يكاد يتفق أساتذة النقد في روسيا، ومعهم كبار الأدباء الروس، أن ألكسندر بوشكين (1799 ـ 1837) يُعتبر المؤسس الحقيقي للأدب الروسي، وهذا ما يقوله صراحة كبير النقاد فيسارون بيلينسكي (1811ـ 1848) وبرأي حياة شرارة استاذة الأدب الروسي في كتابها ”بيلينسكي” أن مقالة ”الأحلام الأدبية” هي “من أولى مقالات بوشكين المهمة التي خطت ملامح جديدة للنقد الأدبي”. هذه الكتابة عن بوشكين “تعني الكتابة عن الأدب الروسي كله” كما يرد في مقدمة دراسة نزار عيون السود في مجلة ”الآداب الأجنبية” السورية (1ـ 10 ـ 1999)، وهذا ما يذهب اليه أحد عمالقة الرواية الروسية فيودور دوستويفسكي في ”يوميات كاتب” إذ يقول ”من المعروف أن كل شيء لدينا هو من بوشكين”.
ويكتب الأديب الروسي فائق الشهرة نيقولا غوغول عن بوشكين ”ليس هناك من شعرائنا من يمكن أن يرقى إلى مستواه، إنه الإنسان الروسي في ارتقائه وتطوره، الذي قد يظهر ربما بعد مائتي عام”، وكانت مجلة “الأديب” اللبنانية (1 ـ 7ـ 1949) قد نشرت مقالة لألكسندر إيفولين مدير “معهد مكسيم غوركي للأدب العالمي” قال فيها ”إن بوشكين هو أب الأدب الروسي الحديث، فقد كانت آراؤه تعبيرا رائعا عن السبل الجديدة لتطور اللغة والآدب الروسية”، ولذلك لم يكن ضربا من العبث أن يصدر الرئيس الروسي السابق دميتري مدفيديف في عام 2011، قراراً يقضى بإعتبار السادس من حزيران/يونيو من كل عام يوماً للغة الروسية، وهو اليوم الذي وُلد فيه بوشكين.
في ”مجمل تاريخ الأدب الروسي” لمارك سلونيم الذي نقله إلى العربية صفوت جرجس ”نشأ بوشكين على ايدي مدرسين خصوصيين أغلبهم فرنسيون، وتكلم وقرأ بالفرنسية قبل الروسية وكتب أول أشعاره بالفرنسية ـ وقد ـ استلهمها من بارني وفولتير الفرنسيين واستلهم ملحمته الشعرية غافريليادا من فولتير”، كما أنه ”تعرف منذ صباه على مؤلفات الشعراء والكتاب الروس وعلى مؤلفات موليير وبومارشيه وفولتير” و”تأثر في هذه الفترة بأدب باتيوشكوف وجوكوفسكي والأديب الفرنسي فولتير ومؤلفات جان جاك روسو والشاعر الفرنسي جان راسين”، كما هو وارد في ”الآداب الأجنبية”. وهذه المؤثرات التي تركتها الثقافة الفرنسية على كبير شعراء روسيا والذي أسهم في تطوير اللغة الروسية، كانت مجلتا ”الهلال” (1ـ 7 ـ 1904) و”المقتطف” (1 ـ 3 ـ 1937) المصريتان قد اشارت إليها في معرض تعريفها ببوشكين، وكتبت مجلة ”الرسالة” المصرية (13 ـ 4 ـ1936) ان بوشكين “من أعظم شعراء القرن التاسع عشر، وكانت الروح الأوروبية اللاتينية تغلب لديه على الروح الأسيوية الروسية”.
