لا بد من انقاذ الدين من السياسة. لأن السياسة تسيء اليه، ولا بد من انقاذ السياسة من الدين لأنه يسيء الى السياسة. لا نقاء البتة. الدين من عالم ورائي والسياسة من عالم انساني. السياسة ارتكبت، ونأت عن اخلاقية الدين. انما كان ذلك، باسم الدين. فالدين مع السياسة، يتحول الى شاهد زور، مبرر للارتكاب. يظن “الابرياء الاغبياء” ان الدين يوظف السياسة لمصلحته. خطأ فادح هذا القول. السياسة توظف الدين. الآية سلاح تبرير. المعتقد غطاء أخطاء.
الاحتماء السياسي بالدين، كمرجع وحاكم، توظيف للجهل وتجهيل للتفكير. وبدل أن يكون الانسان حراً حتى يختار حياته وعمله وموجباته، يتحوَل الى مأمور، من سياسي برتبة مرجع ديني. كنسي، اسلامي، شيعي، سني، الى آخر مسبحة الطوائف والمذاهب. وبالخلاصة، يكون التاريخ هذا، قد أنجب ضحيتين: الدين تلوّثَ وأُهين؛ اما السياسة فقد ارتكبت الفدائح وتزينت بالفضائح. الدين نصاً، فضاء روحي وأدلة مثالية، والسياسة تلفيق بأقنعة ذات سحنات قدسية.
أما بعد؛
إذا كان ذلك كذلك، على مستوى القراءة لتجارب الزواج الفاشلة والفاضحة بين الدين والسلطة، فلا بد من قراءة المسيحية سياسياً، من خلال فداحة حروبها واضطهادها وتنكيلها ومصادرتها واستعبادها، على مدى قرون. الكنائس المسيحية المتعددة، حوَّلت الدول التي سيطرت عليها الى جبهات قتال، ومحاكمات تفتيش، وافتئات على الضعفاء، واثراء للأغنياء، وارتكاب ما تشيب له الرؤوس، من آدم الى حروب الكاثوليك والبروتستانت، اضافة الى تبرير احتلال القارة الجديدة وإبادة الهنود الحمر فيها.
ماذا كان يفعل الله آنذاك؟ ماذا حل بقدسية الانجيل. الجواب معروف. السياسة افتراس والويل للمهزومين.
وإذا كان ذلك كذلك، فلا بد من قراءة تاريخ المسلمين، منذ وفاة الرسول، حتى ايامنا هذه، وما نتوقعه من عداوات وصراعات وادوات نفاق. الحروب الاسلامية-الاسلامية، فظيعة وشنيعة، وقد افرزت عداوات بين المذاهب والفرق (وهي بالمئات) لا تزال دماؤها تتجدد.
بعد كل زواج اغتصابي، بين الدين والسياسة. الحروب البينية الاسلامية لا يمكن احصاء وقائعها، انما. بالإمكان، إلقاء نظرة الى الخريطة العربية الاسلامية، لإدراك الهوة العنيفة بين مذهب ومذهب، وبين فرقة وفرقة، وبين تنظيم وتنظيم. لو شاء الشيطان ان يرتكب مثلها لعجز عن انتاجها. الصراعات الاسلامية الراهنة، خنقت السياسة. ذيَلت (ذيَلت من ذيل) الجماعات السلمية، وتجرأت على جعل السفك اليومي، روزنامة عربية. نعم، ان المنطقة، تنزف نفطاً ودماً.
لا ضرورة لذكر الممالك والامارات والدكتاتوريات والجمهوريات. انها كلها تكيد لبعضها مكائد دينية وبلا خجل، وعلى الملأ. وبلغ الاجتهاد حدود ارتكاب الخيانات. التطبيع مع “اسرائيل” عار مقدس.
