كان سبق لرئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط أن التقى ريمون إدّه ثلاث مرّات في مقرّ إقامته باريس في خلال الأشهر القليلة التي سبقت الانتخابات. وكان «العميد» ينتظر إقرار القانون الذي ستُجرى الانتخابات على أساسه بعد 20 عامًا على دورة الـ1972، كما أنه استفسر حتى عن آلية تقديم ترشيحه من باريس كما سبق له أن أوعز لقياديي الكتلة ومسؤوليها بتنشيط الماكينة الانتخابية «احتياطًا»، لكن من يعرف حقيقة ما كان يدور في رأس العميد الذي عاد وأبلغ حوّاط بعد 10 أيام أن الحزب سيقاطع الانتخابات التشريعية؟
وجد حوّاط المؤيِّد والتوّاق للمشاركة، كما الدكتور ألبير مخيبر، صعوبةً بالغة في إقناع العميد بأن الوقت آن لقطف ثمار النضال السلمي مع أول انتخابات تشريعية بعد زمن الحرب الأهلية. وقتئذٍ لم تكن كرة الدعوة إلى المقاطعة قد كبُرت «مسيحيًا» إلى درجة يستحيل إيقافها في أي منحدر. حجّة العميد للسير بالمقاطعة أن الانتخابات النيابية لن تكون حرّة ونزيهة في ظلّ الاحتلالات. لم يقتنع حوّاط بمبرّرات رئيسه، لكنه مشى في المقاطعة على مضض.
في أي حال فإن قرار إجراء انتخابات تشريعية قبل موعد انتهاء التجديد الثامن لمجلس النواب في 31 كانون الأول/ديسمبر 1994، ما كان بريئًا ولا كان الهدف منه تنشيط اللعبة الديمقراطية في ظلّ الوصاية السورية وتلبية شوق اللبنانيين إلى اختيار ممثّلين جدد. والأنكى أنه جاء بعد مرور سنة وشهرَين على ضخّ «أربعين نائبًا» في البرلمان وذلك بالتعيين «ولمرّةٍ واحدة»، أُدخِلوا بدل النواب المتوفّين ولتكملة المقاعد المستحدثة بموجب القانون رقم 51 الصادر بتاريخ 23/5/1991، الذي رفع عدد النواب إلى 108 بزيادة تسعة نواب مسلمين إحقاقًا للمناصفة. ومعروفٌ أن عملية التعيين أوجدها الانتداب الفرنسي لكي يعيّن أزلامه والمحسوبين عليه ممن يصعب عليهم الوصول بقدراتهم الشعبية إلى المجلس النيابي عن طريق الانتخاب.
وإن كان لـ«الحكيم» مأخذ على «العميد» أنه قرّر المقاطعة من دون استشارته لكن هذا الأمر لم يدفع بـ«نائب الشعب» الى السير عكس المزاج الشعبي لا بل أنه دعا إلى الإضراب المفتوح قبل عشرة أيام من الانتخابات، فقيل له إن الدولار انخفض فقال ممازحًا: حسنًا أنا مستمرّ بالدعوة إلى الإضراب حتى يصير الدولار بـ3 آلاف!
أما مسألة تعيين النواب في العام 1991 فلها ظروف مختلفة وقد اعتبر وزير الدولة نبيه برّي «أن مسألة تعيين النواب، كأس مرّة، ولكن لا بدّ منها».
من موقعه النيابي عارض النائب ألبير مخيبر رفع عدد النواب والتعيين وكلّ هذا الانحراف الديمقراطي، لكن ما كتبته القيادة السورية، قد كُتب. ويروي الياس الفرزلي في كتابه «أجمل التاريخ كان غدًا» عمّا سبق “جلسة تعيين المحظيين في الندوة البرلمانية» في مطلع حزيران/يونيو ما يلي: «دعا غازي كنعان إلى اجتماعٍ في منزله في شتورة، حضره الياس الهراوي وحسين الحسيني (رئيس المجلس النيابي) وعمر كرامي، وشارك فيه عبد الحليم خدّام وحكمت الشهابي. اِستمرّ الاجتماع ثلاث ساعات وأفضى إلى الاتّفاق على لائحة أسماء النواب الـ40 الذين سيتّخذ مجلس الوزراء قرارًا بتعيينهم»، وما كان على الحكومة سوى البصم على قرار التعيين المتّخذ في شتورة.
