مروّعة أخبار العنف التي تتناقلها، بخجل، وسائل إعلامنا. فكثيراً ما تُطالِعنا بصور وجوهٍ وأجسادٍ شوّهها العنف. كما لو أنّها سقطت من قممٍ شاهقة. والمروّع أكثر، أنّ هكذا أخباراً وصوراً باتت وكأنّها مستساغة. لعلّها تكسر رتابة النشرات الإخباريّة الخاوية من كلّ “أكشن”. ففي خضمّ الأزمات والنكبات، يرتكب اللبنانيّون عنفهم. الذكور منهم، تحديداً. عنف، يتربّص بضحاياه في كلّ زاوية. رافعاً معه منسوب الجرائم في المناطق اللبنانيّة.
عمليّات سرقة وسطو علنيّة (بمعظمها). تضارب وإشكالات أمنيّة. وصولاً إلى جرائم تعذيب وقتل صريح ومتعمَّد. وجلّ المعنَّفين نساء يقضين على أيدي أزواجهنّ. وهؤلاء، صاروا يتفنّنون في أساليب “إعدام” ضحاياهم. يذكّرون بفيديوهات الإجرام الشهيرة للدواعش في الـ 2014. تلك التي كانت “تشوّق” المشاهدين لمتابعتها، بأساليب مبتكرة للقتل. تابعوها، مثلما نتابع حلقات مسلسل رعبٍ تلفزيوني. ماذا سيجترح إرهابيّو العصر، يا ترى، وسائل غير الذبح. والحرق. والصلب. والرجم. والإغراق. والتفجير. والسحل؟
لبنانيّتان ترقدان منذ الأسبوع الماضي على سرير الاحتضار. الأولى، دفعها الضرب والتعذيب على يد زوجها (وهو عسكري) لمحاولة الانتحار. والثانية (توفّيت قبل يوميْن)، كانت حاملاً في الشهر الخامس. أحرقها زوجها بقارورة غاز. انضمّت الضحيّتان الجديدتان، إلى سجلٍ طويل من ضحايا العنف اللبناني المتسلسل والممنهج ضدّ النساء. هنّ أبرز ضحايا الحقوق المهدورة في لبنان. وضحايا التحامل القانوني عليهنّ. لتبقى حياتهنّ مرتهَنة لرحمة القَتَلة، من الرجال الأوصياء عليهنّ. هنّ، بالمختصر المفيد، ضحايا إهمال السلطات اللبنانيّة. بكافّة أجهزتها. والتي لا تزال تناور لعدم الاقتصاص من جُناة العنف الأُسري. هنّ، بالمختصر المفيد أيضاً، ضحايا المجتمع اللبناني. والذي لا ينفكّ يبرِّر للمجرمين (على أنواعهم) ويتستّر عليهم. ولكن، أين كان يتوارى كلّ هذا العنف؟
للإجابة على هذا التساؤل، تساؤلات أخرى تطرح نفسها: هل إنّ الإنسان اللبناني هو كائن عنيف؟ أم إنّه تمرّس على العنف مع الوقت؟ هل هذا العنف جزءٌ من طبيعته الإنسانيّة؟ فطرة كامنة في أصوله الغريزيّة؟ أم إنّه اكتسب هذا العنف اكتساباً؟
عويصة الإجابة على هذه التساؤلات. فلقد تضاربت الآراء، حول أصول العنف وأنواعه. واختلفت نظريّات المدارس العلميّة والفلسفيّة، حول تفسير هذه “الرذيلة”. وما إذا كانت نتاجاً للظروف الاجتماعيّة وخاصيّة اجتماعيّة نَمَت معها الحضارة ونشأت. أم إنّها سلوك مرضي “لإنسان بحدِّ ذاته” يكمن العنف في أعماقه. إنّما، ومع بداية القرن الفائت، حُسِم الخلاف. حسمه علم التحليل النفسي الفردي (Freud)، وعلم النفس التحليلي التجريبي (Jung وFromm).
