عربدة نقدية ومالية لبنانية لا مثيل لها دولياً

أجرى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تدقيقاً خاصاً به، ليستنتج لوحده أن الدولة اللبنانية كبّدت و/أو أخذت من مصرف لبنان بين 2010 و2021 نحو 62.67 مليار دولار. وقال في مقابلة تلفزيونية الأسبوع الماضي إنها من "دولارات البنك المركزي". فهل سلامة يتلاعب بالأرقام ويُضلّل، أم يقول الحق المجلجل؟

في تفصيل أرقام رياض سلامة ادعاء تمويل قطاع الكهرباء بنحو 24.57 مليار دولار، وتمويل القطاع العام عموماً بنحو 8.32 مليار، وتمويل الاستيراد لا سيما السلع والمواد المدعومة بنحو 7.5 مليار، يضيف إلى ذلك خسائر تكبدها في سندات اليوروبوندز (دين عام بالعملات الأجنبية) بنحو 7.44 مليار. ليبلغ الإجمالي 47.8 ملياراً مضافاً إليها كلفة هذه الأموال (فوائد طيلة 10 سنوات) بنحو 14.8 مليار. هذه السردية الرقمية المذهلة في شكلها والقابلة للتصديق في مضمونها توحي بأن الدولة كبّدت مصرف لبنان نحو 63 مليار دولار في 10 سنوات، وأن الخسائر التي هي أساساً من أموال المودعين تسجل على الدولة لا غيرها بالدرجة الأولى.

***

في ما سبق خلط لشعبان برمضان، يستحق تبيان الهلال فيه لنصوم عن الكلام ضد سلامة أو لنفطر على الرجل!

أولاً؛ لماذا اختار رياض سلامة فترة آخر 10 سنوات، ولم يبدأ بالعد منذ ما قبل ذلك؟ وهو أول العالمين بأن لبنان اهتز، شر اهتزاز، أول مرة أمام شبح التعثر والإفلاس عشية مؤتمر باريس واحد أوائل العام 2001. فنسبة الدين العام إلى الناتج المحلي بلغت آنذاك 151% فيما النسبة الحصيفة 60% فقط! وبلغت نسبة عجز الموازنة 23% من الناتج فيما النسبة الحصيفة 3% فقط!

وكان مصرف لبنان، منذ ما قبل التواريخ التي اختارها لأسباب سياسية انتقائية، يلبي طلبات الدولة من الدولارات مقابل ليرات وليس مجاناً.

مثال لتبسيط ذلك: وكما كان يذهب أي مواطن إلى صراف في شارع الحمرا لشراء دولارات لزوم سفر أو دفع مبلغ مستحق عليه بالدولار، يدفع ليرات للصراف ويحصل على مبتغاه من العملة الأجنبية، كانت الحكومة تفعل الشيء عينه مع مصرف لبنان الذي هو مصرف الدولة. إنها عملية صرافة عادية وليست استدانة طالما سعر الصرف ثابت بقرار من السلطة النقدية أي مصرف لبنان نفسه. وما سمح سلامة لنفسه به بالقول إن الدولة شفطت دولاراته، يمكن لصراف شارع الحمرا ادعاءه أيضاً لجهة مطالبة الناس بدولارات باعها إياها ذات يوم!

كانت ودائع المصارف في مصرف لبنان 18 مليار دولار في 2010، وارتفعت تدريجياً ليبلغ رصيدها 86 ملياراً في أيلول/سبتمبر 2021، وبالتالي عمد مصرف لبنان منهجياً إلى شفط الدولارات من المصارف، التي هي دولارات المودعين، وصرف منها كما شاء بالاتفاق مع المنظومة السياسية لا وفق القوانين المرعية الاجراء

ثانياً؛ ينطبق ما سبق على سلفات خزينة بالليرة كانت تقر في الموازنات العامة لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان التي تطلب مقابلها دولارات من مصرف لبنان لزوم استيراد الفيول على سبيل المثال. بكلام آخر: كانت الدولة تتكبد عجزاً في موازنتها بالليرة بسبب دعم تعرفة الكهرباء (حد المجان) وهدرها وفسادها وشبه انعدام فعاليتها.. ولسداد ذلك العجز تقترض الحكومة بفوائد مرتفعة ما يزيد العجز ويفاقم خطره. وبالتالي لم يكن الأمر منة من مصرف لبنان بل من الضرائب والرسوم المجباة من الناس، ومن القروض سواء بالليرة أو الدولار.

