ترك الدبلوماسي الأميركي ديفيد هيل بصمة في الملف اللبناني الذي إعتاد أن يصول ويجول فيه منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى حد أن البعض صار يعتبره “خبيراً محلفاً في الملف اللبناني” ضمن الفريق الدبلوماسي الأميركي المعني بملفات الشرق الأوسط، قبل أن يتقاعد مؤخراً.
هذا الدبلوماسي وصل إلى بيروت غداة إنهيار الإتحاد السوفياتي وإنتهاء الحرب الباردة، بصفته المسؤول السياسي في السفارة الأميركية، ولم يتردد في الإنفتاح على أطياف لبنانية عديدة، بما فيها الحزب الشيوعي اللبناني حينذاك. طبعاً هو نسخة طبق الأصل عن معظم الموظفين في الإدارات الأميركية المتعاقبة في النظرة إلى ملف الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بحيث يكون الإنحياز “بلا قفازات”.
في العام 2013، عاد ديفيد هيل إلى بيروت، لكن بصفته سفيراً لبلاده، وفي لحظة إقليمية ولبنانية إستثنائية. لم تمض شهور على وصوله إلى بيروت، حتى أطل الفراغ الرئاسي، بعد إنتهاء ولاية ميشال سليمان في أيار/مايو 2014.
في صيف العام 2016، أخذ ديفيد هيل على عاتقه وصفة “التسوية الرئاسية” بين التيار الوطني الحر (ممثلاً برئيسه جبران باسيل) وتيار المستقبل (ممثلاً برئيسه سعد الحريري)، وهي التسوية التي إرتكزت إلى “وهم” فوز المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون في الإنتخابات الرئاسية المقررة في تشرين الثاني/نوفمبر 2016. سقطت كلينتون، بعكس ما كان يشتهي ديفيد هيل وأركان التسوية الرئاسية، وأدى فوز دونالد ترامب إلى تهاوي التسوية تدريجياً، بدءاً من صدمة إعتقال الحريري في خريف العام 2017 وصولاً إلى إستقالة الحريري من رئاسة الحكومة في 2019، بالتنسيق مع ديفيد هيل أيضاً.
واللافت للإنتباه أن يتزامن وصول سعد الحريري، في الساعات الأخيرة إلى العاصمة الأميركية، مع موقفين، الأول صدر قبل يومين من موعد الإنتخابات النيابية عن الدبلوماسي الأميركي الأسبق ديفيد شينكر الذي أمسك لفترة زمنية بالملف اللبناني، حيث هاجم في ندوة أقامها معهد واشنطن فريق 14 آذار وشخصيات المجتمع المدني وشرح كيف وضعت الولايات المتحدة جبران باسيل على لائحة العقوبات.
أما الموقف الثاني، فقد صدر عن ديفيد هيل نفسه، وذلك قبيل وصول الحريري إلى واشنطن وبٌعيد إنتهاء الإنتخابات النيابية وصدور نتائجها بساعات قليلة، وفيه حذَّر من مصير غامض ينتظر البرلمان اللبناني الجديد، “المنقسم” على حد وصفه، وأزمة حكومية ستطول إلى أمد غير محدد، وشللٌ يهدد لبنان في القادم من الأيام.
ماذا تضمنت مقالة هيل حرفياً؟
“قبل الانتخابات النيابية اللبنانية، التي جرت يوم الأحد في 15 أيار/مايو، كانت هناك أفكار تفاؤلية راودت الكثيرين؛ خصوصاً من المراقبين الخارجيين؛ بأن المرشحين المستقلين سيتمكنون من استغلال يأس وغضب اللبنانيين العاديين على النُخب التي أوصلت بلدهم إلى الهاوية الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وبالتالي ينجحون في حجز مكان لهم في العملية السياسة المقبلة. كما سرت تكهنات بأن نتائج الانتخابات ستوجه ضربة لحزب الله وحلفائه المسيحيين. لكن الوقائع التي تكشفت بعد ظهر يوم الأحد بيّنت أن كل ذلك التفاؤل كان مجرد أوهام بسبب مفاهيم أو اعتقادات خاطئة. فبرغم العملية الديموقراطية التي سرت، وبرغم الانتكاسة التي طالت حلفاء حزب الله المسيحيين، وبسبب البنية السياسية الطائفية لهذا البلد، فإن ما ينتظر لبنان في القادم من الأيام هو حالة من الشلل.
