البلقان.. برميل بارود

لم يعد الغرب وحيداً في منطقة البلقان. صارت ساحة صراع بين القوى الكبرى، لا سيما أنها بوابة جنوب أوروبا بالنسبة لروسيا. تعهدت موسكو بمنع انضمام المزيد من دول غرب البلقان إلى "الناتو". وبينما يتجه كل طرف إلى قطبٍ مختلف في العالم، تزداد المخاوف من حرب وشيكة في القارة الأوروبية، لكن لمصلحة من ذلك؟

منذ وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة، بدأ في إعادة بناء تحالفاته مع الحلفاء السابقين للإتحاد السوفياتي، بما في ذلك الصرب. ومع الوقت، أصبحت صربيا قاعدة متقدمة لروسيا في أوروبا حتى أن بلغراد نظمت احتجاجات تُندد بالعقوبات الغربية ضد روسيا، غداة حرب أوكرانيا.

تتمتع صربيا بعلاقات قوية مع القوميين الصرب في البوسنة والهرسك ويمكن أن تؤثر عليهم لزعزعة استقرار البوسنة وهذا ما حدث. كما لدى بلغراد مشكلة مع اقليم كوسوفو المنشق عنها عكس ارادتها والتي تواجه ايضا مشكلة قديمة جديدة معه لا يمكن فصلها عن مسار التطورات التي افرزتها حرب اوكرانيا.

تاريخياً، وتحديداً خلال الحقبة السوفياتية، كان الاتحاد اليوغوسلافي جزءاً من المعسكر الشرقي (حلف وارسو) بقيادة الاتحاد السوفياتي. وعقب انهيار الأخير، في مطلع التسعينيات الماضية، سار الاتحاد اليوغسلافي على الطريق إياه. حرب مدمرة مزقت يوغوسلافيا وجعلتها دويلات متصارعة. إرتكبت مجازر مروعة إضافةً إلى تشريد الملايين من السكان، وانتهت تلك الحرب بتدخل حلف شمال الاطلسي “الناتو” الذي دك العاصمة الصربية بلغراد ما سمح بظهور دول جديدة  منها البوسنة والهرسك التي تكونت من أقليات كبيرة كالمسلمين البوشناق، الصرب الأرثوذكس، والكروات الكاثوليك، الذين توافقوا على تقاسم السلطة من خلال مجلس رئاسي ثلاثي لقيادة البوسنة والهرسك.

بعد شهر من الغزو الروسي لأوكرانيا، هدّد السفير الروسي في سراييفو إيغور كالبوخوف البوسنة والهرسك بمصير أوكرانيا نفسه إذا قررت سراييفو الانضمام إلى حلف “الناتو”، وهذا التهديد جاء قبل موافقة تركيا على انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف، وهذا يعني أن التهديد الروسي أصبح الآن أكثر جدية

بدأت التوترات بين صرب البوسنة وباقي المكونات في منتصف عام 2021 عندما رفض ميلوراد دوديك، العضو الصربي في الرئاسة الثلاثية للبوسنة، تجريم إنكار الإبادة الجماعية في التسعينيات. كما هدد دوديك بانفصال جمهورية صربسكا والمقصود بها صرب البوسنة، فكان أن تحركت الجمعية الوطنية لجمهورية صربسكا للانسحاب من مؤسسات القضاء والأمن والدفاع في البوسنة، إضافةً إلى تهديد دوديك بطرد القوات المسلحة البوسنية من جمهورية صربسكا، الأمر الذي دفع مندوب البوسنة لدى الأمم المتحدة للمطالبة بتدخل دولي لمنع تفكك البلاد، وخرج دوديك مهدداً بأن أي تدخل غربي سيقابل بتدخل من حلفاء صربيا. وهذا يعني تحويل البلاد إلى ساحة معركة بين الروس وحلف شمال الأطلسي، وهذا ما أضاف شبحاً جديداً يلقي بظله الثقيل على أوروبا المُربكة في التعامل مع ملف الحرب الروسية ـ الأوكرانية.