ثالثاً؛ الأمر عينه ينسحب على ما يدعيه الحاكم أنها دولارات لتشغيل القطاع العام وبمبلغ 8.3 مليارات وفي 10 سنوات. فالدولة تجبي بالليرة وتنفق بالليرة، وعند الحاجة الى دولارات تطلبها على سبيل الصرافة من مصرف لبنان ليس إلا. والأنكى، أن مصرف لبنان الزاعم الآن أن الدولة افقدته دولاراته وأورثت خسائر لديه، كان يدعي الربح دائماً ويمنح الدولة عوائد سنوية باعتبارها مالكة للمصرف. فكيف له الاعتراف بالخسارة اليوم وهو كان يوزع الأرباح حتى الأمس؟

رابعاً؛ كانت الدولة اللبنانية تطرح سندات يوروبوندز بالدولار يكتتب بها مستثمرون محليون وأجانب. وفي دراسة شهيرة للخبير المالي والأستاذ المحاضر في الاقتصاد الدكتور توفيق كسبار، استناداً إلى أرقام وزارة المالية بين 2009 و2019 (10 سنوات أيضاً)، شكلت حصيلة عمليات مبادلة مصرف لبنان لسندات بالليرة يملكها بسندات يوروبوندز تصدرها وزارة المالية مصدراً مهماَ للدولار بالنسبة لمصرف لبنان، والنتيجة تبلغ 17.5 مليار دولار. وفي الفترة عينها، يؤكد كسبار أن البنك المركزي أقرض الدولة 13 مليار دولار سددت جميعها بالليرة، لتكون النتيجة اقراضاً صافياً من الحكومة للمصرف المركزي يساوي 4.5 مليارات. أي كان للدولة دولارات في ذمة مصرف لبنان لا العكس!

وهنا تتعين الإشارة إلى أن اجمالي قيمة سندات اليوروبوندز المستحقة على الدولة تبلغ 40 مليار دولار مع فوائدها المتراكمة منذ اعلان التوقف عن الدفع في آذار/مارس 2020. ألم يسأل اللبنانيون أنفسهم أين كانت تودع حصيلة تلك الاصدارات بالدولار؟ كان تودع في مصرف لبنان. فالدولة لا تنفق في موازناتها بالدولار بل بالليرة. إذاً تودع الدولارات في البنك المركزي الذي يضمها إلى احتياطاته بالعملات الأجنبية. كما أن القروض الأخرى التي كانت تحصل عليها الدولة من جهات وصناديق ومؤسسات دولية، بالدولار واليورو، كانت تودع في مصرف لبنان أيضاً وتنضم الى احتياطاته.. وهذا ما حصل مع حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد بقيمة 1.13 مليار دولار وهي باتت بحكم المبددة.

خامساً؛ يتحدث مصرف لبنان عن خسارة 7.5 مليارات دولار نتيجة اكتتابه وحمله سندات دين عام (يوروبوندز)، وهو المبلغ الوحيد الذي يفترض أن يظهر في ميزانيته على انه اقراض بالدولار للدولة اللبنانية. ففي تلك الموازنة التي تنشر على الملأ كل نصف شهر، ولأي كان امكان الاطلاع عليها، يظهر رقم “صفر” مقابل بند اقراض مصرف لبنان للدولة بالعملة الأجنبية. فكيف يسجل صفراً في ميزانية مدققة ثم يدعي أنه أقرض الدولة 63 ملياراً؟

إقرأ على موقع 180  السفارات والحراك اللبناني.. أولوية الشعارات والأهداف

سادساً؛ يستسهل الحاكم حديث اقراض الدولة بالدولار علماً بأن الأمر خطير.. لا بل خطير جداً. فمصرف لبنان لا يستطيع طبع الدولار مقابل امكانية طبع الليرة بطبيعة الحال. وبالتالي، فان الأصل هو الإقراض بالعملة الوطنية وليس بالعملة الأجنبية في الممارسات السليمة للبنوك المركزية حول العالم. وهذا ما قاله حرفياً سلامة في مقابلة مع قناة “الحدث” في كانون الأول/ديسمبر 2020 بالإشارة الواضحة إلى أن مصرف لبنان يُقرض الدولة بالليرة وليس من أموال المودعين.

سابعاً؛ يحسُب سلامة مبلغ 14.8 مليار فوائد على مبلغ 47.8 مليار. فمن نافل القول أن ما بني على باطل فهو باطل. فلا أساس للدين المزعوم، وبالتالي لا فائدة تحتسب.

ثامناً؛ قال رياض سلامة إن ما أخذته الدولة هو “من دولارات مصرف لبنان”. والسؤال يتكرر: هل مصرف لبنان يطبع الدولار؟ بالطبع لا. إذاً لهذه الدولارات مصدران لا ثالث لهما. إما نتاج عملياته، وهذا هراء لأن ميزانيته كانت تراكم خسائر منذ 20 سنة ويسجلها في بند “موجودات أخرى” حتى بلغت أكثر من 70 مليار دولار. والمصدر الثاني، والأصح، هو أن هذه الدولارات هي للمصارف التي كان يشفطها اليه بتعاميم وهندسات واغراءات وفوائد عالية وبكثير من الترغيب والترهيب.

