يقول الشاعر السوري رياض الصالح الحسين “العدالة هي ان آكل رغيفي بهدوء، أغني بهدوء، أذهب إلى السينما بهدوء، أقبل حبيبتي بهدوء، وأموت بلا ضجة”، إلا أن الواقع يقول إن الضجيج يملأ العالم، والعدالة تتضاءل حد الهزال والمجاعة، ولكن يبقى بصيص الأمل في نثرات الضوء، وكلما ظننا أن الظلمة شاملة والإختناق الثقافي لا مفر منه والشح في الإبداع يعم البلد، يأتي من يخالف هذا التيار فيعطينا جرعة بقاء ونفحة أمل إضافية.
***
السينما اللبنانية تفتقد للهوية من مائة سنة حتى يومنا هذا، وبعبارة أصحّ ليس لدينا سينما، إنّما لدينا مغامرات سينمائية. فمنذ نشأتها في زمن الروّاد أمثال المخرجين جورج نصر وجورج قاعي وعلي العريس ومحمد سلمان وميشال هارون، كانت سينما تجارب ومغامرات فردية. غامر هؤلاء الروّاد برصيدهم الشخصي لصنع أفلامهم بفعل شغفهم السينمائي. يُقال ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ إن المخرج جورج قاعي باع أثاث منزله لينتج أحد أفلامه. لاحقاً عرفنا مرحلة السينما التجارية الشعبية، وهي سينما مغامرات شبابية وaction تحت وقع تأثير السينما المصرية العريقة حيث المغني/ة هو بطل/ة الفيلم.
نحن نعيش اليوم عصر إنفصال الفيلم السينمائي عن دور السينما. “نتفلكس” شبكة عالمية تتيح لنا مشاهدة الكثير من الأفلام الجديدة أونلاين. هذه النقلة تركت تأثيرها على نوعية الأفلام المنتجة من حيث الشكل والمضمون. ما ينتظرنا في المستقبل سيبقى مفتوحاً على إحتمالات شتى بينها إحتمال نهاية السينما بمعناها التقليدي التاريخي
ومن يُراجع تاريخ السينما في لبنان، يجد أنها تُؤرخ للعالم العربي سياسياً. كانت السينما اللبنانية عبارة عن موسم تجريبي يختلط فيه المصري بالسوري والتركي، تبعاً لمواسم المنطقة السياسية (التأميم والإنقلابات والثورة وقمع المثقفين إلخ..) وخصوصا في الفترة الممتدة من مطلع الخمسينيات حتى مطلع السبعينيات.
لا بد لنا من التوقف عند حقبة الأفلام المسماة “جادة” لمارون بغدادي وبرهان علوية وجان شمعون وبهيج حجيج ومي المصري ورندة الشهال وجوسلين صعب وجورج شمشوم. مبدعون لبنانيون كانوا جزءاً من لحظة سياسية تأسيسية للحرب الأهلية، وسرعان ما وجدوا أنفسهم في خضم هذه الحرب وويلاتها، ويُسجل لهم أنهم أسّسوا لسينما لبنانية مختلفة بالحد الأدنى ولو غلب عليها التوثيق. مسار لم يتوقف وشهدنا الكثير من التجارب المتنوعة، ولكن دائماً كانت السينما اللبنانية تفتقد إلى جهات محلية جدية راعية للإنتاج، بينما نرى في بلدان عربية أخرى أن الدولة (نموذج مصر) تدعم السينما منذ فترة طويلة.
***
نحن نعيش اليوم عصر إنفصال الفيلم السينمائي عن دور السينما. “نتفلكس” شبكة عالمية تتيح لنا مشاهدة الكثير من الأفلام الجديدة أونلاين. هذه النقلة تركت تأثيرها على نوعية الأفلام المنتجة من حيث الشكل والمضمون. ما ينتظرنا في المستقبل سيبقى مفتوحاً على إحتمالات شتى بينها إحتمال نهاية السينما بمعناها التقليدي التاريخي لمصلحة أشكال جديدة لا يمكن التكهن بطبيعتها أو هويتها.
الدولة في لبنان غائبة عن كل شيء وخصوصاً عالم السينما التي ومنذ نشأتها تعتمد على المبادرات الخاصة، الأمر الذي أدى إلى غياب الهوية السينمائية، فلا يمكن الحديث عن سينما لبنانية مثل الفرنسية أو الإيطالية او حتى المصرية. مفهوم الدولة في النماذج الأوروبية يعني دعم قطاعات إبداعية من دون أي تدخل في مضمونها الإبداعي.
