حُكّام المنظومة العربية يخافون على عروشهم ومنافعهم. يخافون من مجتمعاتهم. كلهم حُكّام استبداديون، سواءً كانوا ملوكاً أو رؤساء جمهورية (منتخبين). يعلمون أن الشعب في الساحات قوة لا ترد، وأن نداء “الشعب يريد إسقاط النظام” جدي. بعضهم سقط وبعضهم أعطى تنازلات. بعضهم تمنّع وبعضهم وزّع المال على الناس بالمليارات ظناً منه أنها رشوة.
كل مستبد جبان يعرف مدى ضعفه أمام شعبه. يستعين بأجهزة الأمن والجحافل العسكرية. يخاطب شعبه من وراء ستار. يتحاشى الحوار مع الناس. يخاف المقارعة بالحجة. يتجنّب السؤال. الاستبداد عجز فكري وضحالة ايديولوجية. يحيط نفسه بحاشية من المستشارين والأجهزة. يسلّط هؤلاء الناس ويسكن خلف الأسوار. من يخاف شعبه لا يستحق أن يحكم. من يحكم من دون أن يستحق محبة شعبه لا يستحق أن يعيش. القيام ضده بمحاولة اغتيال أمر متوقّع. العيش عنده استمرار في السلطة ولو حتى بعد الموت. بالطبع يجب أن يعيش. حياته نعيم ولو أدى ما يعتبره نعمة الى جحيم على الناس. العيش في كنف الاستبداد جحيم ولو كان النظام ديمقراطياً أو طاغية.
تواطأت سلطات أهل المال والنفط والسلاح على الشعوب العربية لأنها ثارت. في الوطن العربي أقطار لديها الكثير من النفط (السائل والغاز) والكثير من المال.. حولوا بعض المال الى شعوبهم، واكتنزوا معظمه وبذّروا ما استطاعوا، وابتاعوا الكثير من السلاح، وبنوا أجهزة حرب وايديولوجيا وأمن ومخابرات، لقمع شعوبهم والشعوب العربية الأخرى.
الاتكالية نتيجة حتمية لمن اعتمد على السلطة، والتي تعتمد بدورها على ما استخرج من الأرض كمنحة من السماء. لديهم الكثير من المال لشراء السلاح. كدّسوا الكثير منه. لم يكن، ولن يكون، السلاح للدفاع في وجه العدو. في أوج ثورتهم المضادة اعترف بعضهم بإسرائيل وسمّوا ذلك تطبيعاً
الثورة نقطة تحوّل الى السياسة وإلى اندماج الجمهور في المجال العام والمشاركة، والانتقال من وضع الرعية الى المواطنة. عندما حصلت الثورة، رفضت دول النفط والمال كل حل سياسي في بلدانها، كما في البلدان العربية الأخرى. المعروف أن البلدان تبنى بالدولة، والدولة تنشأ وتستمر بالسياسة، وهذه الأخيرة حوار وانفتاح للمجال العام. الحوار فيه اختلاف يؤدي الى تعددية. دول النفط والمال يبغضون التعددية. يصرون على أن يكون الحكم عن طريق الأمر. يوزعون المال لتخريب بلدان أخوانهم بالعروبة، ويستعينون بالدين لإيهام الناس أن وجودهم في السلطة تكليف من المتسامي. هم في نظر أنفسهم ورثة الله على الأرض. يرثون الأرض، اما الفقراء وهم معظم ناس هذه الأمة لا يرثون شيئاً. هم فقراء لأنهم لا يستحقون إلا الفقر بنظر أهل السلطة النابعة من المال والسلاح. جعلوا الله والدين في خدمتهم. وجعلوا فقر المجتمع إبتلاء من الله. صادروا الدين وكرسوه لتبرير الطاعة والإخضاع.
