أقيم المسرح في شرق آسيا والمناسبة زيارة يقوم بها الرئيس الأمريكي جو بايدن لحليفين لا غبار على علاقتيهما بالولايات المتحدة. وكالعادة في زيارات الرؤساء ينعقد مؤتمر صحفي. وفي المؤتمر صحافي معتمد مكلف بتوجيه سؤال إلى الرئيس الأمريكي. السؤال مطروح بالفعل منذ مرحلة التمهيد لاشتعال أزمة حول أوكرانيا، طرحه معلقون وخبراء في السياسة الدولية ولكن جرى الطرح على المسرح الأوروبي كسؤال ثانوي. كنت، وغيري كثيرون، في انتظار إعادة طرحه وفي انتظار إجابة بعينها منذ اللحظة التي رأينا عندها المستر بايدن يتوجه للطائرة التي تنقله من الولايات المتحدة إلى المسرح الآسيوي.
لم نهتم بالتوقعات حول صياغة السؤال والإجابة عليه. كان المهم بالنسبة لي شخصياً أن يصدر أخيراً الإعلان صراحة وعلى أرض آسيوية عن نهاية حالة الغموض الاستراتيجي في السياسة الأمريكية تجاه الصين. كان المهم أيضاً أن نتعرف على الدول التي سوف تلعب أدواراً رئيسية في مرحلة الوضوح الاستراتيجي. لم تكن الساحة الآسيوية مستعدة استعداد الساحة الأوروبية عشية اشتعال الأزمة الأوكرانية. التهديد الصيني لدول شرق وجنوب شرق آسيا لم يكن ماثلاً مثول التهديد الروسي لدول شرق أوروبا فضلاً عن أن آسيا والصين بخاصة بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن في حالة تشجع الولايات المتحدة على إنشاء حلف مثير للشغب والجدل كالأطلسي.
***
على مضض اعترف هنري كيسنجر ومعه الرئيس ريتشارد نيكسون بالصين الشعبية. كانا في حاجة إليها لإنهاء حربهما في فيتنام وفي صنع تعديل مناسب وضروري في جانب مهم من جوانب توازن القوة في النظام الدولي في تلك المرحلة. وعلى مضض سمحت واشنطن للصين الناهضة بالاندماج في النظام الاقتصادي العالمي وبالحصول على العضوية في منظمة التجارة العالمية. وعلى مضض سايرت أمريكا المجتمع الدولي الذي راح يسحب اعترافه بالصين الوطنية ممثلاً للأمة الصينية ويمنحه للصين الشعبية. أقول وأكرر عبارة على مضض لأنني أحد القائلين وبأسف شديد أن العنصرية الأمريكية ضد الرجل الأصفر لعبت دوراً مشهوداً منذ نهاية القرن التاسع عشر في صياغة علاقات أمريكا بآسيا عموماً وباليابان والصين بصفة خاصة. لن أذهب بعيداً في إثبات ما أقول. يكفي أن أذكّر القارئ بالسهولة التي استطاع بها الرئيس السابق دونالد ترامب في تثبيت حالة العداء مع الصين ولم تكن الصين تمثل تهديداً يذكر.
***
قال بايدن إن الحالة مع تايوان تشبه الحالة مع أوكرانيا. خطورة الوقوع في هذا التشبيه أنه يحمل في طياته النية في التدخل في الأزمة التايوانية، القادمة حتماً، وطبقاً لإعلانه بالوضوح الكافي نيته في التدخل فيها عسكرياً. يمكننا بكل بساطة توقع أن يتدخل عسكرياً في تايوان في أي وقت يشاء
تظهر المغالاة في وصف العلاقة مع الصين بالعداء من إجابة الرئيس بايدن على السؤال عن مستقبل العلاقة مع الصين. يقول الرئيس صاحب الخبرة الطويلة في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية في إجابته على السؤال، وبمساعدة واضحة من الصحافية المكلفة بتوجيه السؤال، يقول إنه من منظوره فإن حالة تايوان تشبه حالة أوكرانيا. والغريب في الأمر أن أحد كبار خبراء العلاقات الدولية والسياسة الخارجية الأمريكية اعتبر هذه العبارة كما وردت في تصريح الرئيس الأمريكي نقلة تاريخية واستراتيجية حيوية لأنها “أنهت حالة الغموض الاستراتيجي” في السياسة الخارجية الأمريكية. تولّد الغموض، كما فهمته عبر العقود الأخيرة، من اعتراف أمريكا الموثق والمشهود بتايوان جزءاً من الوطن الأم وهي الصين، وفي الوقت نفسه كياناً يفرض على أمريكا الدفاع عنه إذا تجاسرت الصين فتدخلت فيه، وأن أمريكا ستتدخل “عسكرياً” إذا وقع غزو للجزيرة من جانب الوطن الأم.
