لبنان بلا صندوق النقد.. النموذج الفنزويلي آتٍ لا محالة

انهالت السكاكين طعناً باتفاق حكومة نجيب ميقاتي مع صندوق النقد الدولي. الطعن المبرح أتى من أعتى المشاركين في الحكومة اللبنانية، وعلى رأسهم التيار الوطني الحر وثنائي حركة أمل وحزب الله، إضافة إلى طعنات من أطراف أخرى أقل وزناً في الحكومة، ومن جهات معارضة أو تعتبر نفسها تغييرية، إلى جانب نحر في الخاصرة والظهر من جمعية المصارف ومناصريها في "حزب المصرف".

ما كاد يجف حبر الاتفاق بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي، وحبر بيانات الترحيب من الترويكا الرئاسية، ميشال عون ونبيه بري ونجيب ميقاتي، حتى بدأت التسريبات ثم البيانات والمقترحات المضادة والمواقف المنددة تطل برأسها. أولها، كان مساهمة التيار الوطني الحر في إجهاض إقرار مشروع قانون الكابيتال كونترول في الجلسات الأخيرة للمجلس النيابي السابق. وقبل الانتخابات أيضاً، تقدم نواب حزب الله بمشروع قانون لحفظ حقوق كامل المودعين، ثم كرر رئيس البرلمان اللبناني مقولة “قدسية الودائع”. طبعاً هذا قبل الإنتخابات.

غداة الانتخابات النياببة، كرّت السبحة، فتفتق ذهن نواب في التيار الوطني الحر عن اقتراح يقضي باستخدام أصول الدولة لتعويض المودعين، باتفاق تام حد التطابق مع نواب القوات اللبنانية، الحزب اللدود للتيار.. فيا للصدفة العجيبة!

وبالعودة الى “الثنائي” (امل وحزب الله)، فالأوضح والأكثر تعبيراً عن الارتباك، ظهر في الجلسة الأخيرة للحكومة، إذ رفض وزراء من الحزب والحركة الموافقة على خطة التعافي المبنية أساساً وحصراً على الاتفاق مع صندوق النقد. أما المفارقة الأقرب إلى الأحجية، فهي أن الرئيس بري كان أصدر بياناً في 7 نيسان/ابريل الماضي رحب فيه ترحيباً صريحاً بالاتفاق مع الصندوق، واصفاً “إياه بالإنجاز على طريق معالجة الأزمة، وبداية عودة لبنان الى سكة التعافي”.. فماذا عدا ما بدا يا ترى، حتى انقلبت المواقف رأساً على عقب؟

“إنهم لا يقرأون يا ابتاه”! فالاتفاق مع صندوق النقد يسقط من حساباته، بشكل صريح ومباشر، مقولة قدسية الودائع. ولا يشير إلا الى حماية صغار المودعين دون غيرهم وعند حد معين، ويتجنب دخول الدولة طرفاً في تعويض المودعين عموماً. وفي خطة الحكومة شطب للودائع صريح، وتحويل جزء منها الى أسهم في بنوك قابلة للاستمرار، اضافة الى بعض الليلرة باسعار صرف ليست تبعاً لسوق القطع.. أي، فتات بفتات!

وما حرص صندوق النقد على الحد من اي استخدام لأصول الدولة، إلا لضمان حفظ وديمومة ايرادات عامة أكثر من ضرورية لسد عجز الموازنة وسداد اقساط قروض الدين العام

أما عن اقتراح التيار الوطني الحر استخدام أصول الدولة لتعويض المودعين، فالاتفاق مع الصندوق واضح وضوح الشمس في هذا المجال أيضاً، ولا يأتي على ذكر شيء من هذا القبيل. لا بل يضع بنداً يحصر فيه الأمر نسبياً برسملة البنك المركزي فقط وبحدود 2.5 مليار دولار، علماً بان خسائر مصرف لبنان تزيد على 60 مليار دولار ويفترض شطبها وفقاً لما يطلبه الصندوق، ولو بشكل غير مباشر. والشطب يعني حكماً تحميل المصارف والمودعين العبء المقابل، سواء من الرساميل المصرفية التي ستختفي بالكامل أو من “هيركات” على كبار المودعين وغيرهم.

