“حليم”.. العندليب الناصري الأسمر

توافق هذه السنة الذكرى الخامسة والأربعين لرحيل “العندليب الأسمر” عبد الحليم حافظ، وكذلك الذكرى السبعين لـ“ثورة يوليو” عام 1952، وهي فرصة للتذكير بأن “حليم” لم يغنِّ فقط أغاني عاطفية بقيت خالدة في صفحات الموسيقى العربية، بل كان كذلك صوتاً في خدمة جمال عبد الناصر.

كثيرة هي المشاهد التي تعبر أذهاننا عندما نسمع اسم عبد الحليم حافظ يتردّد: مشاهد لأشهر عطلة صيف في تاريخ السينما المصرية في فيلم “أبي فوق الشجرة” (1969)، مقاطع حفلاته وطريقة تواصله مع الجمهور (و“الخناقة” على المسرح أثناء أدائه لقصيدة نزار قبّاني “قارئة الفنجان”)، علاقته مع سعاد حسني والكمّ الهائل من الإشاعات الذي لا تزال تُنتجه، وأخيراً وليس آخراً، معاناة الرجل الطويلة مع مرض البلهارسيا، حتى وفاته بلندن في 30 مارس/آذار 1977 عن عمر يناهز 47 سنة.

طبعاً، كل ما ترويه هذه المشاهد عن عبد الحليم شبانة (الاسم العائلي الحقيقي للفنان)، ابن محافظة الشرقية التي شهدت ميلاد العديد من مشاهير مصر. ذلك الفتى الذي صار يتيم الأب والأم وهو لم يتجاوز السنة الأولى من حياته، كل ذلك صحيح ووفيّ لمسيرة المطرب. لكن لا يمكن لهذه الصورة أن تكتمل دون أن نتحدّث عن عبد الحليم كفنان ناصريّ، رافق رئاسة الزعيم المصري السابق في أيام النصر كما في أيام الهزيمة.

ابن الثورة

لم تكن الساحة الفنية المصرية بداية الخمسينيات الماضية تخلو من كبار المطربين الذين ذاع صيتهم في كامل العالم العربي، من أم كلثوم إلى محمد عبد الوهاب مروراً بفريد الأطرش. في ظلّ هؤلاء، كان يقف جيل عبد الحليم ينتظر لحظته ويقتنص فرصته. وكان هؤلاء على قناعة بأن مصر بحاجة إلى تغيير وتجديد، تغيير سيأتي مع “ثورة الضباط الأحرار” وانقلاب جزء من الجيش في 23 يوليو/تموز 1952 على الملك فاروق.

تكاد الأغاني التي أدّاها عبد الحليم تغطّي تقريبا كامل فترة عبد الناصر، إذ تمتد من سنة 1952 إلى 1968. وقد لحّن أغلبها رجلان، هما كمال الطويل (والذي يُعدّ مع الشاعر عبد الرحمن الأبنودي والملحّن محمد الموجي من المقرّبين للعندليب الأسمر)، وبليغ حمدي أو “موسيقارنا الشاب” كما يقدّمه عادة عبد الحليم خلال حفلاته. ونرى من خلال هذا أن حليم ورفاقه قادرون على المراوحة بين الأغاني العاطفية والأغاني “الوطنية” كما توصف، وإن لم تكن المقاطع دائما بنفس الجودة.

طوال حياته، كان عبد الحليم حافظ يصف نفسه بـ“ابن الثورة”، وكانت الأغنية الأولى التي قدّمها في هذا السياق بعنوان “العهد الجديد”. وقد سجّلها إبان الثورة سنة 1952 مع عصمت عبد العليم، التي شاركت قبلها بسنتين في فيلم “آخر كذبة” (1950)، والذي غنّت فيه إلى جوار فريد الأطرش والراقصة سامية جمال الأغنية الشهيرة “بساط الريح”. لم يكن عبد الحليم آنذاك من المشاهير، بل سيسطع نجمه سنة 1955 بفضل شريطين، الأول هو “لحن الوفاء” حيث يؤدي دور البطولة مع شادية، والثاني هو “أيامنا الحلوة”، إلى جوار فاتن حمامة وعمر الشريف.