***
هنا يأتي “الوضوح الاستراتيجي”. أمريكا من الآن فصاعداً ستتعامل مع الصين شكلاً وموضوعاً كعدو. أمريكا لن تضع أي اعتبار لحقيقة أن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين. وتؤكد في الوقت نفسه أنها لن تغفر لحكومة الصين تدخلها في هونج كونج ضد أنصار الحركة الديموقراطية. قال بايدن إن الحالة مع تايوان تشبه الحالة مع أوكرانيا. خطورة الوقوع في هذا التشبيه أنه يحمل في طياته النية في التدخل في الأزمة التايوانية، القادمة حتماً، وطبقاً لإعلانه بالوضوح الكافي نيته في التدخل فيها عسكرياً. يمكننا بكل بساطة توقع أن يتدخل عسكرياً في تايوان في أي وقت يشاء إذا فسر البنتاجون مثلاً أو الاستخبارات مناورة عسكرية أو ابتكار سلاح بعينه بمثابة “اعتداء” على تايوان، أو إذا طلبت أمريكا من تايوان استفزاز بكين أو فعلت ما يجرح صورة الحزب الشيوعي الصيني لدى شعب الصين وشعوب آسيا.
بهذا التدخل أو ذاك أو بهما معاً، تأمل القوى الداخلية ذات النفوذ الاستراتيجي في عمليات صنع السياسة الأمريكية أن تتغير خريطة توازن القوى الدولية على نحو يخدم المصالح الأمريكية الجديدة ويتناسب مع الأوزان الحقيقية الراهنة للقوى العظمى، إن وجدت. تأمل أيضاً أن توقف نمو قوى دولية تسعى للنهوض والصعود وأن تعزز صعود قوى وسطى، كالهند مثلاً، ولكن ضمن قواعد سلوك تضعها وتشرف على تنفيذها الولايات المتحدة بعد أن يتحقق لها صفة القطب الأوحد.
***
لاحظنا خلال السنوات الأخيرة أن خللاً ما أصاب تناسق وتناسب مكونات النظام العالمي. صرنا مثلاً نعاني من مؤسسات في النظام الدولي القائم لا تعمل بالكفاءة اللازمة وأحياناً تقصر تقصيراً مخلاً في أداء واجباتها. صرنا نتعامل مع أهم مؤسسات في هذا النظام أصابها ما يشبه الشلل. من هذه المؤسسات على سبيل المثال وليس الحصر أهمها على الإطلاق وأقصد مجلس الأمن الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. الأسباب ليست قليلة أو بسيطة. منها وكذلك على سبيل المثال صعود وانحسار كثير من عناصر العولمة، هناك أيضاً تعدد ظواهر التمرد في قطاع أسواق الطاقة، وأزمات متعاقبة في الرأسمالية العالمية والفجوات متزايدة الاتساع والعمق في المداخيل وفي مستويات النخب والطبقات الحاكمة في العالم، وصعود أهمية شركات التكنولوجيا والمنتجات الرقمية. بكلمات أخرى صارت أمريكا، باعتبارها القوة الأقوى نسبياً وإن منحدرة في حد ذاتها، تدرك شدة الحاجة إلى ابتداع منظومة جديدة لقواعد وأحكام النظام الدولي لتحل محل منظومة أصابها الوهن والعجز بسبب ما لحق بأقطاب النظام الدولي وتوازن القوة بينها من تحولات. كثير من هذه التحولات جوهري، وبعضها يجري اليوم في أوروبا وتحت عنوان المواجهة الأطلسية مع روسيا.. وبعض آخر تستعد أمريكا للتعامل معه بالتعاون مع أستراليا ودول في شرق آسيا تحت عنوان مواجهة “عسكرية” محتملة مع الصين.
***
أيامنا الراهنة أراها حبلى بتوقعات عنيفة ومبتكرة.