دول غنية بمال النفط (السائل والغاز). اكتُشِفَ تحت الأرض. هو منة من الله عليهم. هم عوّدوا شعوبهم على التوزيع، الاستهلاك، والاتكالية. العمل يفترض التجربة والتعلّم منها. يفترض ازدياد المعرفة والوعي. في التعلّم خطر السؤال. لا بد للسؤال من جواب. البحث عن الجواب يؤدي للمعرفة. انتشار المعرفة سلطة بيد الناس. المعرفة بالتجربة وملاحظة الطبيعة واستقراء النتائج واستخدامها في أساليب العيش والسياسة. ممنوع على الناس في أنظمة المال والنفط إلا الاستنباط من تعليمات من كتب التراث؛ استخراج معلوم من معلوم. المعرفة الحقيقية هي استخراج معلوم من مجهول، وهذا مخيف في نظرهم. دأبهم احتواء المعرفة لتبقى معلبة، وإيكال العلم بها لمن يتخصص في المعاهد الدينية التي يكثرون منها. خريجوها لا يجيدون إلا فتاوى قياساً على القديم. ففي التكرار راحة العقل وراحة الحكام الذين يريدون من المفتين المتخرجين من هذه المعاهد فقط الإفتاء لمصلحة السلطة التي تتأبّد لديهم وتصير امتدادا للماضي، لا خروجاً منه. التطوّر هو الخروج على الماضي. يشكّل البحث والسؤال والسعي الى الجديد والتحديث ثورة. وهذه تشكل خطراً عليهم.
نشأت لدى دول النفط ايديولوجيا اتكالية، جوهرها اعتماد الناس على المال الهابط من الحاكم، والاستهلاك تنعما بما هبط عليهم. مجتمعاتهم لا تنتج شيئاً. الاتكالية نتيجة حتمية لمن اعتمد على السلطة، والتي تعتمد بدورها على ما استخرج من الأرض كمنحة من السماء. لديهم الكثير من المال لشراء السلاح. كدّسوا الكثير منه. لم يكن، ولن يكون، السلاح للدفاع في وجه العدو. في أوج ثورتهم المضادة اعترف بعضهم بإسرائيل وسمّوا ذلك تطبيعاً.
رفضوا التطبيع مع الشعوب العربية الثائرة. انتصروا عليها بالثورة المضادة. وحوّلوا الانتصار الى تطبيع مع إسرائيل وحروب أهلية عربية. هزيمة الثورة هي الوجه الآخر للتطبيع مع إسرائيل. يعرفون جيداً أن الشعوب العربية ترفض الاعتراف بإسرائيل. قامت هذه الشعوب بثورة نبضها واحد من المحيط الى المحيط. في الثورة خطر على المنظومة الحاكمة كما على إسرائيل. أدركوا أن في سقوط الأنظمة العربية في بلدان غير نفطية إسقاط للانظمة في هذه البلدان. لم تنشأ المنظومة الحاكمة العربية إلا لأن الشعوب العربية منظومة واحدة. نبضها واحد. شعارها واحد: “الشعب يريد إسقاط النظام”. النظام كل النظام. الثورة في لبنان، ثورة 17 تشرين الأول/اكتوبر 2019، رفعت شعار “كلن يعني كلن”. أقرت أقطار النفط، من حيث تدري أو لا تدري، أن للشعوب وحدة ما. الوحدة حلم على طريق الدولة الواحدة، وهذه تلغي أنظمة الاستبداد والملوك والمشايخ والأمراء. حلم الوحدة بعيد المنال، كما يبدو، لكن قيام دولة تعبّر عن إرادة مواطنيها، تستوعب الناس وتكون إطارا ناظما للمجتمع في كل قطر عربي هو أمر مرفوض أيضاً لدى أنظمة النفط، أنظمة المال والسلاح اللذين استخدموهما من أجل تقويض الثورة، وتقويض دولها، وتدمير مجتمعاتها مادياً ومعنوياً.
