خلافاً لكل المناخات السلبية التي أعقبت المبادرة التي أطلقها رئيس الوزراء السابق سعد الحريري،”مُنفرداً”، ليل أمس (الثلاثاء)، فإن رئيس مجلس النواب نبيه بري قرر، بإسم “الثنائي الشيعي” (حزب الله وأمل)، التعامل بإيجابية مع “العونة الحريرية” لرئيس الحكومة المكلف مصطفى أديب، برغم التحفظات العديدة التي تم تسجيلها على النص الحريري نفسه، وهو أمر يعيد طرح سؤال الفريق السياسي الإستشاري المعني بحياكة هكذا مواقف وتطريزها بأفخاخ ترتد على الحريري نفسه في كل مرة، برغم قناعة معظم المراقبين أن البيان الحريري لا يقاس أبداً بمضمونه الذي كان معروفاً مسبقاً، وخصوصاً أن الحريري طرحه على بري قبل عشرة أيام، إنما بإبداء رغبته بإيجاد حل تحت سقف المبادرة الفرنسية. لذلك، يمكن تسجيل عدد من الملاحظات في سياق المشهد الداخلي المرتبك:
أولاً، لم يبادر الحريري من تلقاء نفسه. مبادرته “الشجاعة”، على حد تعبير وزارة الخارجية الفرنسية، كانت منسقة مع قصر الإليزه بكل تفاصيلها، وهي إن دلّت على شيء إنما على إندراج كل خطوات زعيم تيار المستقبل في خانة المبادرة التي أطلقها رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون، فلا هو غرّد بعيداً عنه صوب القارة الأميركية، ولا أوهام لديه، أقله حتى الآن، بأن السعوديين سيقبلون أوراق إعتماده، مهما بلغت خياراته السياسية، صعوداً أم نزولاً. ما زال سعد الحريري متموضعاً في الخانة الفرنسية، وعندما سلّم ماكرون، قبل أربعة أيام، أمام حزب الله وبري، ببقاء حقيبة المالية بيد الطائفة الشيعية، كان مُحتماً أن يتبنى الحريري الموقف نفسه، وإلا عندها يُصبح مبرراً سؤال البعض عما إذا كان الحريري قد قرر التسلل من تحت المظلة الفرنسية. خلاصة القول، في هذه النقطة تحديداً أن الحريري عندما أطلق المبادرة، لم يكن ينتظر جواباً عليها من الداخل، إنما عبر القنوات الرسمية الفرنسية التي تنتظر بدورها الجواب الرسمي لكل من بري وحزب الله، وهو ما لم يحصل حتى بعد ظهر اليوم.
ثانياً، يطرح ما جرى سوء الإدارة المتمادي لدى الفريقين منذ لحظة إستقالة حكومة حسان دياب حتى يومنا هذا. ذهب الحريري، ومعه رؤساء الحكومات بعيداً، فأصبح نزولهم عن الشجرة بحاجة إلى سلم مرتفع. هذا السلم أمّنه لهم إيمانويل ماكرون. تتنازلون عن حقيبة المالية هذه المرة ولا تلتزمون إلا بالمداورة مستقبلاً. هنا أثيرت نقطة بالغة الدقة والحساسية. لا يريد نادي رؤساء الحكومات تثبيت ميثاقية وزارة المالية للطائفة الشيعية، ليس ببعدها المحلي وحسب، بل ببعدها الدولي من خلال المبادرة الفرنسية (تعديل إتفاق الطائف بقرار دولي وقبول محلي، كما حصل في إتفاق الدوحة). لذلك، كان لا بد من أن يُقدم الحريري “تنازلاً” يتنصل منه زملاءه في نادي رؤساء الحكومات، بالتوافق والتنسيق معهم كما مع المجلس الشرعي الإسلامي، فيصبح “التنازل” فردياً وإشكالياً ولا يحظى بإجماع وطني ولا بغطاء دولي. أما السبب من وراء هذا التهيب، فهو الخشية من تقديم تنازل ميثاقي مجاني، ربطاً بالإدارة اللاحقة لملف إعادة صياغة النظام السياسي، من خلال مبادرة ماكرون مطلع السنة المقبلة. فإذا تنازل الحريري منذ الآن، ماذا سيترك للمستقبل الآتي، خصوصاً أنه وفريقه يرددون بأنهم قدموا سلسلة تنازلات متمادية، ولعل أبرزها تثبيت الثلث المعطل في إتفاق الدوحة في العام 2008.
