غريبات في مجتمع اللجوء.. “عامل” تداوي

يُوفر المركز الصحي لمؤسسة "عامل" في عين الرمانة في ضاحية بيروت الجنوبية الشرقية فرصة للكثير من اللاجئات السوريات من أجل تحصين أنفسهن في مواجهة صعوبات عدة تعترض حياتهن في مجتمع اللجوء.

لا يوجد كرسي لأجلس عليه. وقفت جانباً أتابع نهاية الجلسة حول الثقة بالنفس وأحاول فهم الرسومات والرموز الموجودة على لوح الصف. كلمات مفتاحية (حقوق الانسان،  العنف، الزواج المبكر، عمالة الاطفال، والتواصل الفعال)، ومنها اشتقاقات وتفرعات كثيرة. السيدات صامتات تماماً. يصغين بانتباه وحذر، ولم تنقض بضع دقائق حتى اعلنت المدربة منار قاسم انتهاء الوقت، وارتفعت الأصوات والضحكات، واجتمعت النساء حولي متسائلات “هل أنت أخصائية نفسية جديدة”؟. تبسّمت وقلت لهن: لا، أريد أن أجري حديثاً معكنّ فقط، كلام عن جدوى هذه الدورة ولماذا تأتين يومياً إلى هذه الدروس؟.

جلست في الوسط بعد ان غادرت المدّربة المكان. الكلمات تنهمر عليّ من كل الجهات، طلبت تنظيم الحديث، وهذا ما كان. لم أطلب منهن الكشف عن هويتهن الحقيقية احتراماً لخصوصيتهن في حال البوح بمعلومات خاصة، لكنّ حالة الافصاح عن أسمائهن كانت أشدّ من رغبتي بحفظ خصوصيتهن، فقد وجدت نوعاً من الإعلان عن كيانهن كنساء لاجئات، كاعتراف بهوية ضاعت بين أعداد اللاجئات واللاجئين. كنّ  يقلّن لي أنا أنيسة  الجاسمي من ريف حماه وأنا منتهى الاسماعيلي وأنا ريم محمد وأنا أحلام حوران..

أعمارهن بين العشرين والستين، وتجاربهن متفاوتة أيضاً، ولكل واحدة منهن خبرات وعبرات. منهن من تخفي ضعفها خلف ابتسامة خجولة ومنهن من تضحك بصوت عال لتُسكت صوتها الداخلي المرتجف. منهن من تخفي وجهها خلف نقاب ومنهن من تضع مساحيق التجميل بألوان زاهية، وبرغم كل الاختلافات تتشابه حالاتهن بأنهن غريبات في مجتمع اللجوء.

تعرّف ريم محمد عن نفسها بأنها “بنت ضيعة”، تقول: “العادات والتقاليد مختلفة جداً عن بيروت، لا يمكن المقارنة، في البداية لم استطع التعامل مع الوضع الجديد، وكنت تحت ضغوط كبيرة وأعاني من توتر داخلي وهذا دائما ما كان ينعكس على أولادي خصوصا ابني الذي يعاني من مشكلة في عينيه، وبين رفضي لمشكلته ولواقعي الجديد، كنت بحاجة لدعم واهتمام، وهذا صعب بسبب غياب التآزر الأسري، فعائلاتنا مشتتة  في أصقاع الأرض، وفي لبنان ما عندي جليس أو انيس، وبالصدفة كنت أزور المركز الصحي لمؤسسة “عامل” في عين الرمانة وعرفت من خلال لوح الحائط أنهم يقيمون دورات لغات وحرف ورياضة ودعم نفسي. أدركت أن ما أحتاجه فعلا موجود في المركز. تسجلت في الدورة وبدأت أشارك بالدروس بشكل منتظم وحالياً أتعلم اللغة الفرنسية أيضا”، تضيف بصوتها الواثق “قد لا تصدِّقي أن الدعم المعرفي والاجتماعي الذي وجدته هنا قد غيّر مجرى حياتي، أنا الآن أعرف نفسي، أعرف كيف اتعامل مع زوجي وأطفالي، أعرف حقوقي ومسؤولياتي. أطوّر مهاراتي بعد أن خرجت من فقاعة اللجوء التي سجنت نفسي فيها”.