لا يشبع الاستبداد من السلطة، كما لا يشبع أصحاب الرأسمال من الثروة. يريدون أكثر. في الدورة البيولوجية للجسد، لا تستطيع أن تأكل أكثر مما يشبعك. في الاقتصاد الرأسمالي، الشبع وجهة نظر. هو مسألة اجتماعية. الرأسمالية تطلق العنان لما ليس في الأصل طبيعة الإنسان. الطبيعة قائمة على التوازن. يُقال أن البيئة عندما تفقد توازنها تموت. الأمر غير ذلك في المجتمع الرأسمالي، خاصة النيوليبرالي، حيث تُزال الضوابط. الرأسمالية تجعل من المجتمع شيئاً مناقضاً للطبيعة. الدين يبارك الخلل. يجعله بشكل ابتلاء من الله. الخلل في المجتمعات العربية لا يُضاهى. يحتاج الى ايديولوجية دينية تبرره، واستبداد يفرضه على طبيعة الأمور.
ملكية العرب للنفط لا تتحقق مع مجرد تأميمه، بل مع تأميم الدولة في كل قطر عربي ليكون النظام خادماً لشعبه لا آمراً عليه، ممثلاً لإرادته لا وكيلاً عن الامبريالية. أنظمة النفط هي كما بقية أنظمة الأقطار العربية، منظومة استبداد وإخضاع وإفقار للناس
ثورة العرب في عام 2011 كانت احتلال الجمهور للمجال العام، ومحاولة تكريس التوازن الذي لن يتحقق في وجود أنظمة الحكم الحالية. موّلت أنظمة النفط في بلدان الثورة اتجاهات دينية، وافتعلوا في ما بينهم اختلافات بين سلفية هنا واخوانجية هناك، وتمذهبات سنية وشيعية لمصلحة ميليشيات شنّت حروباً بالوكالة عن أسيادها؛ وللأسياد أسياد في دول عظمى وعظيمى.
ثبت مرة أخرى خطأ شعار “بترول العرب للعرب”. فالنفط تستخدم عائداته لا لصالح العرب بعامة، بل لحكام العرب الذين يستخدمون حاصله لشراء السلاح ويستخدمونه في قمع المجتمع لدى الأقطار التي تملك الكثير منه، كما التي لا تملك شيئاً منه. الاقتصاد السياسي للنفط هو في الحصيلة منظومة عدائية للمجتمع الذي تتحكم به؛ وهي منخرطة في نظام الامبريالية العالمي وتخضع لأسياده. ملكية العرب للنفط لا تتحقق مع مجرد تأميمه، بل مع تأميم الدولة في كل قطر عربي ليكون النظام خادماً لشعبه لا آمراً عليه، ممثلاً لإرادته لا وكيلاً عن الامبريالية. أنظمة النفط هي كما بقية أنظمة الأقطار العربية، منظومة استبداد وإخضاع وإفقار للناس.
الاقتصاد السياسي للنفط هو الاقتصاد السياسي للثورة المضادة، لمعاداة أنصار الثورة والحداثة والتجديد والتغيير باتجاه التقدم. هو اقتصاد سياسي للتأخر والتخلف ونشر الايديولوجيا الأصولية ودعم العقل المستريح وتخريب محاولات الثورة في البلدان العربية قاطبة. طريق العرب الى الحرية هي العمل والإنتاج مع نفط أو بدونه، قبله وبعده. حتى الآن لم يستخدم النفط كوسيلة للتقدم بل كأداة لتدمير الثورات العربية وإنتاج الحروب الأهلية. الثورة العربية لم تفشل، بل نجحت لأنها حدثت. المنظومة الحاكمة نجحت في أن تكون خيبة أمل للشعوب العربية واستمراراً لأنظمة الاستبداد. أضافت الى ذلك إنتاج حروب أهلية حيث لم تنجح في تثبيت الاستبداد، فأوكلته الى غير قادته، الى الميليشيات. وكأنها تقول للعرب الآتي: لا استقرار إلا مع الاستبداد، وإذا أردتم غيره فليكن انتشار الفوضى كما ينتشر وباء الكورونا أو غيره من الفيروسات.
(*) ملاحظة: هذه المقالة مكتوبة بوحي كتاب مارك لينش بعنوان “الحروب العربية الجديدة” مع بعض التصرف.