وفي مجلة ”الأقلام” العراقية (1 ـ 5 ـ 1973) ان بوشكين ”قد تربى أول طلعته تربية فرنسية ولم يتقن لغته الأم، ومنذ طفولته بدأ يقرأ بالفرنسية روائع الأدب الفرنسي الكلاسيكي الموجودة في مكتبة والده”، ويعتبر كثيرون من المهتمين بالشؤون الثقافية والفلسفية، كما جاء في مجلة ”الشارقة الثقافية” (1ـ 12 ـ 2018) الإماراتية ”أن ظهور بوشكين أسهم في ظهور عمالقة الأدب الروسي بعد ذلك، من أمثال تولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف، وقد تأثر بوشكين في بدء حياته بالأدب الفرنسي ثم اتجه نحو الأدب الإنكليزي”، ولا يخرج الأديب والدبلوماسي السوري سامي الدروبي عن هذه الخلاصات في كتابه ”الرواية في الأدب الروسي” إذ أن ”مكتبة الأسرة كانت تضم كل الشعر الخفيف الذي أنجبه القرن الثامن عشر الفرنسي، وكان الطفل يجيد الفرنسية وهو صبي في المهد، فسرعان ما اخذ يقلد هؤلاء بالفرنسية طبعا”.
تتجلى التأثيرات الفرنسية في العديد من اعمال بوشكين، ”فقد نظم قصائد تدل إلى انه لم ينس آراءه ومعتقداته مثل، الخنجر، تقليدا للشاعر الفرنسي شينيه (André-Marie Chénier) استنادا إلى ”الرواية في الأدب الروسي”، ومن اعماله التي تبرز فيها الثقافة الفرنسية:
ـ”رسلان ولودميلا”: تعرفها ”الموسوعة العربية” الصادرة في دمشق بأنها ”قصيدة عاطفية نظمها بأسلوب روائي على نمط ما سار عليه فولتير”.
ـ”الغجر”: هي آخر القصائد الرومانسية لبوشكين ويحاور فيها الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الذي كان يرى ان الإنسان “طيب بفطرته” وفق وجهة نظر الكاتب الروسي بيتروف في ”الآداب الاجنبية” السورية.
ـ”يوجين أونيجين”: قصيدة مؤلفة من سبعة آلاف بيت من الشعر، و”يجب أن نلاحظ أن بوشكين استعار كثيرا جدا في تصويره لشخصية ـ بطلة الرواية الشعرية ـ تاتيانا، من روسو في كتابه هلويز الجديدة Julie, ou la nouvelle Héloïse بل إن كثيرا من الأجزاء لا يزيد عن ترجمة صريحة لهذا الكتاب” وفق ما انتهى إليه زكي نجيب محمود وأحمد أمين في الجزء الثالث من ”قصة الأدب في العالم”.
ميخائيل ليرمنتوف
بعد بوشكين، برز ميخائيل ليرمنتوف (1814ـ 1841) وفي كتاب ”تاريخ الأدب الروسي” الصادر عن ”الهيئة العامة السورية للكتاب” لتشارلز موزر ”إذا ما بحث المرء عن مؤلف يستحق لقب شاعر رومانطيقي، فإن ليرمنتوف سيكون الفائز بدون شك، وروايته التاريخية فاديم كشفت عن إطلاع الكاتب على أعمال هوغو وبلزاك وسكوت، وكان موت ليرمنتوف علامة على نهاية العصر الذهبي للشعر الروسي”.
إن عمل ليرمنتوف الشهير ”بطل زماننا” او “بطل من هذا الزمان”، يكاد يكون محاكاة او انعكاسا لعمل الشاعر والروائي الفرنسي Charles de Musset ”اعترافات طفل من هذا القرن” La Confession d’un enfant du siècle، ومثلما أراد de Musset المعاصر لليرمنتوف أن يكون عمله نوعا من السيرة الذاتية، فإن ليرمنتوف أراد من ”بطل زماننا” أن يقص سيرة حياته، وهذا ما سيؤكده زكي نجيب محمود وأحمد أمين في القسم الخاص عن الأدب الروسي في القرن التاسع عشر الذي يتضمنه مؤلفهما الجليل ”قصة الأدب في العالم”، فيخلصان إلى أن ليرمنتوف ”متأثر في هذا الكتاب بكتاب الشاعر الفرنسي ميسيه “اعترافات ابن العصر”، ولو انه كانت تعوزه بعض صفات ميسيه كالصراحة التي لا تخشى من إعلان الحق، والدقة المرهفة التي لا تفوتها ألطف الخواطر والمشاعر”.
