بعد سنوات تم تبنى أول تعديل فى الدستور الأمريكى للتأكيد على عدم قيام الكونجرس بأى حال من الأحوال بسن تشريع قائم على أساس دينى. ورغم ذلك كان هوى أمريكا ومنذ بدايتها بروتستانتيا مسيحيا بلا جدال، إلا أن ذلك لم يوح~د آراء المسيحيات والمسيحيين الأمريكيين تجاه قضية حق الإجهاض، وأصبحت أهم قضية عاكسة لدور التعاليم الدينية فى الحياة العامة والخاصة للأمريكيين.
***
دفع تسريب حصلت عليه صحيفة “بوليتيكو” لمسودة مبدئية مسربة حول قضية الإجهاض، إلى تجديد حرب أمريكا الثقافية حول إحدى أهم القضايا المجتمعية التى تظهر عُمق الانقسام المجتمعى الأمريكى حول هذه القضية الحساسة.
كتب الوثيقة القاضى المحافظ صامويل آليتو فى العاشر من فبراير/شباط الماضى وجاءت فى 98 صفحة، وأهم ما تضمنته الوثيقة قول القاضى أليتو إنه «يجب إلغاء حكم قضية رو ضد وايد»، وهو القانون الذى ضمن حق الإجهاض على مدى 50 عاما.
وشجعت التغيرات التى شهدها تشكيل المحكمة الدستورية العليا 16 ولاية على فرض قيود جديدة على الإجهاض. من ناحيتها، أقدمت ولايات ميسيسبى وتكساس وأوكلاهوما وألاباما على تجريم الإجهاض عن طريق تمرير مشروع قانون لحظر إجراء الإجهاض فى جميع الحالات تقريبا، حتى الحالات التى تنتج عن الاغتصاب أو سفاح القربى. ويأمل المؤيدون ممن يتوقعون عدم تمرير هذه القوانين أن يتم عرضها للاستئناف أمام المحكمة العليا أملا فى قرار تاريخى جديد حول هذه القضية المهمة لقواعدهم الانتخابية.
***
كانت أبرز معارك الرئيس السابق دونالد ترامب التى انتصر فيها باستخدام سلاح الدين معركة تعيين ثلاثة قضاة فى المحكمة الدستورية العليا هم نيل جورستش وبريت كافانو وإيمى كونى باريت. ويُعرف عن الثلاثة أنهم محافظون اجتماعيا وملتزمون دينيا.
وتتكون المحكمة الدستورية العليا من تسعة قضاة، يخدمون فيها مدى الحياة وذلك عقب اختيارهم من رئيس الدولة وتثبيت مجلس الشيوخ لهم بأغلبية 60 صوتا. وفى حال حدوث فراغ إما لوفاة القاضى أو تنحيه عن العمل لأسباب خاصة به، يختار الرئيس الأمريكى قاضيا جديدا. ولا تملك أى جهة أن تنهى عمل أى قاضٍ بالمحكمة الدستورية العليا، وهو ما يضمن حريته وعدم وجود أى ضغوط عليه، بما يؤدى إلى توازن متوقع بين السلطات.
وتستمد المحكمة الدستورية العليا أهميتها من كونها هى الحكم الذى يفصل فى النهاية فى الخلافات بين الولايات والحكومة الفيدرالية، أو فى القضايا الشائكة الهامة وتصدر أحكامها فى قضايا كبرى مثل الإجهاض وحكم الإعدام وحقوق الناخبين وسياسات الهجرة وزواج المثليين.
وتتخذ المحكمة قراراتها بأغلبية الأصوات، وخلال العقود الأخيرة أصبحت القرارات المصيرية للمحكمة تتخذ بأغلبية خمسة أصوات مقابل أربعة وهو ما يعكس استقطابا حادا فى الحياة السياسية الأمريكية.
وأصبحت كفة المحكمة العليا المكونة من تسعة قضاة تميل لصالح القوى المحافظة، فهناك اليوم 6 قضاة محافظين و3 قضاة ليبراليين، وهو ما قد يهدد قوانين أمريكية تقدمية مثل حق الإجهاض وزواج المثليين. فى الوقت الذى تضمن فيه تركيبة المحكمة الدستورية العليا الحالية حماية واسعة لحق حمل السلاح حتى المتقدم منها (أسلحة أوتوماتيكية ونصف أوتوماتيكية) وذلك على الرغم من ارتفاع وتيرة حوادث القتل الجماعى داخل المدارس وخارجها.
***
قبل نصف قرن، أقرت المحكمة العليا عام 1973 الحق فى الإجهاض فى قضية تعرف باسم «رو ضد ويد». حيث أقرت المحكمة آنذاك أن الإجهاض شأن شخصى لا يحق للدولة التدخل فيه شريطة أن يحصل ذلك قبل حلول الأسبوع الرابع والعشرين من الحمل.
ومنذ حصول النساء الأمريكيات على دستورية حق الإجهاض، تم تقديم عدد من الطعون على هذا القانون، قوبلت كلها بالرفض حتى الآن. فقط تم إدخال العديد من القوانين المنظمة لحكم المحكمة بتقنين الإجهاض، إلا أننا على ما يبدو سنشهد معركة متجددة خلال أسابيع.
تقول أغلبية 59% من البالغين فى الولايات المتحدة إن الإجهاض يجب أن يكون قانونيا فى جميع الحالات أو معظمها، فى حين يعتقد 39% أن الإجهاض يجب أن يكون غير قانونى فى جميع الحالات أو معظمها.
ويؤمن التيار الشعبى الواسع المؤيد للسياسات المحافظة المتشددة اجتماعيا أن هناك صحوة دينية داخل أمريكا يصاحبها دعوات لدور متنامٍ للدين «المسيحى» فى المجتمع، وهو ما يمثل انعكاسا أو صدى لأفكار فريق كبير من الشعب الأمريكى الذى يقطن أغلبه المناطق الريفية أو الجنوب الأمريكى.
ويرى كثير من الفقهاء القانونيين المحافظين أن نصوص الدستور الأمريكى لا تعكس أيا من حق الحياة أو حق الاختيار فيما يخص الإجهاض. وعليه، لا يتوجب على المحكمة العليا اختيار جانب واحد على حساب الآخر فى أكثر القضايا الخلافية جدلا فى الحياة الاجتماعية الأمريكية.
وبعد عقود شهدت كثيرا من الإخفاقات للتيار المحافظ الداعى لوضع قيود على حق الإجهاض، بدأت تتبلور معالم تغيير بهذا الاتجاه فى الولايات المتحدة خلال السنوات القليلة الماضية، وهو ما سيؤدى إلى إلغاء القانون الفيدرالى المتعلق بالإجهاض ليعود مرة أخرى ليتبع قوانين كل ولاية على حدة، وهو ما يزيد من عمق الانقسام المجتمعى، وحدة الحروب الثقافية داخل أمريكا.
(*) بالتزامن مع “الشروق“