فقدان مفهوم الهوية يبدأ عندنا من الإنتماء الوطني المشكوك به، وينسحب بالضرورة على كافة المفاهيم.. والقطاعات. يتبدى ذلك في الأفلام التي عالجت الحرب الأهلية اللبنانية وقد شابها ما شاب الوطن من تشظٍ وتشتت في المفاهيم، حالها كحال كتاب التاريخ الذي يُفترض أن يكون موحداً منذ أكثر من ثلاثين سنة، لكنه ظلّ عصياً على تجاوز خطوط التماس التربوية التاريخية.
***
في ظل هذا السكون اللبناني العظيم، ثمة أشخاص يعملون بصمت وبلا جلبة ليقينهم ان الحياة لا يمكن أن تتوقف لمجرد أن هناك من يحترف وأد مقومات الحياة. هلا الكوش ودانيا بدير من هذا الصنف المميز.
هلا الكوش الشابة التي تعيش اليوم هواجس كل لبناني تتلخص نظرتها إلى مشروعها السينمائي برغبتها في التأثير في حياة الآخرين وجعل الفيلم تشاركي مع مشاهديه بحيث يتواصل مع هواجسهم ويتصالح مع محيطهم
المرأة اللبنانية كانت وما تزال تشكل ركنا أساسيا في قطاع السينما اللبنانية ولا يعتبر وجودها طارئاً منذ آسيا داغر وإبنة أختها ماري كويني وصولا إلى المخرجة نادين لبكي، مرورا بلور دكّاش ونورهان ونور الهدى وصباح وفيروز وغيرهن..
غادرت هلا الكوش إبنة التسعة شهور لبنان إلى أفريقيا مع عائلتها وعادت إليه مراهقة مع عائلتها، الأمر الذي أدى إلى جعل لغتها العربية مُكسّرة.
تستيقظ هلا كل يوم كسائر اللبنانيين مع شعور بأنه آخر يوم في حياتها لذلك تحاول عبر السينما التعامل مع مخاوفها ومحاولة تخطيها. السينما ليست وسيلة شهرة او كسب مال. إنها قضية، وفي ذلك تعبير عن نضج مبكر لتجربة هذه السينمائية اللبنانية الفتية.
الطفلة المهاجرة لا بد وأنها خزّنت تجربة مغايرة عن أقرانها الذين عاشوا مرارات بلد يدفن القضايا والأحلام والمواهب.
منذ عودة هلا الكوش واستقرارها في لبنان، وهي في سن الرابعة عشرة، لم تتغلب على مشاعر غربتها في موطنها. لكن إثر انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس 2020، وتجوالها في أحياء مدينتها المدمرة، اجتاحها إحساس غريب. جولة تقول إنها غيّرت مجرى حياتها ونظرتها إلى مدينتها، فكان أن “وقعتُ في غرام بيروت، وأدركت أني لن أستطيع مغادرتها بعد اليوم. هو صراع داخلي عشته كغيري من اللبنانيين فوقفت حائرة إذا ما كان عليّ الهجرة أم البقاء، ولكن في النهاية اتخذت قراري وارتميت في أحضان بيروت”، كما تقول في إحدى مقابلاتها.
هذا الصراع دفع بالمخرجة اللبنانية الشابة للتفكير في تصوير فيلم وثائقي عن مدينتها، وبموازاة ذلك شاركت في “مهرجان الفيلم الوثائقي الدولي” في أمستردام (IDFA)، لتكون جزءاً من برنامجه “Project Space”، الهادف إلى دعم المواهب الفنية في عالم السينما. ومن بين 260 مشروعاً، تقرّر دعم 16 فيلماً فقط للعام 2022. ومن بينها فيلم هلا الكوش «المكان الذي أنتمي إليه» (The Place Where I Belong).
تتابع هلا إبنة الجامعة اللبنانية دورة تدريبية عبر الأونلاين. حين كلّمتها كانت في طريقها إلى أمستردام. أسبوع حضوري يليه دروس ومتابعة عبر الأونلاين. الفيلم ما يزال في مرحلة كتابة السيناريو ولا يتحدث عن حادثة تفجير المرفأ وإنما عن نتائجه على نفسية ومستقبل اللبنانيين.