ثالثاً، للمرة الأولى، منذ سنوات طويلة، يخوض حزب الله إشتباكاً سياسياً داخلياً بعنوان “الصيغة”. لم يكن في السابق يقارب هذا الأمر بهذه الحدة، بل كان يترك لشريكه نبيه بري أن يتصرف وأن يقرر بالنيابة عن “الثنائي”. هذه المرة كان لسان حال حزب الله هو الآتي: قررنا تسهيل المبادرة الفرنسية وتركنا للرئيس الحريري حق تسمية رئيس الحكومة، لكن فجأة، هناك من قرر التصرف على قاعدة أن فريقنا خسر الأكثرية البرلمانية وهُزم مشروعه الإقليمي، وبالتالي، من حق الحريري أن يسمي رئيس الحكومة وكل الوزراء في الحكومة، بمن فيها أولئك الذين يمثلون الطائفة السنية، بينما حرّم علينا تسمية ثلاثة وزراء، فـ”ما هكذا تُورد الإبل يا سعد”، قالها حسين الخليل للحريري في أيار/مايو من العام 2006، وهو يعيد تكرارها في هذه الأيام. يقود ذلك للقول إن “الثنائي” لن يقبل بأن يصدر عنه إلتزام مسبق بعدم تثبيت وزارة المالية للطائفة الشيعية، كما لن يقبل بأن “يُهرّب” الأسماء من تحت الطاولة، ذلك أنه يعتبر التسمية “حقاً وليس منةً”. لا يعني ذلك أبداً أن “الثنائي” يتصرف بإدارة لا مركزية. على العكس، لسان حال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله إستمرار تفويضه المفتوح لنبيه بري في الملف الداخلي اللبناني بكل أبعاده.
من حسن حظ كل طامح سني لرئاسة الوزراء أن يثبت من الآن فصاعداً أنه عبارة عن موظف وبلا “كاريزما”، وعندها سيجد مقبولية وحماسة له عند أهل القرار والحل والربط في بيئته، فهل بهذا النموذج تجري حماية إتفاق الطائف أم تقويضه وهل هكذا تدار الدولة وسلطتها التنفيذية
رابعاً، باتت الكرة في ملعب مصطفى أديب شكلاً، وهو ملعب فرنسي بالدرجة الأولى. يُرجح أن يجتمع الرئيس المكلف بالخليلين، في الساعات المقبلة، وفي ضوء هذا اللقاء، إما تُفتح الأبواب على مصراعيها أو تبقى موصدة بإحكام. إذا سارت الأمور بسلاسة، وهي ليست كذلك حتى اللحظة، فإنها لا تمنع من الإستنتاج أن تجربة مصطفى أديب في المستقبل لن تكون واعدة. سيترحم اللبنانيون على حسان دياب. كل صفات “إبن العيلة” و”الأودمة” و”الأناقة” اللغوية والشكلية متوفرة فيه، وهذا الرجل يزن كل كلمة يقولها بميزان من ألماس، ولكنه اسير نادٍ لا يستطيع الهمس أو المبادرة من خارج حدوده إطلاقاً. يكفي أن نتصور جلسة لمجلس الوزراء برئاسته. عليه أن يختار وسيلة من إثنتين: إما أن يديرها بواسطة “الزوم” بحيث يشرك رؤساء الحكومات فيها لأنه لا يملك سلطة إتخاذ قرار من دون إستشارتهم، أو يتواصل هاتفياً مع كل واحد منهم، على حدة، مع كل بند يُطرح على جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء، أي أن معظم وقته سيكون مخصصاً لـ”السمع” أو “التعليمات”، وهذه النقطة تعيد طرح إشكالية علاقة نادي رؤساء الحكومات بالموقع السياسي السني الأول في لبنان، من عند تسمية حسان دياب إلى مصطفى أديب. هذا “النادي” يبحث عن شخصيات بلا لون ولا طعم ولا رائحة، أي بلا طموحات سياسية وذلك مخافة المنافسة مستقبلاً. يقود ذلك للقول إنه من حسن حظ كل طامح سني لرئاسة الوزراء أن يثبت من الآن فصاعداً أنه عبارة عن موظف وبلا “كاريزما”، وعندها سيجد مقبولية وحماسة له عند أهل القرار والحل والربط في بيئته، فهل بهذا النموذج تجري حماية إتفاق الطائف أم تقويضه وهل هكذا تدار الدولة وسلطتها التنفيذية؟
