مأزق الفكر الديني الإسلامي.. تعدد الزوجات نموذجاً

يتجدّد بين الحين والآخر النقاش حول الزواج وتعدّد الزوجات في الإسلام، ويتحفنا بعض رجال الدين بآرائهم التي إن دلّت على شيء إنّما تدلّ على حجم وعمق المأزق الفكري في المؤسّسة الدينيّة وعجزها عن مجاراة العصر.

من المؤسف القول إن معظم المؤسّسات الدينيّة الإسلامية أصبحت مرتعاً للجهل، لا يربطها بالدين إلاّ المظاهر: الزي المنمّق على آخر طراز؛ اللحية المهذّبة والمشذبة مع الشارب المحفوف، والعمامة المضخّمة كأنّ وظيفتها التعويض عن صغر العقل.. لا بل إنعدامه أحياناً!

مأزق الفكر الديني الإسلامي (والفكر الديني عامّةً) هو موضوع تطرق إليه كثيرون وما زال يحظى بإهتمام كبير. لا يمكن لنا أن نستهزئ أو نستخفّ بهذه المعضلة الفكريّة، خصوصاً لناحية “تفسير” أو “تبرير” مفاهيم وأعراف وشرائع تبدو لنا وكأنّها من ماضٍ بائد وبائس، لا يقبلها عقل ولا علم ولا عصر. تضع هذه الضرورات رجل الدين والمتديّن في موقع لا يحسد عليه وتجعله كالبهلوان الذي يتلاعب بكرات عديدة تتخطّى قدرته على التقاطها ورميها بسرعة، فتنهال على رأسه.. ويفشل.

لنأخذ مثلاً موضوع تعدّد الزوجات في الإسلام. فقد قال شيخ الأزهر في تصريح له مؤخّراً إنّ موضوع تعدّد الزوجات “من الأمور التي شهدت تشويهاً للفهم الصحيح للقرآن الكريم والسنة النبوية”، وطالب المسلمين بقراءة “الآية التي وردت فيها مسألة تعدد الزوجات بشكل كامل، وتدبر ما قبلها وما بعدها”.

إذا قرأنا الآية كاملةً، نجدها واضحة في ما يتعلّق بإباحة تعدّد الزوجات، لكنّها غير واضحة في أمور أخرى. تقول الآية: “وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى، فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء، مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاع.َ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ” (سورة النساء 3).

“فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء، مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاع”: لا يمكن أن يكون هناك كلام أوضح من هذا. لكن لماذا التفريق بين الزواج من اليتامى والزواج من النساء والزواج من المستعبدات؟ أليس “اليتامى” و”ما ملكت أيمانكم” نساء أيضاً؟ أم نحن هنا أمام ثلاث فئات: نساء يتامى، نساء أحرار غير يتامى، ونساء مستعبدات؟ هل هذا يعني أنّ العدل بين الزوجات يشمل فقط الزواج بالحرّة غير اليتيمة؟ أمّا ما عدا ذلك، فلا مشكلة؟ ما رأي أصحاب العمائم؟

وهناك أيضاً عبارة “فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ”، وهي مختلفة عن عبارة “بشرط أن تعدلوا”. بمعنى آخر، تعدّد الزوجات ليس له علاقة بتاتاً بشرط العدل بين الزوجات، بل هو متعلّق بالرجل إذا كان هاجسه العدل بين زوجاته. من ليس همّه أن يعدل بين زوجاته، فيمكنه أن يتزوّج من أربع نساء إذا أراد (وما شاء ممن ملكته يمينه).

ليس هناك من مسوغ عقلي أو منطقي في القول إن شرط العدل مذكور في آية تفصلها 123 آية عن الآية 3؛ إذا تكلّمنا عن مسوغ، فهو عقائدي، أي وجهة نظر. تقول الآية 129 من سورة البقرة: “وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيماً”، ونصّها لا يعالج بتاتاً أحقّية الرجل في تعدّد الزوجات، بل ضرورة الرأفة بالزوجة غير المرغوب بها لمصلحة الزوجات الأخريات.

لكن مشكلة رأي شيخ الأزهر في تعدّد الزوجات هي أكبر من ذلك. إذا نظرنا في السيرة النبويّة، نجد أن تعدّد الزوجات كان أمراً طبيعيّاً مع النبي (تزوّج من تسع نساء في وقت واحد)، ومع معظم الصحابة. إذاً، مقولة شيخ الأزهر أنّ تعدّد الزوجات نابع من فهم خاطئ للقرآن والسنّة يُجبرنا على القول إنّ النبي والصحابة عجزوا عن فهم القرآن والإنصياع لما أمر الله به.