الانتصارات الانتخابية تمنح حزب الله الشرعية للمناورة في الداخل والتأثير في السياسة الداخلية، وعرقلة مشاريع المعارضة، وتوجيه موارد الدولة إلى ناخبيه الشيعة
ثلاثة مفاهيم خاطئة
الاعتقاد الخاطئ الأول، الذي حوّل التفاؤل إلى إحباط، هو أن تقليص حضور حزب الله داخل البرلمان، وإضعاف تحالفاته سيقلّل من قوته. وفي الواقع، إن النفوذ الذي يحققه حزب الله في الانتخابات، وبالتالي حضوره داخل البرلمان، ليس سوى نتيجة ثانوية؛ ولكن مفيدة؛ لهيكل سلطته الموازية خارج الدولة. وهي سلطة قوية بما يكفي لأنها قائمة على السلاح والمقاتلين والخدمات والأموال غير المشروعة. فالانتصارات التي يحققها حزب الله من خلال صناديق الإقتراع تمنحه الشرعية لممارسة دور يستطيع من خلاله التأثير في السياسة الداخلية، وعرقلة مشاريع المعارضة، وتوظيف موارد الدولة لصالح ناخبيه الشيعة. لكن السلطة الحقيقية والقوة الأساسية لهذا الحزب تكمن في ميليشيا تقف في مواجهة سياسيين عُزّل ومحبطين لأنهم لا يجرأون على التحدي. فحزب الله، دون سواه من الميليشيات اللبنانية، نجح في الإفلات من بند نزع السلاح الذي نص عليه إتفاق إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وذلك بذريعة “مقاومة” الاحتلال الإسرائيلي الذي انتهى قبل أكثر من عشرين عاماً.
الإعتقاد الخاطئ الثاني، هو أن الانتخابات اللبنانية يُمكن أن تُنتج الحكومة الناشطة اللازمة لإستعادة الثقة في الحكم وفي الشؤون المالية وغير المالية للبلاد. فقبل ثمانين عاماً، وافق زعماء الطوائف الدينية الرئيسية؛ مسيحيون ومسلمون ودروز؛ على قيام “دولة”، بشرط أن تكون “دولة ضعيفة جداً” بحيث لا يُمكن لأي طائفة بمفردها أن تستخدم الصكوك الرسمية للهيمنة على الطوائف الأخرى. لكن بمرور الزمن تطورت هذه “الدولة” إلى أكثر من مجرد آلة رعاية ومحسوبية؛ وقد تغاضى العديد من اللبنانيين عن الفساد المستشري طالما أن الغنائم يتم توزيعها بشكل متناسب بين الطوائف.
الاعتقاد الخاطئ الثالث كان أن المستقلين يستطيعون إحراز تقدم وحجز مواقع لهم في مثل هذا النظام المُغلق. فالانتخابات النيابية اللبنانية تجري في دوائر متعددة المقاعد، ويتم توزيع هذه المقاعد وفق صيغة ديموغرافية توافقية تم التوصل إليها في عام 1989، ولكنها لم تعد تعكس الواقع. فالمواطن اللبناني يحق له التصويت لمرشح واحد لكل مقعد في منطقته، بما في ذلك المقعد المخصص لطوائف غير طائفته. ويشكل زعماء المناطق قوائم خاصة بمرشحيهم؛ كلٌ في منطقته؛ ويشجعون أتباعهم على المصادقة على الأمر برمته. ويكون التنافس الحقيقي في معظم الدوائر هو الحصول على القائمة السائدة التي يقودها المجتمع المهيمن والزعيم المهيمن. وغالباً ما تكون نتائج الاقتراع النهائية أمراً مفروغاً منه سلفاً.
