هكذا يبدو المشهد من زاوية مناصري الرئيس التونسي قيس سعيّد، وهم بغالبيتهم من الفئات الشعبيّة التي أغراها حلم المجيء من الهوامش إلى عقر السلطة في قرطاج عبر أستاذ جامعيّ ما زال إلى اليوم يسكن إحدى الضواحي الشعبية للعاصمة. ويقوم الاستفتاء، المقرر الإثنين المقبل، بتصوّرهم وتصوّر مجمل مناصري سعيّد الذين من بينهم قوميون عرباً، على استقطاب ثنائي: بين صورة زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي وما كرّسه من زبونيّة سياسية في البلاد، وما تسبب فيه من خراب للدولة منذ عودته من منفاه البريطاني عقب سقوط نظام زين العابدين بن علي في مستهل 2011، وبين الرئيس الآتي من خارج المنظومة التي حكمت تونس في المرحلة التي يصفونها بـ”العشرية السّوداء”، ومنقذ البلاد من الإخوان ومن “دكتاتورية الأحزاب” بدستوره الجديد الذي قرر بشأنه منفرداً.
وتبني حركة النهضة موقفها على الأسس الاستقطابية نفسها، وهي ضليعة في ذلك إذ كانت الشريك الأساسي في ترسيخ هذا المفهوم في الحياة السياسية التونسية منذ انتخابات ٢٠١٤ وعهد الرئيس الباجي قائد السبسي. وهي، بالتالي، لا تعترف بكامل المسار الذي بدأ في ٢٥ تموز/يوليو ٢٠٢١، ولن تشارك في “استفتاء ينظمه الانقلاب”، بل تعوّل على ضعف المشاركة فيه بغية التشكيك بشرعيته وشرعية قيس سعيّد من ورائه.
في المقابل، تعلو أصوات إلى عدم الاختيار بين “السيء والأسوأ” على غرار ما جرى في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الأخيرة حين احتشدت أصوات كثيرة لمصلحة سعيّد خشية فوز شخصية توصف بـ”المافيوية”، أي نبيل القروي.
يُمثّل منح الرئيس التونسي لنفسه إمكانية تمديد ولايته بمرسوم “في حال وجود خطر داهم”، أحد أكثر المخاوف، بالإضافة إلى ما ينصّ عليه الفصل الخامس من مشروع الدستور لناحية احتكار الدولة تحقيق “مقاصد الإسلام الحنيف”، وهو ما يضع مدنية الدولة في خطر
وتتصاعد المخاوف في تونس من عودة ديكتاتورية أشدّ من تلك التي عاشتها البلاد خلال حكم زين العابدين بن علي، وذلك بالنظر إلى ما يمنحه الدستور العتيد لرئيس الجمهورية من صلاحيات غير محدودة تضرب مبدأ التوازن بين السلطات في ظلّ غياب أي سلطة مضادة، وبالنظر أيضاً إلى الأحاديث التي تسري عن “حملة أمنية ستطال المعارضين عقب الاستفتاء”، علماً أنّ وزارة الداخلية يتسع نفوذها منذ شهور وسط اتهامات لها بـ”إعادة البطش”، وقد أطلق عناصرها الغاز المسيّل للدموع أمس الجمعة لتفريق وقفة لأحزاب وأطياف من المجتمع المدني في وسط العاصمة رفضاً للدستور، وكان من بين المصابين نقيب الصحافيين ياسين الجلاصي فيما قال أمين عام حزب العمّال حمّة الهمامي عقب مشاركته إنّ ما حدث “كشف الوجه البشع لديكتاتورية قيس سعيّد”.
