فى (5) يوليو/تموز (1962)، قبل ستين سنة بالضبط، نالت الجزائر استقلالها بدماء شهدائها بعد (130) سنة من الاحتلال الفرنسى، الذى مارس بحق شعبها أبشع الجرائم والمجازر دون أن يعتذر حتى الآن.
«الحمد لله الذى أعطانا هذه الفرصة لنرى الأمانى وقد تحققت.. الحمد الله فقد كنا نحلم بالجزائر العربية وقد رأينا اليوم الجزائر العربية».
بتلك الكلمات ابتدأ «جمال عبدالناصر» خطابا مقتضبا ألقاه فى العاصمة الجزائرية يوم (٤) مايو/أيار (١٩٦٣).
لم يَمن على الثورة الجزائرية بحرف واحد، أو بإشارة عابرة.
لا قال إننا أمددنا الجزائر بالسلاح، ولا ناصرناها بالمال، ولا ساعدنا ثورتها فى بناء أطرها السياسية والعسكرية، ولا أن فرنسا شاركت فى حرب السويس للانتقام من دورنا فى نصرتها.
قال نصا: «جمال عبدالناصر لم يفعل أى شىء لشعب الجزائر».
لم يكن ذلك صحيحا على أى وجه، لكنه خاطب الكبرياء الجزائرى.
كانت الجزائر تعرف الحقيقة وتقدرها، ولم تكن فى حاجة إلى من يذكرها.
فى خطابه المقتضب أشار إلى المعنى القومى الكبير لاستقلال الجزائر، وركز أغلبه على القضية الفلسطينية.
فى الكلام إدراك عميق لطبيعة الشخصية الجزائرية، التى تنفر من المن عليها.
فى ذلك اليوم الاستثنائى زحف مليون جزائرى من أنحاء البلاد إلى العاصمة لرؤيته، افترشوا الطرقات العامة وناموا فوقها بالقرب من الميناء، ملايين أخرى سدت الطرق وكادت تحطم السيارة التى كان يستقلها مع الرئيس «أحمد بن بيللا»، فاضطرا لأن يصعدا إلى أعلى عربة مطافئ مضت بين الجموع الحاشدة.
كان انفصال الوحدة المصرية السورية قد وقع لكن المشروع ظل ملهما.
كان الجرح لا يزال غائرا لحظة تحرير الجزائر لكنه تبدى حلم جديد.
المعنى أكبر من الرجل والحلم ــ حتى لو انكسر ــ أبقى فى ذاكرة التاريخ.
المشهد التاريخى يقرأ فى سياق تحدياته ومعاركه وعصره، وقد كان عصر التحرر الوطنى.
فى وقت مقارب تحررت القارة الإفريقية من ربقة الاستعمار.
كان دور القاهرة محوريا فى قيادة القارة.
وكان تأثيرها نافذا فى آسيا وأمريكا اللاتينية.
لهذا السبب ــ بالذات ــ جرى الترصد للمشروع الناصرى والعمل على اصطياده من بين ثغرات نظامه، أو باستخدام القوة المسلحة ــ كما حدث فى يونيو/حزيران (1967).
فى أيام الهزيمة نهضت الجزائر للوقوف بجانب مصر.
ذهب الرئيس الجزائرى «هوارى بومدين» إلى موسكو، وتفاوض على شحنات أسلحة عاجلة، عرض دفع ثمنها فورا لكن «ليونيد بريجنيف» الرجل القوى فى الكرملين كان له تقدير آخر، أن هناك التزامات على الاتحاد السوفيتى تجاه مصر.
ثم قاتل لواء جزائرى مع الجيش المصرى فى حرب أكتوبر/تشرين الأول (١٩٧٣).
فى تلك الحرب تأكدت مرة أخرى رفقة السلاح.
اختلف الرجلان الكبيران «أحمد بن بيللا» و«هوارى بومدين» فى قضية السلطة، لكنهما كانا يدركان كل بطريقته معنى «وحدة المصير العربى».
فى وقت مبكر من ثورة يوليو كان التفكير الاستراتيجى المصرى يعمل على «فتح الجبهة الجزائرية فى موقع القلب من الشمال الإفريقى لتوجيه ضربة قاضية للاستعمار الفرنسى الذى سيجد قواته مطالبة بمواجهة واسعة على ساحة الشمال الإفريقى كله يرغمه أن يخفف ثقل قواته على الجناحين الآخرين تونس ومراكش» ــ كما كتب نصا «جمال عبدالناصر» فى وقته وحينه.