تأتي احلام حوران مع ابنتيها إلى مؤسسة “عامل” لتتشاركن سوية صف التواصل الفعّال وتفترقن بعد ذلك كلّ واحدة لاهتماماتها. الصغرى منهن لا تعرف القراءة والكتابة ولم تدخل مدرسة. هي الآن تتعلم أساسيات اللغة والثانية تتعلّم اسس الخياطة وتشارك بفن التطريز وفي المنزل تتعاون وأمها على إنجاز بعض الاثواب لتقديمها إلى المركز حيث تعرض للبيع وتحصلان على ثمنها بعد البيع. تقول احلام “بالبداية أتيت لوحدي، انا كبيرة في السن ولكن كنت أريد مساعدة أولادي، أبحث عن فرصة عمل، عن حرفة أستطيع تعلّمها ولكن مؤخراً بدأت آتي مع ابنتي الاثنتين، لولا وجود هذه المؤسسات في لبنان لكان وضعنا أصعب، أتينا بعد صدمة الحرب التي لم نشف منها ولكن مشاركتنا همومنا مع لاجئات أخريات وهذا اللقاء اليومي في مؤسسة “عامل” هو المحرك الأساس لتفاعلنا مع المحيط. في السابق، كان يأتي زوجي إلى البيت غاضبا بسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة، نتشاجر وتزداد الأمور توتراً داخل الأسرة، اليوم أستطيع أن أخفّف عنه، ما أتعلّمه في المركز ساعدني على فهم الأمور بإيجابية وكيفية التأقلم مع الصعوبات وتجاوزها”.

تؤكد المدربة منار أنّ السيدات تتعلمن المعارف الاساسية التي ينبغي على كل امرأة معرفتها، “لكن الظروف الصعبة التي مررن بها لم تسمح لهن بإدراك اسس التواصل مع المحيط والبيئة، خصوصا الأسرة، وكيفية اختيار الوقت المناسب والأسلوب المناسب للنقاشات المعقدة خصوصاً ان كثيرات ممن أنجزن سلسلة التعلّم الأساسية كاللغات والكمبيوتر والحرف وادارة المشاريع الصغيرة، بدأن بفتح أعمالهن الخاصة، كالتسويق الالكتروني، او محل للخياطة، او الاشغال اليدوية، او الانخراط في مؤسسات ومجموعات مهنية تؤمن لهن فرص عمل”.

“كثر الدقّ بيفك اللحام” تقول أنيسة  الجاسمي: “الدرس هو تفريغ نفسي وليس توجيهاً معرفياً فقط، أحياناً أشعر بأنّ كيلي قد طفح، لا قدرة على التحمل أكثر ولكن عندما أدخل إلى الصف أشعر أني بين أهلي، وصديقاتي يخفّفن عني، ونتشارك آهاتنا، هذه الدروس لم تكن متاحة في سوريا ولكنها حاجة لنا، حاجة ماسّة بعد كل الظروف التي مررنا ونمرّ بها”، تسرد وقائع يومياتها بشكل مفصّل “لا أستطيع تلبية طلبات أولادي الستة، وزوجي يعمل كل اليوم، وفي المساء لا طاقة له على ضبط الأمور، أصبحت الأم والأب. التربية أصبحت أصعب بعد الأزمة الاقتصادية التي غيّرت نمط الحياة في لبنان. في السابق كنت أرفض بعض طلبات أطفالي ويتملكني شعور دائم بالذنب، لكن بفضل النصائح التي تعلمتها أستطيع أن  أفسّر لأطفالي ما يحصل وأزيد من وعيهم حول الواقع وأشرح لهم أن رفضي بسبب عدم قدرتي وليس بسبب عدم محبتي لهم، تعلّمت كيف يمكنني أن أجمّل واقعا مريراً ببعض الكلمات”.

إقرأ على موقع 180  نصيبي من النكبة.. حكايتي مع فلسطين

تختلف أنيسة عن غيرها من السيدات تقول: “اذا لم أستطع المجيء مشيا على الأقدام زوجي يوصلني على الدراجة النارية. هو حريص على مشاركتي الدروس، كنت اعاني من اكتئاب شديد ولا قدرة لنا على العلاج وشراء الادوية، اندماجي مع الأخريات حيث وجدت معنى لنفسي ولحياتي خفّف عني كثيرا، حتى زوجي يشعر بالفرق، قبل وبعد الدروس، انا الآن مختلفة كثيراً، أصبحتُ  اكثر نشاطاً. أولادي يذهبون إلى المدرسة وأنا أتابع دروسهم في البيت. أعرف أن فرصي في اكمال دراستي في الجامعة صعبة ولكني أنقل معرفتي إلى أولادي وأحقق حلمي من خلالهم”.