بعد إسقاط حكومة عمر كرامي في أيار/مايو 1992 بثورة الدواليب، جيء بالرئيس رشيد الصلح على رأس حكومة «وفاق وطني» للإشراف على أول انتخابات بعد «الطائف» وضمّت كبار المرشّحين، وإمعانًا في انتهاك الدستور والتلاعب به، أقرّ مجلس النواب في 16 تموز/يوليو 1992 قانون رفع عدد النواب إلى 128. لقي القرار معارضةً من النائب ألبير مخيبر والرئيس كامل الأسعد والنائب نجاح واكيم وغيرهم ولم يتمكّن نواب الكتائب من إقناع زملائهم بالانسحاب لإفقاد الجلسة نصابها القانوني. شكّل التعديل السافر، قبيل الانتخابات، استفزازًا إضافيًا لبكركي وللمعارضة المتّجهة، بكلّ تلاوينها، إلى المقاطعة بعد إسقاط كلّ التحفّظات والحسابات والتباينات في ما بين أركانها.
على الرغم من كلّ الشوائب، ولاعدالة القانون التي ستُجرى الإنتخابات على أساسه، وروح المقاطعة التي بثّتها الأحزاب المسيحية في بيئتها، لم يخفِ الدكتور ألبير مخيبر ميله إلى خوض انتخابات العام 1992، ومثله جان حواط وآخرون، ولكلّ خيارٍ يتّخذه «الحكيم» أسباب وطنية موجبة.
بعد يومَين على الجلسة التي رُفِع فيها عدد النواب زار النائب ألبير مخيبر بكركي ليفاتح البطريرك الماروني مار نصرالله صفير بعزمه على ترشيح نفسه إلى الانتخابات النيابيةِ وأوضح أنه يتمنى أن يدخل المجلس مع ثلاثين أو أربعين نائبًا معارضًا فيتمكّنوا إذ ذاك من تبديل الوضع، مشيرًا إلى أنه دعا إلى اجتماعٍ يعقد في منزله في اليوم التاليِ وقال إنه ليس من رأي الزعماء المقاطعين ميشال عون وأمين الجميّل ودوري شمعون وأبلغ مخيبر صحافيي الصرح: «لن نقاطع الانتخابات فالشعب لا يستقيل»، وشدّد على استقلاليته عن المعارضة المقيمة في باريس، مبديًا حرصه فقط على رأي عميد حزب الكتلة الوطنية ريمون إدّه.
بين المشاركة وعدمها كان «مقلقز» يقول النائب السابق غسّان مخيبر، بخاصة أنها الانتخابات الأولى بعد التعيينات وكان يتحضّر لخوض المعركة.
واثقًا كان من شعبتيه، لكن ما أقنعه داخليًا بالمقاطعة موقف تمّام سلام المتماهي مع أغلبية القوى المسيحية، ومقاطعة الكتائب.
وعن تلك المرحلة، يقول رئيس مجلس حزب الكتلة الوطنية السابق الدكتور إميل سلهب، «لم يكن «الحكيم» موافقًا على المقاطعة، صار كلّما ذهبنا إليه يقول: قولوا للعميد من الخطأ أن يقاطع. أنا اتّصلت به وأبلغته بذلك». وماذا قال لك؟ سألناه، سكّر التلفون بوجّي، أجاب مخيبر ضاحكًا.