وما حرص صندوق النقد على الحد من اي استخدام لأصول الدولة، إلا لضمان حفظ وديمومة ايرادات عامة أكثر من ضرورية لسد عجز الموازنة وسداد اقساط قروض الدين العام. فعلى لبنان خفض نسبة دينه الى ناتجه من 175% إلى 100% في 2026 ثم الى 75% في 2032. وأي تفريط غير مسؤول بالأصول يجعل الاقتراض من الصندوق والجهات المقرضة الأخرى محل صعوبة ان لم نقل استحالة. والحرص هو شرط اسمه “استدامة الدين العام” بلغة الصندوق وجهات التمويل المتخصصة، حتى لا تتعتر الدولة مرة أخرى وتعلن توقفها عن السداد.

ومن الطعنات القاتلة للاتفاق ايضاً، سحب وزير المال يوسف خليل بند الدولار الجمركي من الجلسة الأخيرة لمجلس الوزارء. وبالتالي، فقدان موازنة 2022 موارد كانت تعتمد عليها لزيادة الانفاق الاجتماعي (مثل رواتب اضافية للموظفين وبدلات نقلهم..) وفقاً للاتفاق مع الصندوق الحريص على الأمن الاجتماعي أكثر من حرص كثيرين في لبنان. علاوة على تركيز الصندوق على ضرورة زيادة الايرادات من الضرائب والرسوم لسد عجز الموازنة المزمن والخطير. عجز قدر بنسبة 17% في 2022 وسيتضاعف حتماً مع عدم اقرار الدولار الجمركي. أما زيادة الإيرادات فمطلوبة بشكل متصاعد حتى 2032 على الأقل للتمكن من احتواء نسبة الدين الى الناتج، وإلا يفشل الاتفاق ويقع محظور التعثر من جديد.

***

على صعيد آخر، هناك جملة ملاحظات لا تقل أهمية أو خطورة وهي:

أولاً؛ أقر الاتفاق كما الخطة الحكومية المبنية عليه بالاسباب البنيوية التاريخية للأزمة، كما اقر بالخسائر التي سبق ووردت في خطة حكومة حسان دياب عام 2020، واتفق الصندوق آنذاك في مقاربات المعالجات التي وضعتها شركة لازار وعادت بغالبها الأعم مع الاتفاق الجديد. والسؤال الآن: من المسؤول عن هدر 20 مليار دولار من الاحتياطي، وضياع أكثر من سنتين وصولاً الى المجهول؟ هل تمر هذه الجريمة المالية كما غيرها مرور الكرام، أم ان على لجنة المال والموازنة النيابية السابقة المتمثلة فيها كل الاحزاب والأطياف السياسية والطائفية تقديم اعتذارها للشعب اللبناني لأنها غشّته يوم اعترضت على حجم الخسائر وضربت مسماراً في نعش مسار حكومة حسان دياب؟ وهل الاعتذار يكفي؟ ام هناك قصاص ما بحق اعضاء تلك اللجنة التي ناصرت المصارف، وأخذت بأقاويل حاكم مصرف لبنان، وبهدلت حكومة دياب شر بهدلة؟

إقرأ على موقع 180  الفلسطينيّ المُهمّش في "التجمعات".. "جل البحر" نموذجاً

ثانياً؛ ماذا عن رياض سلامة الذي كان من ضمن الفريق اللبناني المفاوض مع الصندوق والموافق على الاتفاق الذي وقعته حكومة ميقاتي؟ ماذا عنه وهو الممعن في السير بخطط لا تمت بصلة للاتفاق لا من قريب ولا من بعيد؟ فالأسبوع الماضي أرسل الى جمعية المصارف كتاباً يقر فيه بشهادات الإيداع المصرفية لديه (وصلت نحو 86 مليار دولار)، لكنه يفتح باب واسعاً لردها بالليرة. فبأسعار اليوم، يعني ذلك طبع ما يساوي 50 مرة الكتلة النقدية الحالية! وللعلم، فان قيمة الليرة تراجعت 95% متأثرة بعدة أسباب بينها زيادة الكتلة 7 مرات (طبع آلاف مليارات الليرات) منذ بداية الأزمة حتى تاريخه. ولنا أن نتخيل، بالنسبة والتناسب، اسعاراً فنزويلية سحيقة حتى انمحاق الليرة اللبنانية في المديين القريب والمتوسط اذا صدق وعد “الحاكم” المهول.