نيقولاي غوغول
في مقدمة الأدباء الروس، يحل نيقولاي غوغول (1809 ـ 1852) صديق بوشكين وليرمنتوف، ومن أعماله الذائعة عالميا “المفتش العام” و”الأنفس الميتة” و”المعطف”، وكدلالة على أهمية وعلو القامة الإبداعية لهذا المتفرد، يُنسب إلى شيخ الروائيين الروس فيودور دوستويفسكي قوله ”كلنا خرجنا من معطف غوغول”، وكغيره من قمم الأدب في روسيا، كان للثقافة الفرنسية سطوة لا ريب فيها على اعماله، ففي رواية “حياة السيد موليير” للروائي الروسي ميخائيل ميخائيل بولغاكوف (1891 ـ 1940) يقول الراوي للقابلة التي ستشرف على ولادة موليير: “ستُترجم أقوال هذا الطفل إلى الألمانية والإنكليزية والإيطالية والتركية والروسية إلخ.. وسيتم تقليد مسرحياته، سوف يؤثر بكثيرين مثل بوشكين وغوغول”.
ويتحدث ليف تاراسوف الروائي الفرنسي من أصل روسي والمعروف بإسم هنري ترويا (1911ـ 2007) في ”سيرة نفس ممزقة” وهي سيرة حياة غوغول، عن مدى تأثير بوشكين على غوغول وحضه على إعادة اكتشاف موليير والإهتداء به، ذلك أن غوغول ”قلما كان يهتم بالأدب الفرنسي، فالفرنسيون في نظره يسقطون حكومة بعد حكومة، ولا يمكن أن يكون كتًاب هذه الأمة جادين، وكان يحرص على التقليل من شأن موليير، ولكن بوشكين رد ساخطا حين سمعه ينتقد كتابات موليير، بعد هذا الحديث أعاد غوغول قراة مولييروأدرك أهميته”.
فيودور دوستويفسكي
يتصدر فيودور دوستويفسكي (1821ـ1881) قائمة عالم الرواية في روسيا وخارجها، وربما قلة أو أقل من القلة في العالم، لم تقرأ أو لم تسمع بروايتيه ”الجريمة والعقاب” و”الأخوة كارامازف”، وعلى الرغم من أن دوستويفسكي من رافعي راية الوطنية الروسية وروحها الأرثوذوكسية كما يتضح في مجموعة رسائله الضخمة الصادرة في جزئين ومنها رسالة مؤرخة في 10 ـ 2 ـ 1873 إلى ولي عهد القيصر ألكسندر رومانوف وفيها يقول ”عندما وصفنا أنفسنا بالأوروبيين تخلينا عن روسيتنا”، إلا أن ابنته لوبوف دوستويفسكي تقول في كتابها ”أبي” إنه كان شديد الميل إلى اللغة الفرنسية ويقرأ كثيرا بهذه اللغة (راجع الجزء الأول من هذه المقالة).
قبل تحوله الفكري نحو الوطنية الروسية في النصف الثاني من عمره، كما تؤكد ابنته، ”تعرف دوستويفسكي على مفكر ثوري روسي إسمه ميخائيل بتروشيفسكي، وأخذ يتردد على حلقته الثورية، وتأثر بأفكار المفكر الفرنسي فوريه Charles Fourier وبأفكار ـ الفيلسوف الفرنسي ـ سان سيمون” بناء على ما ذكرته مجلة ”الموقف الأدبي” السورية في الأول من شباط/فبراير 2006.
كان دوستويفسكي مفتونا ببوشكين، وأحب غوغول حبا جما، ولكنه لم يقف عند أعمال هؤلاء فقط، “بل كان منذ صباه يلتهم بشغف أعمال ـ الإنكليزي ـ تشارلز ديكنز ـ والفرنسيين ـ بلزاك وهيغو وجورج ساند”، على حد مقالة لدونالد هيز في ”المعرفة” السورية في الأول من تشرين الأول/اكتوبر 2012، وبدأ دوستويفسكي حياته الكتابية بترجمة رواية الكاتب الفرنسي بلزاك، أوجيني غرانديه Eugénie Grandet كما عرّفت به ”الموقف الأدبي” في الأول من أيار/مايو 2014، وحول هذه الترجمة بعث برسالة (كانون الأول/يناير 1844) إلى شقيقه ”احيطك علما انني ترجمت في فترة الأعياد ـ رواية ـ أوجين غراندي لبلزاك، روعة بكل معنى الكلمة”.