بعد شهر من الغزو الروسي لأوكرانيا، هدّد السفير الروسي في سراييفو إيغور كالبوخوف البوسنة والهرسك بمصير أوكرانيا نفسه إذا قررت سراييفو الانضمام إلى حلف “الناتو”، وهذا التهديد جاء قبل موافقة تركيا على انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف، وهذا يعني أن التهديد الروسي أصبح الآن أكثر جدية، ذلك أن الروس لن يتساهلوا مع انضمام المزيد من دول الجوار إلى حلف شمال الأطلسي، خاصة في دولة يملكون نفوذاً وازناً فيها مثل البوسنة. بالمقابل، قال رئيس الوزراء البريطاني المستقيل بوريس جونسون، إنه لا يمكننا أن نسمح لغرب البلقان بأن يصبح ملعباً جديداً للرئيس الروسي فلاديمير بوتيين، مؤكداً أن بلاده سترسل خبراء عسكريين إلى غرب البلقان لمواجهة ما أسماه “النفوذ الروسي” هناك.

جمهورية صربسكا، إحدى المنطقتين المستقلتين اللتين تشكلان البوسنة والهرسك وتغطي حوالي نصف أراضي البلاد، يقودها ميلوراد دوديك منذ 12 عاماً تقريباً وهو من دعاة الانفصال عن البوسنة والهرسك. وتمر بعض أكبر الاستثمارات الروسية عبر جمهورية صربسكا. كما أن شركة “غازبروم نافت” إشترت شركة الصناعات البترولية الصربية مقابل 450 مليون دولار. في مقابل هذا الاتفاق، استخدمت روسيا حق النقض في مجلس الأمن لمنع استقلال كوسوفو عن صربيا، التي تعتبرها جزءاً لا يتجزأ من أراضيها.

على الورق، يضمن الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي السلام في البوسنة والهرسك، لكن هذا لا يحدث على أرض الواقع، وقد حاول كلاهما التغلب على هذه الأزمة من خلال مضاعفة عدد قوات حفظ السلام في البوسنة، لكنها تبقى قوة قليلة العدد مع استمرار حالة عدم الاستقرار الداخلي والتي ظهرت بعدة أشكال، كالقيام بتدريبات عسكرية في مناطق جغرافية حساسة قامت بها بعض وحدات الشرطة الصربية، وتنظيم احتفالات بيوم الاستقلال لجمهورية صربسكا الذي يحظرها القانون الاتحادي لجمهورية البوسنة والهرسك، وسن قوانين انفصالية من قبل برلمان جمهورية صربسكا تمهد الطريق للإنفصال عن المؤسسات المركزية. الأمر المخيف في هذا السيناريو هو أن الانقسام في واحدة من أكثر الدول تسليحاً في أوروبا على صعيد السكان سيكون مكتوباً بالدم والدمار ويمكن أن يجر البوسنة والهرسك إلى حرب أهلية دموية. يأتي ذلك في وقت تخلت فيه البوسنة والهرسك عن كل أمل في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو “الناتو” كطريقة أخيرة للبقاء موحدة، لكن الحرب في أوكرانيا غيّرت المعادلة.

إقرأ على موقع 180  أوكرانيا.. مخاض جديد في عالم جديد!

وفي المقلب الآخر من البلقان الصربي، اشتدت الحماوة بين صربيا المدعومة من موسكو واقليم كوسوفو التي تصفه بلغراد بانه صنيعة واشنطن وحلف شمال الاطلسي، والمشكلة الرئيسية تأتي من وجود “الناتو” في كوسوفو الذي تعادل مساحته مساحة لبنان (10800 كلم2). فقد خرجت تقارير من روسيا تؤكد وجود “الناتو” في الإقليم من خلال قوات حفظ السلام في المنطقة، وهو ما لم ينفه أي من الطرفين. وجاء بيان رسمي لـ”الناتو” ليؤكد وجود قوات له في الإقليم بعد أن قال الحلف إن الوضع الأمني في شمال كوسوفو متوتر وأكدت تقارير غربية أن بعثة “الناتو” يصل تعدادها إلى 3770 جنديا يتحركون بعنوان “حفظ السلام في كوسوفو”.