تشارك رسمية للمرة الأولى في الدرس. تقول “أتيت لأني فقدت صبري، أشعر أني في السبعين من عمري، أنا لم اتجاوز الأربعين، بيتي أصبح مضافةً. لا اشعر بخصوصيتي، الحياة في بلد آخر صعبة، علينا واجب أخلاقي أمام كل الهاربين من الحرب، وبنفس الوقت نفذت قدرتي على العطاء، اعيش صراعا يومياً، ما هو الحل؟ وماذا استطيع أن أفعل؟ لجأت إلى مؤسسة “عامل”، علّني أجد من تجارب الأخريات بعض الأمل، أغادر بيتي ـ  تضحك بحسرة (فندقي) ـ بيتي الذي اصبح محط رحال لكل القادمين، أغادره الى المركز في عين الرمانة فقط. الصف هو السكن والمُسكّن، قد أستطيع أن استعيد طاقتي وأعود من جديد لنشاطي”.

سعاد انفصلت عن زوجها خلال الحرب، تسكن مع عائلتها في مخيم برج البراجنة في لبنان، تأتي لتشارك في جلسات التوجيه الاجتماعي لأنها لم تكن تستطيع ان تتقبل وصمة العار الاجتماعية في محيطها بأنها مطلقة، اليوم هي مثال لصديقاتها، مثال عن الشجاعة والاستقلالية، تقول: “تناوب صديقتي عني في محل التلفونات الذي أعمل فيه حتى أستطيع حضور الدروس، بالنسبة لي كانت مؤسسة “عامل” المدرسة المفيدة التي علمتني دروس الحياة وكيف أستطيع تجاوز صعوباتها، وبدأت أميّز الجلاّد من الضحية، كنت ضحية ولكني اليوم ناجية أستطيع ان افهم ما حصل معي وكيف افسّر لمجتمعي أن كل إمراة يمكن أن تكون أنا، بدأت أجد قبولا في أسرتي أولاً وفي مجتمعي ثانياً، سنة كاملة سمحت لي أن احمي نفسي من محاولات الخداع ومن التعلّق بالأوهام، وماذا تعني تجارة البشر، في الماضي كنت أريد البحث عن أي فرصة للهروب، بالبحر بالبر، بأي طريقة شرعية أو غير شرعية، اليوم انا أتقبل واقعي وأعرف امكانياتي وأوازن بين طموحي وقدرتي على تلبيته حتى لا أكون ضحية جديدة للخداع”.

وتقول المدربة منار: “عدد كبير من اللاجئات هن ضحية للمعلومات المضللة، يومياً تصلهن عروضات للسفر بطرق غير شرعية ولأن المرأة هي المؤثر الأول في مجتمعها فهن استطعن اقناع الأزواج بمخاطر هذه العروض، بالاضافة إلى تعرفّهن إلى كيفية البحث على الانترنت والتطبيقات التي تساعدهن على التعلّم المستمر، حتى خارج جدران مراكز “عامل”، لذلك هذه الجلسات هي حلقة متكاملة بطرق مبسطة، تبدأ بالمرأة ولكن تأثيرها يطال الأسرة والمجتمع بأكمله”.

لائحة طويلة من أسماء السيدات اللواتي تردن المشاركة في هذه الصفوف، الأزمة الراهنة في لبنان زادت على اللائحة أسماء كثيرات يحتجن الانتظار لاكثر من شهر او شهرين للانضمام إلى البرامج الموجودة. المستفيدات عددهن كبير ولكن تبقى الحاجة أكبر بكثير، على أمل تعميم تجربة “عامل” الإنسانية لتخفيف وطأة اللجوء ووطأة الأزمة الراهنة على كاهل شعب شهد ما يكفي من المآسي.

Print Friendly, PDF & Email
مايا ياغي

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  هل أخطأ السنوار.. ونصرالله؟