“يختلفان في ما بينهما. يقفلان الخطّ بوجه بعضهما البعض ويفشّ الدكتور ألبير خلقه فينا. وكان العميد يصرّ أن أذهب إلى بعضهم ناصحًا إياهم بالترشّح، وقد وجدت في اتّصالي مع مخيبر، ميله إلى الترشّح في دائرة المتن الشمالي، وهو يدرك الرأي العام المتني يوافقه أكثر من المرّ (ميشال). وكان يأخذ علينا أننا نتهرّب من واجباتنا، وأصرّ على خوض الانتخابات”، ويتابع إميل سلهب رواية ما علق في الذاكرة من تلك المرحلة: «من خلال اتّصالاتنا مع القوى السياسية، تبلّغنا أن الدكتور جورج سعادة سيقاطع الانتخابات، عدنا عند الدكتور مخيبر لثنيه عن ترشّحه المخالف لأكثرية الأحزاب والقوى المعارضة. وقال بالحرف الواحد: «روحوا بلّغوا عميدكم أنا بدّي إترشّح». قلنا له قبل أن نغادر دعنا نعطيك معلومة: الكتائب قرّرت المقاطعة. قال «مش معقول». قلنا له الدكتور جورج سعادة وعد أنه سيقاطع، فأجاب «يبدو أن السفارات دخلت على الخطّ». واستطرد «هذا يعني الأميركان مش سامحينلو يترشّح». ولكن وعلى أثر مقاطعة الكتائب انتقل مخيبر من موقف «ما بيسوا لازم نترشّح» إلى تأييد المقاطعة.
سعى العميد ريمون إدّه إلى تطويق «صديقه العنيد» الذي كان يُردّد على مسامع الجميع أنه مع الترشّح برغم كلّ الظروف، إلى أن اقتنع بخيار المقاطعة وقاد المعارضة كما يجب، إلى جانب سيّد بكركي الذي أبقى الصرح مفتوحًا للجميع، هذا مع الإشارة إلى أن البطريرك صفير، الحذر والملدوع من السياسيين، لم يجهر بموقفه من خيار المقاطعة إلّا متأخّرًا، لا بل أنه قال غامزًا من قناة العونيين: «مبارح طلعوا بهدلونا هل سأقول لهم الآن قاطعوا»؟([1])
كان سيّد الصرح، في كلّ اجتماعات النواب المسيحيين، كما في لقاءاته الجامعة مع قوى المعارضة، يُجلِس الدكتور مخيبر إلى يمينه، مستنيرًا بحكمته وآرائه وقد أطلق عليه لقب “بطريرك المعارضة المدني”
«كان البطريرك يستقبل الجميع ومع اقتراب موعد الإنتخابات المحدّد في 23 آب/أغسطس، تكثّف صعود الموالين لسوريا والموالين للانتخابات إلى بكركي وعلى رأسهم رشيد الخازن. يقول المحامي عازوري «وذات يوم، قبيل الإنتخابات، كنتُ وأمين عام حزب الوطنيين الأحرار الياس أبو عاصي وبعض من هم ضمن فريق البطريرك صفير فتوجّه إلي أحدهم: ماذا تفعل هنا؟ أرجوك إذهب، أنا أتواصل مع برّي ونريد أن نشكّل تكتّلًا. فقلت له للأسف نحن مقاطعون».
أبلغ عازوري صديقه ألبير مخيبر بما حصل فقال له على الفور «يجب أن نزور صفير». اتصل عازوري ببكركي لطلب موعد مع البطريرك. وفور وصولهما وقف ألبير مخيبر في أول الصالون وقال للبطريرك: سيّدنا نحن عتّالة البطرك! (بوحيٍ من التاريخ الفرنسي). وكان سيّد الصرح، في كلّ اجتماعات النواب المسيحيين، كما في لقاءاته الجامعة مع قوى المعارضة، يُجلِس الدكتور مخيبر إلى يمينه، مستنيرًا بحكمته وآرائه وقد أطلق عليه لقب “بطريرك المعارضة المدني”.