تجعل المخرجة هلا الكوش الفيلم أداة للعلاج من التروما الجماعية التي لحقت بالشعب اللبناني. هذه قضيتها وهذه رؤيتها كسائر الأفلام التي صوّرتها وجالت في مهرجانات عالمية عديدة.
تسعى هلا للحصول على الدعم المادي للمباشرة في تصوير فيلمها الوثائقي وتعتبر العامل المادي عائقاً أساسياً في الوصول إلى سينما لبنانية متطورة ومواكبة للعصر.
هلا الكوش الشابة التي تعيش اليوم هواجس كل لبناني تتلخص نظرتها إلى مشروعها السينمائي برغبتها في التأثير في حياة الآخرين وجعل الفيلم تشاركي مع مشاهديه بحيث يتواصل مع هواجسهم ويتصالح مع محيطهم.
***
في موازاة ذلك، فاز فيلم “ورشة” للمخرجة اللبنانية الشابة دانيا بدير في اليابان بجائزة أفضل فيلم.
لدانيا قصة مختلفة. درست الإخراج في نيويورك وتنظر إلى شغل الأفلام كرؤية فردية. لا احد بإمكانه ان يأخذ على عاتقه مسؤولية خلق هوية سينمائية لبنانية.
ثمة حركة إنتاج نشيطة بفضل مخرجين ومخرجات لديهم قلب وشغف ورؤية ووجهة نظر تمثل حلمهم الخاص من دون تبني قضايا معقدة سياسياً. نظرة ليبرالية متفلتة من الإيديولوجيا. تحصي دانيا بإعجاب افلاماً تعتبرها هامة لشباب لبنانيين مثل فيلم موني عقل “كوستا برافا” و”صندوق الذكريات” لجوانا حاجي توما، وفيلم جورج برباري “على أمل تجي”
تحدثك دانيا عن “ورشة” بشغف كبير، فالقصة بعيدة عن أن تكون قضية. شاب يعمل في شركة بناء يحلم في ان يرقص. حلم فردي جداً في عالم شديد الخصوصية.
راقبت دانيا ورشة البناء واستهواها العلو وروح المغامرة والنفس الذي يتمتعون به في سماء المدينة الملوثة. تزامناً كانت دانيا تشاهد عرضاً في “مترو المدينة” في شارع الحمراء للفنان خنسا، عندها “أيقنت أن بوسعي خلق فيلم من حلم الرقص والفضاء الشاسع في حجرة الوينش المعلقة”، فإختارت لعملها عامل البناء الذي يشغل “الونشات” (الرافعات).
الفيلم طموح جداً. صوّرت دانيا بدير مشاهده الخطرة في استديوهات فرنسية.
ليست جائزة طوكيو الأولى؛ فقد نال الفيلم المُموّل معظمه فرنسياً بالإشتراك مع شركة بيار صراف né à Beyrouth أولى الجوائز في مهرجان “صندانس” وشارك في حوالي الستين مهرجانا ونال ست عشرة جائزة.
وبنبرة تفاؤلية تتحدث دانيا عن الإنتاج السينمائي، وعلى الرغم من كل الظروف الصعبة، ثمة حركة إنتاج نشيطة بفضل مخرجين ومخرجات لديهم قلب وشغف ورؤية ووجهة نظر تمثل حلمهم الخاص من دون تبني قضايا معقدة سياسياً. نظرة ليبرالية متفلتة من الإيديولوجيا. تحصي دانيا بإعجاب افلاماً تعتبرها هامة لشباب لبنانيين مثل فيلم موني عقل “كوستا برافا” و”صندوق الذكريات” لجوانا حاجي توما، وفيلم جورج برباري “على أمل تجي”.
***
في نهاية المطاف، تسأل نفسك لماذا ندس أنفنا في خبر فوز أحدهم وما الذي يحرك بك هذا الشعور التضامني، إن لم يكن الشعور الوطني؟ نختلف في كل شيء تقريباً. دعونا نتفق على ما يجعلنا نتقاسم فرحاً وجيزاً ومن يدري فقد يفتح الفرح لنا طريقاً ليتشكل وطننا المؤجل منذ مائة عام.
(*) اللوحة المرفقة مع الموضوع للفنان التشكيلي اللبناني الراحل عارف الريس