إذْ ثبُت، بالتجربة، أنّ العنف ينقسم إلى شكليْن: العنف الدفاعي الغريزي الهادف إلى الحفاظ على النوع (يشترك فيه الإنسان والحيوان)؛ والعنف الخبيث (أو حبّ الإفناء)، وهو عنف مكتسَب يختصّ به الجنس البشري. وتندرج ضمن النوع الثاني، “ميول” مثل الساديّة وحبّ الموت والتدمير. ومن الممكن إثارة هذا العنف والتأثير عليه، بواسطة العوامل الثقافيّة.
لقد تعمّد حُكّامنا تفكيك مجتمعنا إرباً. لا بل تفتيته. ارتكبوا، كرمى لهذه الغاية، كلّ ما يخطر ببالكم وما لا يخطر من ارتكابات. زرعوا بذور العنف في كلّ التُربات. حرثوا وسقوا زرعهم، كي لا تبقى الدولة مرجعيّة المجتمع والإطار الناظم له. وكي يصبحوا، هم، ضابط الإيقاع الوحيد للعلاقات المغشوشة والضلاليّة بين أفراد المجتمع اللبناني (المفكّك)
لن أذهب أكثر في التفسير العلمي لظاهرة العنف (نزولاً عند رغبة رئيس تحرير الموقع الذي “اتّهمني” بالانزلاق أحياناً إلى عالم الأكاديميا ☺). لكن لا بدّ من التأكيد، على ما اتّفقت عليه تجارب علماء النفس والاجتماع. وهو، أنّ بعض المجتمعات توفّر عوامل وظروف ملائمة لإثارة الميل إلى العنف. وإلى ممارسته من قِبَل أفرادها. بل إنّها تؤسِّس لمنظومةٍ كاملةٍ متكاملة من المفاهيم، يرتكز إليها ما بات يُسمّى “ثقافة العنف”. وهي ثقافة تقوم على كلّ صنوف الاستلاب (الاجتماعي، السياسي، الديني، الاقتصادي..).
وتولّد هذه الاستلابات، بدورها، استلاباً انفعاليّاً. سرعان ما يستحيل إلى عنف. عنف فردي وآخر جماعي. فأينما تجد أشخاصاً مُستلَبين، تجد مجتمعاتٍ مُستلَبة. وأينما تجد مجتمعاتٍ مُستلَبة تجد أشخاصاً عنيفين. إنّها معادلة حسابيّة مُثبَتة. وتتكوّن المجتمعات المُستلَبة، عادةً، من جماعاتٍ محبطة. ومقهورة. ومقموعة. ومعذّبة. ومنهوبة. و.. تصحّ كلّ الصفات المشابهة والمشتقّة منها.
أهلاً بكم في بلد العنف لبنان! فبفضل العنف الذي تجذّر في الأرض اللبنانيّة، تصدّر مجتمعه قائمة المجتمعات المُستلَبة. وركب أهله في “قطار موتٍ عبثيٍّ سريع”. بينما انشغل حكّامه في الإجابة على السؤال – المعضلة: البيضة وُجِدت قبل الدجاجة أم العكس؟ لقد حملت لنا السنوات القليلة الماضية أحداثاً عنفيّة، من نوعٍ خاصّ. بعض تلك الأحداث، هي من الموروثات. ففي بلدنا، يتناقل الأجداد والآباء ذاكرةً جماعيّة حول العنف الذي طاولهم. إذْ لم تستطع الجماعات اللبنانيّة الخروج من ماضيها العنيف. لأنّ مظاهره، لمّا تزل تستعر في الحاضر. وبعضها الآخر يؤسّس لأحداثٍ سنجني، في القابل من الأيّام، عواقبها الوخيمة.
لطالما كان العنف اللبناني فرديّاً. فالعادة جرت أن يعنّف القوي الضعيف. والكبير الصغير. والأب ابنه (أو ابنته). والأستاذ الطالب. والزوج الزوجة. وربّة البيت الخادمة.. وهكذا. وهذا العنف الفردي يكون، في الغالب، ردَّ فعلٍ على عنفٍ اجتماعي واقتصادي وسياسي و.. بين الفعل وردِّ الفعل، صار مجتمعنا يدور في دوّامة العنف. العنف المتصاعد من الفرد إلى العائلة. إلى المدرسة. إلى الحزب. إلى الإعلام. إلى أرجاء المجتمع، كافةً. ويرتدّ، في بعض الأحيان، عنفاً بإسم العقائد والدين والأخلاق.