من هنا بدأت «صوت العرب» أعظم معاركها، ألهمت وأثرت وكانت المتحدث الإعلامى الرسمى باسم ثوار الجزائر، اكتسب مؤسسها «أحمد سعيد» شعبية كبيرة فى العالم العربى باعتباره صوت الثورة الجزائرية، التى استقطبت المشاعر حولها.
كانت لشحنات السلاح المصرية، التى هُربت إلى جبال الجزائر عبر البحار أو الحدود الليبية، وتدريب المقاتلين عليها، دور محورى فى حسم حرب التحرير. كان «هواري بومدين»، الذى كان طالبا بجامعة الأزهر، أحد الذين تدربوا فى القاهرة قبل أن يجرى تهريبه إلى داخل الجزائر على متن يخت مصرى يحمل شحنات سلاح
تقدمت مصر لنصرة قضية الجزائر بكل ما تملك وتقدر عليه من دعم مالى وسياسى وعسكرى وإعلامى وفنى.
صنع «يوسف شاهين» فيلم «جميلة بوحريد» مجسدا بطولة المرأة الجزائرية الجديدة، وتبارى الشعراء وكبار الملحنين والمطربين فى التغنى بالجزائر المقاتلة التى تستحق الاستقلال والحرية، ولحن الموسيقار المصرى «محمد فوزى» فى غمرة الصراع المسلح النشيد الوطنى الجزائرى.. «نحن ثرنا فحياة أو ممات.. وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر.. فاشهدوا.. فاشهدوا.. فاشهدوا».
تحول «صندوق أحمد سعيد»، كما كان يطلق على جهاز الراديو فى العالم العربى، إلى أيقونة للثورة وصوته واصل إلى كل بيوت الصفيح وفوق جبال «الأوراس».
كان يوم الجمعة الثانى من يوليو/تموز عام (١٩٥٤) أول إطلالة للزعيم الجزائرى «أحمد بن بيللا» على أثير «صوت العرب».
«أخ جزائرى فى حديث من العقل والقلب إلى الضمير والوجدان».
هكذا قدمه «أحمد سعيد».
لم يكن أحد يعرف اسم قائد الثورة، التى توشك أن تعلن.
«أحدثكم من صوت العرب من القاهرة مدينة الأزهر الشريف».
كانت تلك الجملة الأولى فى بيان إعلان الثورة الجزائرية.
مال «عبدالناصر» إلى اعتقاد راسخ فى النظر إلى العالم العربى، قضاياه وأزماته، يربط ما بين تطلعات المصريين للاستقلال الوطنى فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتطلعات العرب للهدف ذاته.
إنها وحدة المصير العربى.
هكذا بكل الوضوح وكل الحسم.
كان ذلك الاعتقاد أساس الدور الإقليمى المصرى فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى.
فى معركة الجزائر تأكد الدور المصرى فى عالمه العربى بلا مَن أو ادعاء.
القاهرة تابعت أدوارها من الرصاصة الأولى فى نوفمبر/تشرين الثاني (١٩٥٤) حتى استقلت الجزائر فى يوليو/تموز (١٩٦٢) حاضرة فى قلب التخطيط السياسى والإعلامى والعسكرى شريكا كاملا فى المعركة.
هذه الحقيقة صنعت رفقة ثورة ورفقة سلاح بين مصر والجزائر.
كانت لشحنات السلاح المصرية، التى هُربت إلى جبال الجزائر عبر البحار أو الحدود الليبية، وتدريب المقاتلين عليها، دور محورى فى حسم حرب التحرير.
كان «هوارى بومدين»، الذى كان طالبا بجامعة الأزهر، أحد الذين تدربوا فى القاهرة قبل أن يجرى تهريبه إلى داخل الجزائر على متن يخت مصرى يحمل شحنات سلاح.
قوائم السلاح والذخائر تفاصيلها مودعة فى وثائق رئاسة الجمهورية.
وقد تضمن كتاب «فتحى الديب»، الذى ربطته أوثق العلاقات بقادة الثورة، «عبدالناصر وثورة الجزائر» حصرا كاملا لشحنات السلاح.
بعد ستين سنة من انتصار الثورة الجزائرية فإن التحية واجبة لذكرى رفاق الثورة والسلاح، الذين أدركوا فى الميدان معنى وحدة المصير العربى.
(*) بالتزامن مع “الشروق“