على وقع الحياة السياسية

ونحن نعيد الاستماع إلى هذه الأغاني، نلاحظ أن عبد الحليم اتبع نفس توجه خطابات جمال عبد الناصر. فكلمات الأغنية الأولى بالعربية الفصحى، وهي لم تَحِد في شكلها عن القواعد المعروفة للأناشيد الوطنية الرسمية، بإيقاعها شبه العسكري، وآلاتها النحاسية، والمجموعة الصوتية المرافقة، والنفس الحماسي. لكن بداية من 1956، سيختار عبد الحليم أن يغني بالعامية المصرية، مقتفيا في ذلك أثر “الرّيّس” الذي تبنّى هو الآخر اللهجة المصرية في خطاباته ابتداء من خطاب تأميم شركة قناة السويس. حتى أنه في أغنية “بلدي يا بلدي” سنة 1964 يقول:

يا أولاد بلدي، يا أولاد بلدي
أنا حتكلم كده بالبلدي
بقى بالبلدي احنا يا جدعان
ثورتنا ثورة جدعان
جدعان سُمر
في عزّ العمر

كانت كل مرحلة من المراحل المهمة لتلك الفترة تُترجم موسيقيا. فبين صيف وخريف 1956، غنّى عبد الحليم “احنا الشعب” بمناسبة انتخاب عبد الناصر رئيساً للجمهورية، رفقة مجموعة صوتية تعدّ رجالاً ونساءً وحتى أطفالاً، سجّل بعدها أغنية “الله يا بلدنا” غداة العدوان الثلاثي.

ثم كانت الإشادة ببناء السد العالي في أجواء احتفالية ومن خلال أغنية “حكاية شعب” (ألحان كمال الطويل)، وذلك سنة 1960. وكان عبد الحليم يغنيها في الحفلات وهو يجوب المسرح ويصفّق بكل حماس، ويشجّع الجمهور على مشاركة المجموعة الصوتية في الغناء:

قلنا حنبني وده احنا بنينا
السد العالي
يا استعمار بنيناه بإيدينا
السد العالي
من أموالنا، بإيد عمّالنا
هي الكلمة، وده احنا بنينا

ربّما للضرورة للشعرية، تم “تناسي” دور الاتحاد السوفياتي في بناء سد أسوان. وإلى جانب اللحن والكلمات المغناة، يشدّنا في هذه الأغنية البعد المسرحي للإلقاء، فالعندليب لم يعد يغنّي بل صار يخطب في الجماهير، وها هو يقاطع المجموعة الصوتية ليتحدّث إلى الجمهور قائلا بحماس:

إخواني! تسمحولي بكلمة؟ الحكاية مش حكاية سدّ.. حكاية الكفاح الي ورا السّد.. حكايتنا احنا.. حكاية شعب للزحف المقدّس قام وصار.. شعب زاحف خطوتو تولّع شرار.. شعب كافح وانكتبلو الانتصار..

إقرأ على موقع 180  نصرالله لا يكشف أوراقه والحريري عائد.. والحكومة مؤجلة

كما نجد هذا النفس الحماسي في أغنية “مطالب شعب” التي يؤديها الفنان في نادي الضباط وبحضور جمال عبد الناصر بمناسبة الذكرى العاشرة لـ“ثورة يوليو”. في بداية الأغنية، يفسح “حليم” المجال لـ“ناصر”، حيث يتم بث مقاطع من خطابات الأخير عبر الأبواق، تتخلّلها فواصل موسيقية تؤديها الأوركسترا، والتصفيق الحارّ لعبد الحليم، ناهيك عن الشعارات التي ترفعها الفرقة الصوتية وكأن الحفلة باتت عرضا عسكريا: “طريق الثورة طريق النصر! عاش الجيش وتعيشي يا مصر!”. ثم يقترب عبد الحليم من الميكروفون، ويغني وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة تكاد تكون ساذجة:

هندسها جمال وحنبنيها
وحنطلع فوق السماء بيها
حبيبتنا بلدنا الي كنوزها
رجعت لأصحابها وأهاليها
بلد الأحرار، كلها ثوار
ولا كلمة لغير شعبها فيها
ولا كلمة.