قد يكون أخطر ما في العنف المتفاقم في لبنان، أنّه عنف يُنظَر إليه بعين القبول وعدم الاستنكار. فمعظم أبناء بلدنا صاروا أشدّ تكيُّفاً مع العنف. وصاروا متساهلين، وبشكلٍ يبعث على اليأس، مع المعنِّفين. يرفعون لهم شعاراً يقول “حين تكون في الغابة إفعل ما تفعله الضواري”! في بلدنا، تقدِّم ثقافة المجتمع الإكراه على الإقناع. والإلزام على التلقائيّة. لذا، يصبح من الطبيعي أن يُقدَّم العنف على التفاهم. والاعتداء على التحاور.
وعندما تعتبر “سلطةٌ ما”، أنّ العنف هو الحلّ لكلّ المشاكل. ولتقويم المعوجّ قولاً وفعلاً. يغدو من غير المُستهجَن، عندئذٍ، أن يسود حُكّام قهريّون في هذا الوطن. لا يرون وسيلةً لتحقيق مآربهم، سوى اتّباع القوّة والقهر والكراهية. “ولا يستطيع الإنسان أن يبني فوق الحقد. لأنّه سيكون مثل مَن يبني فوق المستنقع”، كما يعبّر الروائي الروماني Liviu Rebreanu.
ما يزيد الطين بلّة، هو لجوء بعض اللبنانيّين (معظمهم؟) إلى تبرير العنف. وتحصين المعنِّفين عبر خطابٍ مشبع بالجهل والانحطاط القيمي. كلّ خطاباتنا في لبنان على هذا المنوال
مسألة أخرى تُميّز المجتمع الذي يستشري، بين أفراده، العنف. فهو يتحوّل، شيئاً فشيئاً، إلى مجتمع فاشل (على غرار الدولة الفاشلة). فالعنف الذي يمارسه أفراد مجتمعٍ ما بحقّ بعضهم، يفكّك الروابط في ما بينهم. وتصبح علاقاتهم تنافسيّة ولاأخلاقيّة ونزاعيّة وعدائيّة. إذّاك، يمسي كلّ إنسان ضدّ كلّ إنسان. ويصير كلّ فرد عدوّ كلّ فرد. خلال السنوات الماضية، جاهدت الطبقة السياسيّة المتحكّمة بنا، لخلق هذا النموذج من المجتمعات الفاشلة. نعم. لقد تعمّد حُكّامنا تفكيك مجتمعنا إرباً. لا بل تفتيته.
ارتكبوا، كرمى لهذه الغاية، كلّ ما يخطر ببالكم وما لا يخطر من ارتكابات. زرعوا بذور العنف في كلّ التُربات. حرثوا وسقوا زرعهم، كي لا تبقى الدولة مرجعيّة المجتمع والإطار الناظم له. وكي يصبحوا، هم، ضابط الإيقاع الوحيد للعلاقات المغشوشة والضلاليّة بين أفراد المجتمع اللبناني (المفكّك). وللعنف والعنف المضادّ. بذلوا الغالي والنفيس، لكي يتحوّل لبنان إلى عالمٍ مزيّف. يلعب كلّه لعبة العنف.
كلمة أخيرة. يكمن أوّل مستلزمات الكرامة الإنسانية، في قدرة عيش أفراد المجتمع، معاً. في مأمنٍ من أيّ عنف أو تعدٍّ جسدي أو لفظي، من أيّ نوعٍ كان. وحين ينشأ الكائن البشري في مجتمعٍ عنيف، يصير لا يفهم إلاّ لغة العنف. فيعكس “عنفه” على الآخرين. ويستبيح قدسيّة حياتهم. من دون أن يرفّ له جفن أخلاق. وما يزيد الطين بلّة، هو لجوء بعض اللبنانيّين (معظمهم؟) إلى تبرير العنف. وتحصين المعنِّفين عبر خطابٍ مشبع بالجهل والانحطاط القيمي. كلّ خطاباتنا في لبنان على هذا المنوال. إقتضى التنويه.