لا يبقى في القديم، إلا الاديان التي يلبسونها اردية تتواءم مع الذوق السائد. يتحول الدين الى زي. نسياً منسياً. وعليه، فباسم القيم، تنتهك القيم.. عصر التحرر هذا، هو ضد الحريات. مواقفه من الدكتاتوريات، غض النظر. لأن النفط والذهب والمواد الأولية، تأتي في مرتبة ما قبل الدين والإيمان. انه عالم بائس حقاً
بعيداً عن التنظير للدولة المدنية والدولة الدينية – الطائفية، وبعيداً عن التحديث الاسلامي، ليصبح مقبولاً ومرضياً للوسطيين الدينيين. وبعيداً عن الكذب المتبادل بين الايمان والكفر والتكفير، يعيش العالم العربي اليوم ازمة هوية واتجاه ومصالح ومطامع. الكيانات العربية، تريد من الانسان، تابعاً لا صانعاً. مطيعاً لا متمرداً. خادماً لا مخدوماً. ويصار الى التعويض عن ذلك، بإعلاء شأن “التقدم” الذي أنجزته انظمة نفطية ومطيعة لشروط دول النفاق الرأسمالي، التي تعتلي منبراً مؤسساً على دوس الحريات، ودعم الديكتاتوريات، وجعل المال أولاً والانسان أخيراً. هذه حقبة نيو رأسمالية، تأسست على الاحتكارات العالمية، وصراع المصالح، واعتبار الانسان سلعة برتبة كادر مطيع، وخبير مستمع، وتاجر عابر للقارات والقيم الانسانية.
الأنظمة المتشدِقة دينياً، تمارس الكفر العلني بالإنسان. وتصطف خلف دول عملاقة، سلَعت الاديان والقيم والأخلاق، لمصلحة السوق. ومنطقها واضح: ما لنا هو لنا، وما لكم هو لنا كذلك، وليس هو “لنا ولكم”.
وهكذا، نختم بسرعة لنقول: الاديان لا توحد ابداً، ولو كانت مبنية على اسس متينة للتوحيد – التوحيد ترجم راهناً وقديماً، بالمتعدد المعادي “انا على حق وغيري على خطأ” ـ لا تسمح بالبحث عن الحقيقة ابداً. وعليه، المرحلة السياسية، المحلية، الاقليمية، الدولية، يبدأ دينها بتأييد الربح وتزيين ذلك بفيترينات تعرض آخر ما توصلت اليه عبقرية الانتاج والعلم، لدفع الركب الانساني الى مستقبل جديد كلياً. لا يبقى في القديم، إلا الاديان التي يلبسونها اردية تتواءم مع الذوق السائد. يتحول الدين الى زي. نسياً منسياً. وعليه، فباسم القيم، تنتهك القيم.. عصر التحرر هذا، هو ضد الحريات. مواقفه من الدكتاتوريات، غض النظر. لأن النفط والذهب والمواد الأولية، تأتي في مرتبة ما قبل الدين والإيمان. انه عالم بائس حقاً.
إذا، الى أين نحن بعد الآن؟
الى المزيد من التمزق. الى استفحال العداء وحراسته. الى إلغاء الفكر والتفكير واخفاء القيم. الى ان يصبح الانسان تلميذاً نجيباً لوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. الى تحويل الجامعات الى خريجين يدخلون عجلة العولمة ويكونون خدمها. في هذا السياق. يموت عمالقة الفكر في اوروبا وفي الولايات المتحدة وفي الضواحي المتخلفة. عربياً، لم يعد مفكر نهضوي على قيد الحياة، او ان اتباعه باتوا ايتاماً، يتمسكون بالنص ويلوكونه كصلاة روتينية. لائحة العباقرة الذين قتلتهم موجة التمذهب وموجات التحديث كبيرة جداً. قرنُ المفكرين النهضويين، ترجل لمصلحة فخامة المهرجانات في دول الخليج والدول الثرية والمصانة من قبل حماة غربيين، غير اسلاميين طبعاً.
من هم اللبنانيون راهناً؟
من دون تمحيص وتفكير واع، نستطيع القول إن الأمي عبقري وإن المرتكب قائد جماعة، وان الناس، باستثناء قلة نادرة معزولة وغير مسموعة، تحلقوا في جوقات طائفية ومذهبية (ولو كانوا كافرين او ملحدين) وهم يبخرون زعماء من قش وزعرنات ويسوَغون للمرتكب لأنه من دينهم، ويصمتون عن الجرم حماية للمرتكب المصان مذهبياً، او يصمتون ويستسلمون، ويتحولون الى خرقة انسانية مشوهة، او يغرق في يأس لا يشفيه الا الايغال بالسكر. فالسكر منجاة، والوعي ممحاة.
لبنان. حصن منيع من حصون التدين المذهبي. كل طائفة دويلة تامة تناسبها دويلة تشبهها وتسير باتجاه ريح تؤاتيها، إما من غرب ذكي، وخليج يتقي، او سفارات لها سلطة اقوى من كل السلطات المحلية.
أبشع ما انتجته الطائفية في لبنان، هو إلغاء الانسان، وإلغاء الشعب، وإلغاء الدولة، وسحل الوطن.
إنه بلد برتبة حذاء. وعفوا من إهانة الحذاء أو حتى “الحذوة”!