بناء قاعديّ للسلطة
ثمة نقاط جدلية كثيرة في مسوّدة الدستور. فعلى سبيل المثال، في مقابل مقترح لجنة تقنية كلّفها سعيّد بصياغة الدستور الجديد، وحدّدت نصاباً بثلثي أعضاء المجلس التشريعي لتوجيه طلب معلّل إلى المحكمة الدستورية لعزل الرئيس في حالة ارتكابه خرقاً جسيماً للدستور، لم تتطرّق النسخة النهائية الصادرة عن قيس سعيّد إلى أي حالة أو إمكانية لعزل الرئيس، بل لم تضعه حتى في موقع مسؤولية أمام أي جهة كانت. وللإشارة، فإنّ رئيس اللجنة الصادق بلعيد، وهو من أبرز فقهاء القانون الدستوريّ في تونس، اتهم سعيّد بتغيير النص الذي قدّمه إليه، وقال إنّ نسخة قرطاج تحتوي على فصول قد تمهد الطريق “لنظام ديكتاتوري مشين”.
كما يمثّل منح الرئيس التونسي لنفسه إمكانية تمديد ولايته بمرسوم “في حال وجود خطر داهم”، أحد أكثر المخاوف، بالإضافة إلى ما ينصّ عليه الفصل الخامس من مشروع الدستور لناحية احتكار الدولة تحقيق “مقاصد الإسلام الحنيف”، وهو ما يضع مدنية الدولة في خطر.
تبدو جليةً أيضاً في مشروع الدستور آلية سعيّد لتنفيذ مشروعه البديل عن الديمقراطية التمثيلية، والمعروف باسم “البناء القاعدي” للسلطة، في إشارة خصوصاً إلى إنشاء غرفة تشريعية ثانية، أي “مجلس الجهات والأقاليم” والذي أحيلت تفاصيل انتخابه وصلاحياته ودوره إلى قوانين تصدر بعد الاستفتاء، ولكن يُراد منه أن تُبنى السلطة من الأسفل نحو الاعلى أو من الرقعة الجغرافية الأصغر تراتبياً إلى الأكبر. وسيمثّل الفائزون بمقاعد الغرفة الثانية نواة نظام “حكم الشعب” الذي يطرحه سعيّد.
حصان طروادة؟
من البديهيّ أنّ الرئيس التونسي يحظى بدعم الجيش والأمن وجزء كبير من الإدارة، وإلا ما كان له أن ينجح في العبور بالبلاد إلى الحالة الاستثنائية في 25 تموز/يوليو 2021 وتجميد عمل البرلمان ثمّ حلّه. فالسواد الأعظم من القيادات الأمنية والجيش تؤمن بالدولة التي تضرب بيد من حديد، وهو ما غاب عنها منذ سقوط نظام بن علي وتغيير نظام الحكم من رئاسويّ إلى نظام سياسي هجين فتّت الدولة.
ومنذ ليلة 25 تموز/يوليو 2021، جرى تداول “رواية شعبية” في البلاد حول أنّ ما يحصل لا يتجاوز كونه مسعى دول إقليمية ودولية لإعادة تونس إلى مربع الحكم الفردي وإلغاء الإخوان نهائياً.
ووفق هذا المنظور، لا يتجاوز أيضاً ما قامت به رئيسة الحزب الدستوري الحرّ، عبير موسي، خلال سنتين في البرلمان لناحية بثّ الفوضى واستهداف النهضة وزعيمها راشد الغنوشي، كونه خطوة في سياق تعفين المشهد ليتكفل سعيّد عن غير وعي ربما بالخطوة الثانية، وهي الأهم، أي تعديل الدستور وتغيير نظام الحكم ومركزته بيد شخص واحد لا سلطة تحدث توازناً معه.
وهنا، وفق الرواية دائماً، ينتهي دور سعيّد! ليتمّ لاحقاً تصعيد رئيس آخر إلى قرطاج تكون قد جهّزت له قرارات الأستاذ الجامعي برتبة رئيس الأرضية المناسبة لحكم فردي يُغلق قوس الديمقراطية في تونس، ولهذا يشبّه البعض سعيّد بكونه مجرّد حصان طروادة.