من الصعب إدخال مستقلين حسب الطلب في نظام يُفضل قوائم الأسعار الثابتة، خاصة إذا لم يشكل المستقلون تحالفات خاصة بهم، كما فشلوا يوم الأحد. وبدلاً من ذلك، يمكن للطامحين المستقلين أن ينجذبوا إلى عشرات المقاعد التي ظلَّت تنافسية برغم الأثر المحبط للانتخابات حسب القائمة؛ لكنهم ما زالوا يواجهون الموارد والآليات المتفوقة للزعماء والأحزاب التقليديين. فهذه المرة، ووسط كل هذه الصعاب، فاز فقط 15 مستقلاً حقيقياً جديداً من أصل 128 مقعداً.
والجدير ذكره هنا هو أن انتخابات عام 2022 لم تشمل تيار المستقبل، الإئتلاف الذي يهيمن عليه السُنة بقيادة سعد الحريري، نجل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، الذي أُغتيل على يد حزب الله في عام 2004 (الأصح في عام 2005) والجدير ذكره أيضاً أن التمويل السُني- العربي- الخليجي ساعد مشروع الحريري؛ بداية؛ في مواجهة تمويل إيران لمشروع حزب الله. لكن هذا التمويل تبخر مع سأم قادة الخليج من الاستثمارات التي لم تحقق أي تقدم حاسم ضد وكيل إيران في لبنان. فقد انسحب سعد الحريري من المشاركة في انتخابات 2022، متذرعاً بنفوذ حزب الله العسكري. والمشاركة السنية المتدنية؛ الناتجة عن هذا الإنسحاب؛ تثبت أن الحريري لا يزال يقود دائرته الانتخابية، وأن غيابه فتح المجال أمام معظم تلك المنافسات القليلة التي فاز بها مستقلون.
شلل لبنان
كانت المكاسب التي حققتها المعارضة المسيحية المناهضة لحزب الله، يوم الأحد، مثيرة للإعجاب ولكنها غير كافية لها لقيادة المشهد السياسي المقبل. ومن الجدير ذكره هنا أن كتلة حزب الله – حركة أمل حصلت على جميع المقاعد الشيعية، البالغ عددها 27 مقعداً، ما يمنح هذا الفصيل نفوذاً لحسم أي خيار سياسي مقبل. ففي أعقاب إعادة انتخاب نبيه بري المتوقعة لمنصب رئيس البرلمان، ستكون الخطوة التالية هي تشكيل حكومة قادرة على كسب ثقة البرلمان. وسينتقل رئيس الوزراء نجيب ميقاتي إلى منصب تصريف الأعمال لفترة زمنية غير محددة. وقد تكون المناورة المرتقبة أكثر صعوبة وأطول أمداً من المعتاد في مثل هذا البرلمان المُنقسم بشدة.
يمكن لحزب الله وحلفائه مقاطعة التصويت على الثقة لأي حكومة يعتبرونها غير ممثلة، مما يشل العملية السياسية برمتها
وقد تطالب المعارضة المسيحية القوية بإستبعاد حزب الله من الحكومة كشرط لمشاركتها فيها أو التصويت على الثقة. ومع ذلك، تخضع الحكومة لنفس صيغة تقاسم السلطة الطائفية التي يخضع لها البرلمان، حيث يُخصص للشيعة 20-25٪ من الوزارات، بحسب العدد الإجمالي. وبالنظر إلى سيطرة حزب الله، فإن الشيعة هم وحدهم الذين سيرغبون في الإنضمام إلى مجلس الوزراء دون مباركته. وعلى أي حال، يمكن لحزب الله وحلفائه مقاطعة التصويت على الثقة لأي حكومة يعتبرونها غير مناسبة، مما يشل العملية برمتها أيضاً.
عون أمام 3 خيارات
الانتخابات الرئاسية، المقرر إجراؤها في موعد أقصاه 31 تشرين الأول/أكتوبر 2022، ستؤدي بدورها إلى مزيد من التوتر. تجري العادة أن ينتخب البرلمان الرئيس الماروني بأغلبية ثلثي الأصوات. وحصل أن أدت هذه المناسبة إلى أزمة طويلة الأمد. فقد تم تمديد فترة ولاية بعض الرؤساء؛ في ظلّ شرعية مشكوك فيها؛ وغادر آخرون قصر الرئاسة في الوقت المحدد لهم لكنهم تركوا المنصب شاغراً. كما من المرجح أن يهيئ الرئيس الحالي ميشال عون وريثه السياسي وصهره جبران باسيل لخلافته. لكن من غير الواضح كيف سيستطيع باسيل تأمين الدعم البرلماني المطلوب.