إن ترجمة رواية أوجيني غرانديه من الفرنسية إلى الروسية على رأي الناقد السوفياتي ليونيد غروسمان (“الآداب الأجنبية” ـ دمشق ـ 1 ـ7 ـ 1979)” ادت إلى إنضاج موهبة دوستويفسكي وكانت بالنسبة له مدرسة حقيقية ودرسا عمليا في فن الرواية”.
الناقد الروسي ف. ايتوف، كتب بحثا مطولا عن ”دوستويفسكي وفن الرواية الفلسفية الاجتماعية” من ضمن كتاب صدر في موسكو عام 1972، ونشرته مجلة ”المعرفة” السورية (1 ـ 7 ـ 1977) يقول فيه ”مع كل اصالتها، تبقى بنية روايات دوستويفسكي تطويرا لإنجازات الأدب الواقعي الروسي والأوروبي الغربي، وقد أشارت كتب النقد الأدبي أكثر من مرة إلى تأثر دوستويفسكي ببلزاك في روايتيه الأب غوريو والأحلام الضائعة، وتربط روح المغامرة والتصور الطبيعي رواية دوستويفسكي بمبادىء تأليف الموضوع الروائي البلزاكية، وتطور في مؤلفات الكاتب الروسي العظيم، موضوع إذلال الإنسان الطيب، ذاك الموضوع الذي أدخله بلزاك إلى الأدب الأوروبي الغربي بصورة جريئة في روايتيه الأب غوريو وأوجيني غرانديه، ومن ثم فيكتور هيغو في البؤساء”.
وفي العرض (1 ـ 7 ــ 1988) الذي نشرته مجلة نزوى ”العُمانية” لمذكرات زوجة دوستويفسكي الثانية، آنا غريغوريفنا، أنه قرأ في مدينة ميلانو الإيطالية مؤلفات الفرنسيين فولتير وديني ديدرو، وظهر تأثير رواية ”كانديد” Candide لفولتير في رواية دوستويفسكي ”الأخوة كارامازوف” وتجلى تأثير ديدرو في روايتيه ”الأبله” و”مذكرات من تحت الأرض”.
ويقرأ ممدوح ابو الوي (“الموقف الأدبي” ـ دمشق ـ 1 ـ2 ـ2006) في رواية ”الفقراء” ممهدا بالقول ”نتعرف على أحداث الرواية من خلال الرسائل المتبادلة بين شخصين، وبذلك يتبع دوستويفسكي طريقة سرد نادرة، ونعلم ان مثل هذه الطريقة اتبعها الكاتب الفرنسي ألفونس كار في روايته التي اشتهرت في الأدب العربي بعنوان ماجدولين”.
وضمن دائرة المؤثرات الفرنسية على أعمال دوستويفسكي يقول الروائي الفرنسي اندريه جيد (1869 ـ1951) في ”مقالات ومحاضرات” إنه كان يعد كتابا قبل الحرب العالمية الأولى عن دوستويفسكي ”وكنتُ سأقيم مقارنة بين روسو ودوستويفسكي بعيدا عن الإفتعال، الواقع أن في طبيعتيهما من وجوه الشبه ما أتاح لإعترافات ـ كتاب ـ روسو ان تترك على دوستويفسكي بصمات واضحة”.
ثلاث قمم أدبية
يقف على قمة الأدب الروسي والعالمي في القرن التاسع عشر، كل من ايفان تورغنييف وإيفان غونتشاروف وأنطون تشيخوف.
