في حولا والخيام وابل السقي وشبعا وحاصبيا، وحين يقتل إخوانك وجيرانك، فإنّه من الخطأ استفتاء الجميع إن كان يقبل أو يرفض مقاومتك. لا يجب ولا تحت أي ظرفٍ ولا بأيّ شكلٍ أن يخضع خيار المقاومة للإستفتاء، خاصة من خلال لعبة الإنتخابات المملّة، المقاومة خيار الذين قُتلوا وشرّدوا واعتقلوا ونُكّل بهم لعشرات السنين، ولو اجتمع العالم بأسره، وجميع من في الداخل، على رأي تسليم سلاح هؤلاء، فليُرمى برأيهم جميعًا، قبل تقديم بديل يُخيف كلّ طامعٍ بأرضهم.