خامساً، يُعيد موضوع تأليف الحكومة طرح سؤال الصلاحيات. فإذا كان رؤساء الحكومات يحرصون على الأبعاد الميثاقية، ويجاريهم في سلوك المسلك نفسه “الثنائي الشيعي”، كيف سيتصرف رئيس الجمهورية ميشال عون، إذا قدم مصطفى أديب إليه تشكيلة متفاهماً عليها مع بري وحزب الله؟ لنقرأ البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية اليوم (الأربعاء) حرفياً: “من دون أي اجتهاد او اختزال او تطاول على صلاحيات دستورية، ان رئيس الجمهورية معنيّ بالمباشر بتشكيل الحكومة وباصدار مرسوم التشكيل بالاتفاق مع رئيس الحكومة المكلّف”. نقطة على السطر. لماذا صدر هذا البيان الرئاسي بهذا التوقيت وهل ستأتي عرقلة التأليف من حيث لا يحتسب أحد أو أن توزيعاً للأدوار يجري بين التيار الوطني الحر الذي أعطى شيكاً على بياض للفرنسيين، وبين رئيس الجمهورية الذي يرفض تجاوز شراكته في التأليف، وما هو المقصود بالشراكة تحديداً؟
سادساً، ثمة إشكالية تحتاج إلى مقاربة مختلفة. سعد الحريري مأزوم. في تياره وبيئته كما مع شركائه اللبنانيين. قطيعة كاملة مع التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. شبه قطيعة مع وليد جنبلاط. إدارة ظهر لكل شخصيات وقوى 14 آذار. أزمة غير مسبوقة في علاقته بالموقع الشيعي الأول (بري) في الدولة. على المستوى العربي، يحظى بإهتمام ورعاية من الدولة المصرية ولا يجاريها أو يسايرها في هذه الرعاية وهذا الإهتمام أي بلد عربي آخر. دولياً، خطوطه مفتوحة مع الجميع، لكن حضانته فرنسية بإمتياز. إذا إستمر بإدارة ملفاته بالطريقة نفسها، سيواجه معضلات أكبر، لكن السؤال لا يتصل به هو بل بالآخرين وتحديداً فريق 8 آذار. إذا ضَعُفَ الحريري أكثر فأكثر، من هو الشريك البديل؟ وإذا كانت السعودية قد قررت شطب الحريري من المعادلة أو من كل حساباتها اللبنانية، هل الضغط عليه وعدم ملاقاة “مبادراته”، يخدم الأجندة السعودية (التطرف المذهبي في الساحة اللبنانية) أم أجندة الشراكة والوحدة الوطنية والإستقرار؟ ومن يقرأ موقف الملك سلمان اليوم (الأربعاء) يدرك أن المملكة العربية السعودية لن تقبل على سعد الحريري أن يرفع شعاراً أقل من شعار نزع سلاح حزب الله، فهل المطلوب دفعه إلى هذا الموقع وأن يصبح أسامة بن لادن اللبناني؟
هذه مجرد أفكار على هامش التأليف الحكومي الذي يبدو مساره متعرجاً إلى حد تشاؤم البعض بولادة حكومة قبل 3 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، إلا إذا صح قول إبن النحوي قديماً: “إشتدّي أزمةُ تنفرجي/ قد آذَنَ لَيلُكِ بالبَلَجِ”، وهو القول الذي يردده رئيس المجلس النيابي نبيه بري، في يومنا هذا، في معرض تفاؤله بقرب ولادة الحكومة ونجاح المبادرة الفرنسية.