يقول رونين بيرغمان إن الملك حسين لم يشأ اطلاق سراح العميلين المعتقلين مقابل حياة خالد مشعل على هذا النحو، فأخبر “الإسرائيليين” أن الإتفاق كان حصرياً بالإفراج عن السجينين وان عليهم ان يدفعوا ثمناً اكبر للحصول على العناصر الستة من “وحدة الحربة” الموجودين في مقر السفارة “الإسرائيلية” في عمان، وهم باقي اعضاء فريق الاغتيال. بالاضافة الى ذلك، جمّد ملك الأردن العلاقات مع “اسرائيل”. تشاور رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مع افرايم هاليفي، وهو احد أعضاء جهاز “الموساد” المخضرمين، وسبق ان عمل نائباً لمدير الجهاز (صار رئيساً للجهاز لاحقاً) وسفيراً لـ”اسرائيل” في الاتحاد الاوروبي في الوقت نفسه. وكان هاليفي المولود في لندن قد امضى معظم حياته المهنية في “الموساد” في قسم العلاقات الدولية، وهو شخصية متناقضة ولكنه بالتأكيد كان دبلوماسياً موهوباً ويتمتع بذكاء حاد ويعرف كيف يتعامل مع الحكام والملوك. وقد لعب دوراً محورياً في اخراج اتفاق السلام الاردني “الاسرائيلي” (وادي عربة) الى حيز الوجود عام 1994 وكان يعرف الملك حسين معرفة جيدة، وكان الملك يحترمه ايضاً. بعد لقائه بالملك حسين، اخبر هاليفي رئيس الوزراء ورئيس “الموساد” داني ياتوم أنه لتحرير العملاء الستة عليهما دفع فدية جدية للاردنيين “كافية لجعل الملك قادرا ان يدافع بالعلن عن خطوة اطلاق سراح فريق الاغتيال”، وقد اقترح ان تكون تلك الفدية اطلاق سراح مؤسس حركة حماس الشيخ احمد ياسين من السجون “الاسرائيلية” حيث كان يُنفذ حكماً بالسجن مدى الحياة لدوره في شن هجمات “ارهابية” ضد “اسرائيل”.
وينقل بيرغمان عن هاليفي قوله ان الاقتراح الاردني واجه “معارضة شديدة اشبه بالحائط المسدود من نتنياهو وصولاً الى آخر عميل في الجهاز”، فقد عانى “الاسرائيليون” من اعمال الخطف والقتل والهجمات “الارهابية”، وكل ذلك حضر امامهم لمجرد فكرة اطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين، وتواصلت النقاشات يتقدمها سؤال واحد: هل نتوقع الاستسلام لطلب الملك حسين؟
تشاور نتنياهو مع مدير جهاز “الشين بيت” آمي ايالون الذي احضر كبير خبرائه بشؤون حركة “حماس” ميشا كوبي وسأله رأيه فأجابه كوبي بغضب “لا تعيروا اهتماماً لتهديدات الملك حسين، ففي النهاية لا خيار لديه سوى اطلاق سراح العملاء بطريقة او باخرى، واذا اطلقتم سراح ياسين، الذي يجب ان يتعفن في السجن حتى يوم موته، فانه سيعود الى غزة ليبني حماس التي ستكون أكثر اذية من اي شيء عهدناه حتى الآن”.
بيرغمان: أصبح أحمد ياسين رجلاً حراً، والهدف المهم من العملية كان اضعاف حركة “حماس”، فكانت النتيجة معكوسة بحيث ان مؤسسها وقائدها الروحي اطلق سراحه وغادر “اسرائيل” متوجهاً الى دول الخليج بذريعة العلاج الطبي، ولكن في الحقيقة استغل سفره هذا لجمع التبرعات واعلن ان “مواجهة كبيرة” قادمة مع “اسرائيل”. ولم يكن هناك اي سبب لعدم تصديقه
نقل ايالون رسالة كوبي الى نتنياهو، يقول بيرغمان، “ولكن هاليفي كان اكثر اقناعاً وتمكن تدريجياً من اقناع رئيس الوزراء بوجهة نظره بعد سلسلة جولات مكوكية بالهليكوبتر بين القدس وتل ابيب وعمان. فهم نتنياهو انه كان عالقا في ازمة كبيرة جداً وان عليه اولاً ان يُحدد اولوياته، فقد كان يريد استعادة عملاء “وحدة قيساريا” الى البلاد، وفي الحقيقة فان الطريقة الهادئة والواثقة التي عالج بها نتنياهو ازمة خالد مشعل من لحظة معرفته باعتقال العملاء، كانت من افضل ساعات حياته كقائد لدولة “اسرائيل”. وفي النهاية، تم توقيع اتفاق أطلق بموجبه سراح أحمد ياسين وعدد كبير من السجناء الفلسطينيين، وبينهم من كان متورطاً بقتل “اسرائيليين” في مقابل السماح بعودة عملاء الموساد الستة الى اسرائيل”.