موقف ألبير مخيبر المتحوّل من مؤيّدٍ للمشاركة إلى مؤيّدِ للمقاطعة، كان أساسيًا في قيادة المعارضة التي ضمّت الأحزاب المسيحية، وتيّار العماد ميشال عون وشخصيات مستقلّة كالنائب بطرس حرب وتمّام سلام، وإن كان لـ«الحكيم» مأخذ على «العميد» أنه قرّر المقاطعة من دون استشارته لكن هذا الأمر لم يدفع بـ«نائب الشعب» الى السير عكس المزاج الشعبي لا بل أنه دعا إلى الإضراب المفتوح قبل عشرة أيام من الانتخابات، فقيل له إن الدولار انخفض فقال ممازحًا: حسنًا أنا مستمرّ بالدعوة إلى الإضراب حتى يصير الدولار بـ3 آلاف!
بعدما حسم مخيبر خياره النهائي، فكّر المحامي عازوري القيام بمسعًى لدى الرئيس كامل الأسعد للسير في المعارضة، لكن مخيبر لم يقتنع بجدوى المحاولة، فقال له عازوري: «علينا أن نجرّب»، وجرى اتّصالٌ مع العميد لوضعه في الصورة، بعد ذلك «زرنا كامل الأسعد. وقلنا له إننا حضرنا باِسم شمعون وإدّه ومخيبر ودعوناه لترؤس المعارضة ضد سوريا. قلت له: إنها سابقة تاريخية أن تكون كامل الأسعد الكبير، ولكن كان التزم مع أشخاص سينزلون في لائحته ولم يكن في مقدوره أن يطلع منهم. سبق السيف العذل”.
أثر اللقاء توجّه إلي الحكيم: ألم أقل لك إنه لن يفيدنا؟
أُجريت الانتخابات العامة بين 23 أب/أغسطس و11 تشرين الأول/أكتوبر 1992، وكانت نسبة المشاركة 30.3%، أما نسبة الاقتراع في المتن الشمالي، معقل مخيبر فبلغت 14.27 بالمائة، ودخل رياض أبو فاضل مع ميشال المرّ كأرثوذكسيٍ ثانٍ عن قضاء المتن، وكانت طريقهما سهلة لانعدام المنافسة الجدّية.
خرج مخيبر من الندوة البرلمانية بإرادته الحرّة بعد انتخابات اصطلِح على تسميتها “انتخابات سامي الخطيب» ووصفها مخيبر «بأنها مشوّهة ومزوّرة ومخجلة»، وشكّلت المقاطعة فيها استفتاءً على رفض الشعب الوصاية والاحتلالات،علمًا أن سفراء أجانب قالوا له: «إن الشعب لن يسير معك في المقاطعة»!([2])
هل أخطأ مخيبر؟ هو نفسه يجيب بـ«نعم» كبيرة، لأن المقاطعة من دون عصيان مدني تبقى بلا جدوى، وهذا الأمر رفضته بكركي. «قاطعنا من أجل لفت الانتباه إلى أن ولاء المجلس خارج لبنان وأهمّية مقاطعتنا أنها ليست مسيحية وليست إسلامية بل وطنية لبنانية جامعة وشاملة” وهو نفسه يردّد: «لم تكن المقاطعة فاعلة ولم تعطِ ثمارها المرجوة ومن الضروري أن يستمرّ الصراع ومن يتهرّب يكون حليف السلطة. كانت المقاطعة هروبًا إلى الأمام وجبنًا».([3])
حاول ألبير مخيبر التأقلم مع الخروج من الحياة البرلمانية وكانت ردّة فعله تشكيل «التجمّع للجمهورية» الذي ضمّ مجموعة نواب سابقين منهم شفيق بدر ومحمود عمّار وعثمان الدنا وغيرهم. مجموعة من طوائف عدّة معترضة على التدخّل السوري في لبنان. «كان يكتب البيان الدوري بنفسه وإن شعر أن فيه ما يحرجهم يُصدر البيان كموقف خاص به قبل أيام من اجتماع التجمّع».([4])
المصادروالمراجع:
[1]– لقاءٌ مع المحامي كلود عازوري.
[2]– من لقاءٍ مع سليم مخيبر.
[3]– المصدر نفسه.
[4]– من لقاءٍ مع غسّان مخيبر.