مع تشظي المشهد السياسي بنتيجة الانتخابات النيابية، زاد تشظي المشهد الاقتصادي والمالي، ما دفع بسعر صرف الدولار إلى أعلى مستويات تاريخية مقابل الليرة. أما غداً فأسوأ حتماً، طالما لا حكومة قوية تمسك بزمام القيادة بحزم وتفرض الاصلاحات المؤلمة حد الإغماء

ثالثاً؛ رحبت جمعية المصارف أيضاً بالاتفاق الذي وقعته الحكومة مع صندوق النقد في اليوم التالي للتوقيع نهاية الاسبوع الأول من نيسان/أبريل الماضي. ثم بعد ايام قليلة اصدرت بياناً مضاداً صاعقاً. اعقبته امس ببيان متفجر ضد الخطة ومعديها وعلى رأسهم سعادة الشامي كما يحلو للجمعية التصويب. تجنبت الجمعية ذكر الرئيس نجيب ميقاتي وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة لخشية ما أو لعلاقة مصالح معهما، وصبت جام غضبها على الشامي الذي شرب فجأة حليب سباع و رد لها الصاع صاعين صاباً جام غضبه على مصرفيين “يجافون الحقيقة، يهربون الى الأمام ويلتفون. محاولاتهم مكشوفة ومفضوحة، لا يتوخون الدقة ولا يتحملون المسؤولية، يعيشون المكابرة والانكار، ويكبلون المودعين بأغلال مصالحهم..” هذه العبارات أتت في بيان رد فيه نائب رئيس مجلس الوزراء على بيان لجمعية المصارف تتحدث فيه عن “تنصل الدولة ومصرف لبنان من موجبات تسديد ديون تتجاوز السبعين مليار دولار وتحميل الخسائر للمودعين والمصارف”.

والغريب أن الجمعية إما غبية وإما سوبر ذكية: فاقتراح صندوق الاصول السيادية يصب في مصلحتها، كما مقولة قدسية الودائع أيضاَ. فلماذا تتسرع في المواجهة؟ أم أنها تلعب دور الضحية تمويهاً وهي العالمة أن حزب المصارف عابر للأحزاب والطوائف والمرجعيات وتريد التعمية على هذه الحقيقة الشنيعة كي لا يفشى السر الرهيب؟

***

مع تشظي المشهد السياسي بنتيجة الانتخابات النيابية، زاد تشظي المشهد الاقتصادي والمالي، ما دفع بسعر صرف الدولار إلى أعلى مستويات تاريخية مقابل الليرة. أما غداً فأسوأ حتماً، طالما لا حكومة قوية تمسك بزمام القيادة بحزم وتفرض الاصلاحات المؤلمة حد الإغماء. وهذا شبه مستحيل في لبنان الدويلات الطائفية (المموهة) المتصارعة على رئيس قسم من هنا ومأمور أحراج من هناك، صعوداً حتى القضاة والضباط والمدراء العامين والحقائب الوزارية.. فما بالك بودائع بقيمة 100 مليار دولار؟

*** 

ما الحل؟ الكل تقريباً بانتظار الخارج. أما فرنسا المعنية الأولى بالملف اللبناني فلا ترى الا تنفيذ الاتفاق مع الصندوق أو وضع لبنان على برنامج الغذاء العالمي بعشرات ملايين الدولارات سنوياً تقيه ربما شر الانفجار أو الاندثار. لكن، ومع تداعيات الحرب الروسية، بات لبنان واحداً من عشرات البلدان المدرجة على قوائم برامج الغذاء والجوع والتقوت العالمية. فأمامنا طابور خبز أوله في مصر والأردن ومجاهل أفريقيا ووسطه في معارج شرق آسيا وآخره في مفاوز أميركا اللاتيينة.

وكما يقول المثل اللبناني القروي “عيش يا كديش لينبت الحشيش”!

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  هذا هو تاريخ "لبنانكم".. المُلوَّث