يضيف بيرغمان، “لقد كان الثمن غالياً جداً، فقد كشفت العملية الفاشلة اساليب عديدة كان يعتمدها “الموساد”، كما اطاحت بكل الغطاء الذي كانت تعتمده “وحدة الحربة” التي بات من الضروري الآن العمل على اعادة بنائها من جديد. لقد تطلب الامر سنوات من “اسرائيل” لاصلاح العطل الذي تسببت به العملية للعلاقات المهمة والحساسة مع المملكة الهاشمية، ولم يحصل لقاء مصالحة بين الملك حسين ونتنياهو الا في العام 1998 (بعد سنة) وذلك خلال زيارة الى الولايات المتحدة الاميركية، وتسببت عملية مشعل ايضا بتوريط “اسرائيل” في وضع دبلوماسي محرج مع كندا ودول اخرى جرى استخدام جوازات سفرها بطريقة سيئة من قبل فريق العملية، فما كان من “اسرائيل” سوى ان تعتذر وتتعهد، كطفل جرى توبيخه، بألا تعيد ارتكاب مثل هذا الخطأ. وقد كشفت لجان التحقيق الداخلية والخارجية التي تم انشاؤها عدداً من الحسابات المتناقضة لدى كل من عرف بالعملية ومن اعطى الاذن بتنفيذها، فقد اصر كل من نتنياهو و”الموساد” انهم اعلموا كل الاشخاص المعنيين بالامر ولكن كلاً من وزير الدفاع اسحاق موردخاي ورئيس جهاز “امان” موشيه يعالون ومدير “الشين بيت” ايالون زعموا عدم معرفتهم المسبقة بالعملية سوى بشكل سطحي عندما طرح الامر، من بين خيارات عديدة، خلال اجتماع لرؤساء الاجهزة الاستخبارية”.
انتقد آمي أيالون العملية بشدة وحتى الهدف منها قائلاً “لم يكن مشعل جزءاً من حلقة العمليات الارهابية، بل كان خارج هذا الامر كلياً وبالتالي لا يصح ان يكون هدفاً شرعياً، وكان مشعل اقل تورطاً في الاعمال العسكرية لحركة “حماس” من اي وزير دفاع في دولة ديمقراطية”. وفي التحقيق الداخلي لـ”الموساد”، كتب تامير باردو الذي اصبح لاحقاً مديراً للجهاز اقسى تقرير في تاريخ الجهاز، وبتعابير قاسية، القى اللوم على كل من كان له علاقة بالتخطيط والتنفيذ، ونال قادة “وحدة قيساريا” و”وحدة الحربة” وبن ديفيد والعملاء الذين شاركوا قسطهم من النقد، فلم تجد لجنة التحقيق اي مساحة في العملية بلا أخطاء، ومع ذلك، فقد اشارت اللجنة الى دور ضمني في الفشل لداني ياتوم نفسه.
بعدها استقال رئيس “وحدة قيساريا” (هـ. هـ.) وأُزيح جيري، الذي خدمه حظه مرة واصبح قائدا لـ”وحدة الحربة”، من منصبه، فسبّب له ذلك شعوراً بالمرارة والعار فترك الجهاز، وفوق كل ذلك، “أصبح أحمد ياسين رجلاً حراً، والهدف المهم من العملية كان اضعاف حركة “حماس”، فكانت النتيجة معكوسة بحيث ان مؤسسها وقائدها الروحي اطلق سراحه وغادر “اسرائيل” متوجهاً الى دول الخليج بذريعة العلاج الطبي، ولكن في الحقيقة استغل سفره هذا لجمع التبرعات واعلن ان “مواجهة كبيرة” قادمة مع “اسرائيل”. ولم يكن هناك اي سبب لعدم تصديقه”، يختم رونين بيرغمان هذا الفصل.
(*) راجع الحلقة السابقة: إبنة مشعل تصرخ “بابا.. بابا” فينكشف “الموساد” والأردن