الأول عاش بين الأعوام 1818 و1883، ومن مؤلفاته المعروفة ”مذكرات صياد” و”الأبناء والبنون” و”الدخان”، وفي نبذة عنه في صحيفة ”المدى” العراقية اليسارية (1ـ 9 ـ 2015) أنه ”تعلم على ايدي اساتذة من مختلف القوميات ما عدا الروسية، وكانت والدته تكره كل ما له علاقة بالأصل الروسي، لذلك حملت افراد العائلة كلهم على التكلم باللغة الفرنسية، انضم في السبعينيات ـ القرن التاسع عشر ـ الى الحلقة الأدبية التي كان كل من كبار الكتاب الفرنسيين الواقعيين مثل ألفونس دوديه وإميل زولا وجوستاف فلوبير والأخوان غونكور اعضاءً فيها، وانتخب تورغنييف عام 1878 نائبا لرئيس المؤتمرالأدبي الدولي في باريس”.
في أعمال تورغنييف كما يقول مارك سلونيم ”وجدت كل الأفكار والمتغيرات الروسية في منتصف القرن التاسع عشر، كان صديقا لجوستاف فلوبير وإميل زولا الفرنسيين ـ وأدباء إنكليز وألمان ـ وهو من دعاة التغريب الراسخين، وفي روايته “الآباء والأبناء” ثمة من اتهمه بأنه لا يؤمن بروسيا، وهذا الإتهام لم يبتعد دوستويفسكي عن توجيهه لتورغنييف، ففي الجزء الثاني من ”الرسائل” يفشي دوستويفسكي أن تورغنييف أكد له ”ان الفكرة الرئيسية في كتابه الدخان ـ تكمن ـ في العبارة التالية: لو سقطت روسيا لما خسرت البشرية ولما اضطربت”.
وأما إيفان غونتشاروف (1812ـ1891) الذي رفعته رواياته ”قصة عادية” و”أبلوموف” و”الهاوية” إلى مصاف العالمية، وفي مجمل تاريخ الأدب الروسي أن غونتشاروف كان في الخامسة والثلاثين عندما نشر أولى رواياته “قصة عادية”، وبطل هذه السيرة يمكن مقارنته في بعض المواطن بـ”أوهام ضائعة” لبلزاك وبـ”تربية عاطفية” لفلوبير، التي تعالج أحداث الثورة الفرنسية عام 1848 التي أدت إلى قيام الجمهورية الثانية.
ثالث هذه القمم الأدبية في روسيا، انطون تشيخوف (1860 ـ1904) وهو شيخ المسرح والقصة القصيرة، وعنه يقول ماهر نسيم في ”لمحات من الأدب الروسي” أن أول إنتاج لتشيخوف هو ”كتاب إلى جار مدرسي”، ثم ظهرت قصص “ألف عاطفة وعاطفة” أو “الأحلام المزعجة”، التي استلهم فكرتها من “نوتردام دي باري”، ومؤلفات هيغو الأخرى، وهزأ من قصص المغامرات الفرنسية التي لا تنتهي في قصتي “أسرار مائة وأربع وأربعين كارثة” وعمل على اعمال الروائي الفرنسي جول فيرن (1828 ـ 1905) عرضا ونقدا وسخرية”.
ليو تولستوي
باكرا بدأ قراء العربية يتعرفون على رأس هرم الرواية الروسية والعالمية، ليو تولستوي (1828ـ 1910) ففي الأول من تشرين الأول/ اكتوبر1900 كتبت مجلة ”الجامعة العثمانية”، ان تولستوي وضع في مقدمة المؤلفين الذين يجب مطالعة كتبهم، “وقد أثر كتاب الإعتراف الذي كتبه روسو في نفسه تاثيرا كبيرا، حتى قال إن روسو سحرني في صباي، وكنتُ أعتبر ان هذا الفيلسوف إلها، فأحمل رسمه على صدري كما أحمل رسما مقدسا”، وكتب عضو ”مجمع اللغة العربية” في دمشق الأديب اللبناني نقولا فياض في دورية ”العرفان” اللبنانية في الأول من نيسان/ابريل 1942 ”هو كجان جاك روسو يطلب العودة إلى الطبيعة وبساطة الحياة البدوية الأولى، قائلا بإحترام المرأة الساقطة كما قال فيكتور هيغو”.