طبول الحرب

لم يكتف حليم بالإشادة بالثورة الاشتراكية ومكاسبها، بل كان كذلك صوت الملاحم، تارة لتحضير الرأي العام لاقتراب الحرب، وطورا لحشد عزائم الجيوش. وها هو سنة 1965 يغني، متفائلا وساخراً في نفس الوقت، أغنية “يا أهلا بالمعارك” من كلمات الشاعر كمال الطويل وألحان صالح جاهين، والتي تخلِط مقدّمتها الموسيقية بين نغمة الأذان وبين النفس الملحمي للفرقة النحاسية:

يا أهلا بالمعارك
يا بخت مين يشارك
بنارها نستبارك
ونطلع منصورين
ملايين الشعب
تدق الكعب
تقول كلّنا جاهزين

وتراوح الأغنية بين مذهب بإيقاع عسكري ومقطع بلحن شبه حزين، بينما يذكر النص “الضباط الأحرار” وحرب 1956، مبشّراً بنصر قريب. ومع اقتراب حرب 1967، سيلحّن كمال الطويل أربع أغاني عسكرية قصيرة (بعضها لا يتجاوز دقيقة واحدة)، تفتقر حقيقة للجودة الموسيقية، فهدفها الوحيد هو حشد العزائم، لكنها تشهد عما كانت عليه الأمور في تلك الفترة.

سيبقى عبد الحليم وفيّا للمثل العليا الناصرية حتى بعد نكسة يونيو/حزيران 1967، وسيؤدّي غداة الهزيمة أغنية “عدّى النهار” من ألحان بليغ حمدي. من سخرية الأقدار أنه يمكن اعتبار المقدمة الموسيقية الحزينة لهذا اللحن هي الأجمل من بين كل الأغاني الناصرية التي أدّاها العندليب (…).

بعد “خطاب التنحي” لعبد الناصر، ضمّ عبد الحليم صوته لصوت الحشود التي خرجت تطالبه بالعدل عن قراره، فغنّى “ناصر يا حريّة” (1967). ثم رافق الخطاب الرسمي الذي يؤكّد على الاستعداد لخوض معركة جديدة، فغنّى “البندقيّة تكلّمت” من ألحان بليغ حمدي، الذي سيلحّن في السنة الموالية أشهر أغاني فيلم “أبي فوق الشجرة”، والتي سيحفظها التاريخ كواحدة من أكبر نجاحات عبد الحليم.

كما شارك حليم في أناشيد القومية العربية التي ألّفها محمد عبد الوهاب، ولعلّ أشهرها على الإطلاق هو “الوطن الأكبر” (1960)، الذي ضمّ ثلّة من أشهر أصوات تلك الفترة، والذي تذكّر مشاهده المصوّرة بمشاهد الفن الاشتراكي السوفياتي (…).

بقي عبد الحليم وفيّاً للرئيس المصري حتى بعد وفاة الأخير. فخلال حفل موسيقي له في دمشق في 22 فبراير/شباط 1971، أي بعد أقل من خمسة أشهر على وفاة الزعيم، طلب المطرب من الجمهور السوري الوقوف لدقيقة حداد، تخليداً لذكرى “الرجل الذي عاش وضحىّ من أجل الأمة العربية، ومن أجل الوحدة”. ثم أدّى أغنية “أحلف بسماها” التي استُلهمت كلماتها من الخطاب الذي ألقاه عبد الناصر خلال زيارته الأولى للعاصمة السورية (…).

لم يحظ عبد الحليم حافظ أبداً بصداقة عبد الناصر الخاصّة، لكن جمع بينهما في السينما ممثل واحد هو أحمد زكي، وهو كذلك أحد أبناء الشرقية الذي لعب دور الرئيس المصري في فيلم “ناصر 56” المصوَّر بالأسود والأبيض عام 1996، ودور العندليب الأسمر في فيلم “حليم” (2006)، عندما كان هو نفسه على وشك الموت.

(*) بالتزامن مع “أوريان 21

Print Friendly, PDF & Email
سارة قريرة

صحافية، حاصلة على شهادة الدكتوراه في الأدب الفرنسي، مسؤولة عن الصفحات العربية لموقع أوريان 21.

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  من بكداشي الإنكشارية إلى أردوغان.. شيخ تركيا الحديثة