الخلاف بين الجانبين ليس الأول من نوعه. إقليم كوسوفو الذي تتكون الأغلبية الساحقة فيه من السكان الألبان، انفصل عن صربيا في عام 1999 وأعلن الاستقلال رسمياً في عام 2008. ومع ذلك، استمرت صربيا تعتبر كوسوفو جزءاً من أراضيها، خاصة في ظل وجود أقلية صربية في المنطقة. يوجد حوالي 50 ألف صربي في شمال البلاد وما زالوا يستخدمون الوثائق الصربية ويرفضون الاعتراف بالمؤسسات التابعة لكوسوفو. على الرغم من اتفاق السلام الموقع بين البلدين في عام 2013 الذي ظل حبراً على ورق اذ ان بلغراد ما زالت تعتبر بريشتينا جزءاً من أراضيها، وتدعم الأقليّة الصربية في كوسوفو.

قد يكون البلقان ساحة خصبة للصراع. وفي هذا الصدد، تقول الأكاديمية الروسية ايكاترينا إنتينا: “مساعدة روسيا الآن لصربيا غير واردة حالياً لا سيما في ظل الهجوم الاوكراني المضاد في خيرسون ومناطق اخرى، بالإضافة إلى تعزيز الوجود في الأراضي التي تمت السيطرة عليها في الدونباس. وتالياً لن يساعد أحد بلغراد”

وبرغم التهدئة الشكلية في الاقليم نتيجة جهود تركية أوروبية روسية، فان الكثير من المؤشرات تشي بأنّها هدنة مؤقّتة حيث تعلن قيادات الأطلسي أنّها مستعدّة لدخول كوسوفو إذا ما تعرّض الاستقرار فيها للخطر، خصوصاً أنّ الرئيسة الكوسوفيّة فيوزا عثماني تتهم روسيا ببذل جهود حثيثة من أجل زعزعة استقرار غرب البلقان بكامله، وهو ما دفع موسكو إلى تحميل بريشتينا مسؤولية زيادة التوتّر بسبب “القواعد التمييزية التي لا أساس لها”، التي تفرضها سلطات كوسوفو على الصرب في الشمال. السبب الحقيقي، كما يرى البعض، هو زيارة رئيسة كوسوفو فيوزا عثماني إلى العاصمة الأميركية وإجتماعها بنظيرها الأميركي جو بايدن ومطالبتها له بدعم جهود انضمام بلادها إلى حلف شمال الأطلسي والمجموعة الأوروبية، باعتبار أنّ هذا الانضمام فرصة استراتيجية لمواجهة التهديد الروسي. لكنّ أسباباً كثيرة، سياسية وأمنيّة وعرقية، تجعل النار مختبئة تحت الرماد في بقعة جغرافية يصعب العيش المشترك فيها بين أقلّيّات دائمة التناحر.. تاريخياً.

أوروبا تقول انها تبذل جهوداً كبيرة لمنع إشتعال النيران في البلقان، وتتهم موسكو بانها تنوي إشعال شرارة الحرب خصوصاً مع رغبة “الناتو” في الافادة من مزايا هذه البلدان وضمها للحلف ومنها البوسنة والهرسك، وفي مقابل ذلك تحتاج بلغراد إلى روسيا للبقاء في قلب المشهد البلقاني. كما أن موسكو تتهم الغرب بانه يسعى الى تشتيت القوّة الروسية وإقحامها في أكثر من جبهة توتّر عسكري وسياسي واقتصادي.

بهذا المعنى، قد يكون البلقان ساحة خصبة للصراع. وفي هذا الصدد، تقول الأكاديمية الروسية ايكاترينا إنتينا: “مساعدة روسيا الآن لصربيا غير واردة حالياً لا سيما في ظل الهجوم الاوكراني المضاد في خيرسون ومناطق اخرى، بالإضافة إلى تعزيز الوجود في الأراضي التي تمت السيطرة عليها في الدونباس. وتالياً لن يساعد أحد بلغراد”.

هذا الوضع يمنح الغرب ورقتين رابحتين: الأولى، القول إن “الروس تخلوا عنكم”، والثانية، “الترويج لفكرة أنه لو لم تكن هناك أوكرانيا، لما خسرت صربيا كوسوفو”.

وأياً كانت الاحتمالات، فان اسم البلقان يجسد قلقا في الذاكرة الجماعية الاوروبية والعالمية نظرا لتاريخ هذه المنطقة المثقل بالحروب والاوجاع والآلام.. والدماء.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

كاتب سوري

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  ما بعد "الطوفان".. أزمة إسرائيل وجودية داخلياً وخارجياً