مجلة ”الآداب” اللبنانية، عرضت (1ـ 10 ـ 1954) كتابا لستيفان زفايج عرّبه فؤاد أيوب لدار ”اليقظة” العربية الدمشقية عن سيرة تولستوي وأدبه، وفيها ”تكونت شخصتيه المعنوية من عناصر لزمته طوال حياته، أولها حرية العقل، وثانيها ايمانه بالتقدم الإنساني، وقد اكتسب هذين العنصرين من تأثره العميق بالفلاسفة الألمان، كهيغل، وبالفرنسي جان جاك روسو والعنصر الثالث إيمانه بوطنه روسيا”.
وفي سيرته التي كتبها الناقد الكسندر سولييف في مقدمة اعماله، وعرضت خلاصتها مجلة ”أدب ونقد” المصرية (1 ـ 9 ـ 1984) فقد تقلب تولستوي ”بين دراسة اللغات الشرقية والقانون، وكانت هذه بداية أزمته وتناقضاته، إذ أشار إليه استاذه في كلية الحقوق بدراسة كتاب روح القوانين لمونتسكيو، ولكن تولستوي فضل دراسة روسو وقرأ اعترافاته التي حولته تماما عن طريق الدراسة، ووضعت في رأسه بذور أفكاره المثالية والأخلاقية والروحية والطبيعية، وكانت تلك هي بداية الصراعات المريرة في حياته، وتمزقه بين صورتين متعارضتين، البساطة والتقشف والكمال الأخلاقي، والتعلق بالملذات والترف”.
وهذا التناقض، يبدو جليا بين روايتي ”آنا كرنينيا” و”البعث”، ففي الأولى إبراز مثير لصراعات النفس البشرية وتنقلاتها بين تناقضات العاطفة والعقلانية ومعنويات الروح العالية والنفس الأمّارة بالسوء، بينما في الثانية على ما تقول الناقدة حياة شرارة في ”الآداب” اللبنانية (1ـ 3ـ 1970) ”تبدأ حياة أبطاله بأزمة فكرية وروحية، يعون على إثرها عبث حياتهم الماضية، ويتعاقب في إنتاج تولستوي الأخير، النقد الشديد للحياة الماضية والحاضرة، والإنارة الروحية والفكرية للبطل التي تأتي إثر انقلاب فكري”، وهي خلاصة لا تخرج عن المُثل الأخلاقية والإيمان المسيحي لجان جاك روسو كما نقرأ في كتابيه ”الإعترفات” و”دين الفطرة”.
إن تولستوي كان معجبا بمونتسكيو وروسو، والأخير ”كان له تأثير ضخم عليه كما يعترف” على ما يقول سامي الدروبي، وهذا ما يمكن ملاحظته في قصة ”القوقاز” فبطل تولستوي في هذه القصة ”يحاول في اندفاعه تلبية نداء روسو أن يتلاءم مع أبناء الطبيعة بتبني حياتهم البسيطة” كما يرى ألكسندر سولييف في مقدمته لـ”القوقاز”، وفي قراءة زكي نجيب محمود وأحمد أمين ”هذه المقارنة بين الحياة الفطرية الساذجة والحياة المدنية المعقدة يوضحها الكاتب ايضا في قصة آنا كارنينا التي أنشأها على أساس من مذهب جان جاك روسو”، وفق ما يقولان في ”قصة الأدب في العالم”.
ختاماً عن لينين؛
في الجزء الأول من ”الأدب والفن” يقول القائد الشيوعي فلاديمير إيليتش لينين:
“إن تعاليم ماركس كلية القدرة لأنها صحيحة، إنها كاملة ومحكمة البنيان، تعطي الناس نظرة متكاملة إلى الكون، لا تهادن أي خرافات أو رجعية، أو اي دفاع عن الظلم البرجوازي، إنها الوريث الشرعي لأفضل ما أبدعته الإنسانية في القرن التاسع عشر، متمثلا في الفلسفة الألمانية والإقتصاد السياسي الإنكليزي والإشتراكية الفرنسية”.
(*) الجزء الأول من هذه المقالة بعنوان: عن حضور الثقافة الفرنسية في روسيا القيصرية