هذه المشكلة تترك الرئيس عون أمام ثلاثة خيارات. الخيار الأول أن يسعى إلى تمديد فترة ولايته لنفسه، أمر الذي يتطلب التصويت بأغلبية الثلثين، وهذا بدوره يحتاج إلى إقرار مشروع قانون من مجلس الوزراء، الأمر الذي قد لا يتحقق قبل الموعد النهائي.
الخيار الثاني لعون هو أن يدعم خيار حل وسط، وهو ما رفضه في السابق.
أما الخيار الثالث فهو أن يترك المنصب شاغراً في 31 تشرين الأول/أكتوبر؛ ما يعني أن لبنان سيكون بلا رئيس جمهورية، وبلا رئيس وزراء وبلا حكومة. أما بالنسبة لأولئك، الذين يعتمدون على الإصلاحات المطلوبة لاستعادة الثقة وإطلاق العنان للعجلة المالية، ووضع حد للسقوط الاقتصادي الحر الذي تعيشه البلاد، فقد يضطرون إلى الانتظار طويلاً قبل كسر هذا المأزق. لكن المشكلة الكبرى هي أن لبنان لم يعد لديه متسع من الوقت.
ماذا بعد؟
في لحظات الخلافات الداخلية الحادة، يتطلع العديد من اللبنانيين إلى الجهات الفاعلة، الإقليمية والدولية، على أمل التدخل وفرض حلول ما. ومع ذلك، فمن المرجح أن يكون اللاعبون الأجانب إما راضين عن الشلل اللبناني، أو غير راغبين في التوصل تسويات أو حلول وسط على حساب وكلائهم، أو أنهم يواجهون صعوبة ما في ربط النقاط بين الديناميكيات اللبنانية ومشاكل الشرق الأوسط الأوسع نطاقاً. ثمة احتمال أن يسعى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى رعاية حوار بين اللبنانيين حول صيغ جديدة وجريئة لإدارة الحكم في البلاد. لكن مثل هذا النهج فيه ما يكفي من المخاطرة لفتح “صندوق باندورا” من التوتر والصراع الطائفي الجاهز للاستغلال من قبل حزب الله.
نهج واشنطن المُتذبذب تجاه لبنان، المتمثل بفترات طويلة من الإهمال يتبعها نشاط في وقت الأزمات فقط، ليس مثالياً
بالنسبة للمسؤولين الأميركيين، فقد حان الوقت لتقييم ما إذا كان لبنان يمثل أولوية، وفهم سبب نمو حزب الله من كيان إرهابي صغير وخطير إلى الوحشية التي هو عليها اليوم بالرغم من أربعين عاماً من المعارضة الأميركية. والواقع أن النهج الأميركي المتذبذب في التعامل مع لبنان ليس مثالياً؛ بعد وهو نهج يُختصر بفترات طويلة من الإهمال يعقبه نشاط وقت الأزمات فقط. كما يجب التخلص من الرواية الخيالية القائلة بأن معاقبة حلفاء حزب الله من غير الشيعة؛ عن طريق فرض عقوبات عليهم؛ سوف يؤدي إلى تآكل أساسيات سلطة الحزب وقوته، التي تقع خارج التحالف السياسي وهيكل الدولة.
يجب أن تكون الولايات المتحدة واقعية، ومعتدلة، ومستعدة للتصرف إذا إنهار لبنان، وعندما ينهار لبنان. إن السياسة الأميركية الحالية المتمثلة في بناء الجيش والشرطة اللبنانيين كقوى إستقرار، والميل الشديد لجعل الإعانات المالية مشروطة بالإصلاح، تساعد واشنطن في أن تكون في أفضل وضع ممكن بالنظر إلى الظروف الحالية”.
– ديفيد هيل، وكيل وزارة الخارجية الأميركية السابق للشؤون السياسية؛ وسفير سابق في باكستان ولبنان والأردن
(*) النص الكامل لمقالة ديفيد هيل بالإنكليزية: https://www.wilsoncenter.org/article/lebanons-election-offers-no-salvation