كانت ودائع المصارف في مصرف لبنان 18 مليار دولار في 2010، وارتفعت تدريجياً ليبلغ رصيدها 86 ملياراً في أيلول/سبتمبر 2021، وبالتالي عمد مصرف لبنان منهجياً إلى شفط الدولارات من المصارف، التي هي دولارات المودعين، وصرف منها كما شاء بالاتفاق مع المنظومة السياسية لا وفق القوانين المرعية الاجراء.

يحسُب سلامة مبلغ 14.8 مليار فوائد على مبلغ 47.8 مليار. فمن نافل القول أن ما بني على باطل فهو باطل. فلا أساس للدين المزعوم، وبالتالي لا فائدة تحتسب

تاسعاً؛ للدلالة على تلك القوانين المرعية الإجراء، يذكر الأستاذ المحاضر في قانوني النقد والمصارف المركزية توفيق شمبور في دراسات طويلة ومستفيضة أن المادة 95 من قانون النقد والتسليف، التي تلي المادة 91 المتحدثة عن اقراض المصرف المركزي للحكومة عند اصرارها واذا ما توافرت الظروف الاستثنائية لذلك، تشير بوضوح الى ضرورة تحديد معدل الفائدة ومدة القرض وشروطه الأخرى في عقد يوقع بين مصرف لبنان والحكومة، ويحال العقد إلى مجلس النواب مع كامل ملفات ودراسات وتقارير الإدارة والمصرف، وهذ ما لم يحصل أبداً في عهود سلامة المتعاقبة في الحاكمية. اذ لم يوقع اي عقد تمويل بين مصرف لبنان والحكومة طوال العقود الثلاثة الماضية.

كما يجدر التذكير بنص المادة 91 من قانون النقد والتسليف القائلة ما يلي:

“الا انه في ظروف استثنائية الخطورة، أو في حالات الضرورة القصوى إذا ما ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي، تحيط الحاكم علما بذلك. ويدرس المصرف مع الحكومة امكانية استبدال مساعدته بوسائل أخرى كإصدار قرض داخلي او عقد قرض خارجي او إجراء توفيرات في بعض بنود النفقات الأخرى أو إيجاد موارد ضرائب جديدة.. وفقط في الحالة التي يثبت فيها انه لا يوجد اي حل آخر، واذا ما أصرت الحكومة مع ذلك على طلبها، يمكن للبنك المركزي ان يمنح القرض المطلوب ويقترح على الحكومة التدابير التي من شأنها الحد مما قد يكون لقرضه من عواقب اقتصادية سيئة وخاصة الحد من تأثيره في الوضع الذي أعطي فيه على قوة النقد الشرائية الداخلية والخارجية”.

عاشراً؛ مثالان آخران يؤكدان أن للبنك المركزي استقلالية وقراراً حراً استخدمه الحاكم في 2019 إبان نقاش موازنة تلك السنة، عندما رفض طلب وزارة المالية اكتتاب البنك المركزي بسندات خزينة. هذا مثال أول أما المثال الثاني فيتمثل في رفض حاكم مصرف لبنان في أواخر آذار/مارس الماضي تسديد مستحقات على الحكومة بالدولار إلا بموجب عقد قرض بينه وبين الحكومة. كانت تلك المستحقات للبنك الدولي وعدد من المنظمات والمؤسسات الدولية ولاستشاريين ومحامين باجمالي 32 مليون دولار. كما رفض مؤخراً إعطاء دولارات طازجة لمؤسسة كهرباء لبنان. ما يؤكد أن لمصرف لبنان قدرة الرفض، وعند الضرورة له أن يطلب توقيع عقد قرض مع الحكومة. والحال هذه كان بامكانه رفض صرف 7.5 مليارات دولار على الاستيراد المدعوم أو طلب عقد قرض يسجل على الحكومة ولا يصرف على الدعم من أموال المودعين.

***

يمكن لحاكم مصرف لبنان أن يقول ما يشاء، لتبقى الحقيقة المسجلة في الدفاتر لا لبس فيها. فالدين العام يبلغ حالياً 100 مليار دولار، أكثر من 60% منه بالليرة ولم يعد يساوي حالياً أكثر من ملياري دولار على سعر صرف 30 ألف ليرة للدولار الواحد والباقي بالدولار خصوصاً سندات اليوروبوندز التي لا يحمل مصرف لبنان منها إلا 5 مليارات. فتشنا كثيراً لنجد الـ 63 مليار دولار التي يدعي سلامة أنه أقرضها للدولة فلم نجد لها أثراً. لا عجب، فلبنان يكتشف الآن، وبعد فوات الأوان، الثمن الباهظ للعربدة المالية التي مارستها المنظومة في مصرف لبنان.

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أحد ضباط "الوحدة 8200" يصرخ: "هذا هو موريس" (عماد مغنية) (122)