وبرغم دعم الجيش والأمن والإدارة، وهو ثالوث النفوذ في البلاد إلى جانب “العائلات الكبيرة/الاحتكارية” وبعض السفارات، تمثّل تنسيقيّات قيس سعيّد المنتشرة في كافة المحافظات والتي رافقته طوال السنوات الأخيرة، أحد أبرز أعمدة ونقاط قوّة الرجل في مساره، وأحد أبرز أدوات الترويج للدستور الجديد على أساس أنّه “يقطع مع الفساد ومنظومة الأحزاب والديمقراطية الشكليّة التي كانت تعيشها تونس في السنوات الأخيرة”.
ويحظى قيس سعيّد ودستوره بدعم غير مشروط من القوميين في تونس، ممثلين أساساً في حزبي حركة الشعب والتيار الشعبي، وذلك بعدما منحهم دستوره اعترافاً في فصله السادس بأنّ “تونس جزء من الأمة العربية واللغة الرسمية هي اللغة العربية”، فضلاً عن إغرائه تيارات قومية محافظة بالتنصيص على أنّ “تونس جزء من الأمة الإسلامية”.
وكانت طبقة سياسية جديدة قد تقدّمت المشهد في أعقاب 25 تموز/يوليو 2021، لم تجد لها مكاناً خلال الفترة التي سبقت إعلان سعيد عن إجراءاته الاستثنائية، وهي لا تدّخر جهداً في مساندته شأنها شأن المتضرّرين من سقوط نظام بن علي والباحثين عن موقع لهم في المشهد السياسي قيد التشكيل من جديد في البلاد.
قيس سعيّد ذاهب إلى النهاية في مشروعه السياسي مهما كانت نتيجة الاستفتاء أو نسبة المشاركة فيه، فالرجّل لا يتوانى عن الحديث عن المؤامرات كلّما أخفق أو عزف التونسيون عمّا يطرحه عليهم، وعلى سبيل المثال: لم يتجاوز عدد المشاركين في الاستشارة الالكترونية التي أطلقها منذ بداية العام إلى آذار/مارس، الـ500 ألف تونسي، وهو ما يمثّل 5% فقط من نسبة السكان، ولكنه عزا ذلك إلى “جيوب الردّة والمتآمرين على الشعب”
العناد.. حاكماً
اختار طيف كبير من النخب السياسية والأحزاب “المقاطعة” عدم المشاركة في الاستفتاء كموقف يُعبّر عن عدم الاعتراف بكلّ المسار الذي أطلقه سعيّد منذ نحو سنة، وهو ما قد يُدخل البلاد في أزمة دستورية وشرعية جديدة، على غرار 2013، قد يعمّقها احتمال وقف مساعدات مالية دولية إلى تونس وهي بأشدّ الحاجة إليها.
وما يثير المخاوف فعلاً هو ما نصّ عليه الفصل 139 لناحية دخول الدستور حيّز النفاذ وتفعيله فور الإعلان عن النتائج النهائية للاستفتاء، كبديل عن دستور 2014 أو “دستور الإخوان” كما تسميه فئة وازنة في البلاد.
ويعوّل سعيّد على إمكانية المشاركة بكثافة والموافقة على مشروعه بناءً على مخاوف جزء كبير من التونسيين من عودة حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي إلى الحكم، أو العودة إلى ما قبل 25 تموز/يوليو 2021، وهي الفكرة التي تستند إليها تنسيقياته في المحافظات ومساندوه بمختلف أيديولوجياتهم وتفرّعاتهم وغاياتهم.
والمعروف في تونس أنّ الرئيس قيس سعيّد ذاهب إلى النهاية في مشروعه السياسي مهما كانت نتيجة الاستفتاء أو نسبة المشاركة فيه، فالرجّل لا يتوانى عن الحديث عن المؤامرات كلّما أخفق أو عزف التونسيون عمّا يطرحه عليهم، وعلى سبيل المثال: لم يتجاوز عدد المشاركين في الاستشارة الالكترونية التي أطلقها منذ بداية العام إلى آذار/مارس، الـ500 ألف تونسي، وهو ما يمثّل 5% فقط من نسبة السكان، ولكنه عزا ذلك إلى “جيوب الردّة والمتآمرين على الشعب”.. قبل أن يواصل طريقه!