القرآن لا يشير بتاتاً إلى الزواج الديني، بل يمكن أن نقول أنّه في العرف القرآني، الزواج هو مدني، بإتّفاق الطرفين، وليس بحاجة لرجل دين لكي يشرف عليه أو يشرّعه. النصّوص القرآنيّة في أمر الزواج واضحة وضوح الشمس

النقاش في تعدّد الزوجات هو نتيجة عقدة النقص التي تتملّك العديد من المفكّرين الإسلاميين مقارنةً بقيم الحضارة الحاليّة. إصرارهم على أنّ الإسلام هو أفضل من مبادئ الحداثة الغربيّة يجبرهم (فقط) على إعادة النظر في الأمور التي تعتبر محرجة للمسلمين، مثل موضوع تعدّد الزوجات، الرق، الجهاد، إلخ. لذلك، صح القول إن الرأي الديني المناقض لتعدّد الزوجات هو مجرد خزعبلات لا فائدة منها ولا ينتج عنها منهجيّة فكريّة دينيّة مفيدة، بل تخبّط ونفاق لا يفيد صورة الإسلام أو المسلمين.

أقول هذا لأنّ مشايخ الإسلام (بمن فيهم شيخ الأزهر) يرفضون تحريم تعدّد الزوجات. ومنهجهم يتبدّل حسب الضرورة والموضوع، أي لا يقرأون دائماً ما قبل الآية وما بعدها، بل ما يرونه مناسباً لهم. من هنا إشكاليّة الفكر الديني الحديث المبني على منهج إعتباطي.. واستنسابي.

مثلاً، عندما استعر النقاش في تونس في صيف 2018 حول مشروع تعديل الميراث وجعل حصّة الأخ والأخت متساوية، صرّح شيخ الأزهر حينها أنّ أي موضوع فيه نصّ قرآني واضح من الله، لا مكان للبشر أن يعدّلوا فيه. موضوع تعدّد الزوجات فيه نصّ من الله واضح. وإذا قلنا، كما يريد شيخ الأزهر، أن علينا أن نقرأ ما قبله وما بعده، يجب علينا أن نقرأ آية الميراث بنفس المنطق. إذا أخذنا الآية 7 من سورة البقرة: “لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً”، هل يمكن أن نعتبر أنّ هذه الآية هي الأصل، وأنّ التخصيص في الآية 11 (وبعدها) هو إقتراح مربوط بعادات ذلك الوقت؟ بمعنى آخر، لماذا لم تنصّ الآية 7 على أنّ نصيب الرجل هو أكبر من نصيب المرأة؟ وإذا قلنا كما يقول شيخ الأزهر أنّ آية تعدّد الزوجات تعطي الرجل “رخصة” مشروطة بالعدل، فإذا “لم يوجد العدل يحرم التعدد،” ألا يمكننا أن نقول إنّ تحديد حصّة الرجل والمرأة في الميراث (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) هي أيضاً رخصة مشروطة تتعلّق بدور الرجل ودور المرأة، إذا ما إنتفى الدور سقط التخصيص في الميراث؟

إقرأ على موقع 180  سر إهتمام ماكرون بشرق المتوسط: اللجوء، الغاز وتركيا

ثمة سؤال آخر يطرح نفسه: أين هو النصّ القرآني الذي يقول إن الزواج لا يحصل إلا بوجود شيخ دين أو شهود؟ هذا الرأي لا علاقة له بالقرآن بتاتاً، بل هو مربوط بأحاديث نبويّة (مثل “لا نكاح إلاّ بولي”) وسوء فهم الآية القرآنيّة التي تنصّ على ضرورة وجود شهود عند الطلاق:فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ” (سورة الطلاق 2).

عندما طالب أحد مشايخ دار الإفتاء في لبنان المسلمين بالبصق في وجه كلّ من يطالب بالزواج المدني، هل يحقّ لنا أن نسأله إذا كان رأيه الشريف مبني على القرآن أم على شريعة البلطجة؟

القرآن لا يشير بتاتاً إلى الزواج الديني، بل يمكن أن نقول أنّه في العرف القرآني، الزواج هو مدني، بإتّفاق الطرفين، وليس بحاجة لرجل دين لكي يشرف عليه أو يشرّعه. النصّوص القرآنيّة في أمر الزواج واضحة وضوح الشمس. إذاً، عندما طالب أحد مشايخ دار الإفتاء في لبنان المسلمين بالبصق في وجه كلّ من يطالب بالزواج المدني، هل يحقّ لنا أن نسأله إذا كان رأيه الشريف مبني على القرآن أم على شريعة البلطجة؟

إذا قلنا إنّ السنّة تفسّر القرآن ومقصد الله، فالسنة في موضوع تعدّد الزوجات واضحة وضوح الشمس: للرجل الحق في الزواج بأربع نساء في وقت واحد، ويبقى له حقّ الإستمتاع بما ملكت يمينه (من نساء ورجال).

في الخلاصة؛ عندما يصبح النقاش في أمور الدين استنسابيّاً واعتباطيّاً، ينكشف نفاق رجل الدين وتلاعبه بالدين الذي هو، نظريّاً على الأقل، حارسه. فيصبح كما يقول المثل: “حاميها حراميها”!

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  البعدُ "الصّوفي-العِرفاني" للدّين: مستقبلُ الإسلام.. والإنسان؟ (1)