

عُرفت منطقة الجليل الأعلى بكونها جزءًا من الامتداد الفينيقي لمملكة صور، ولم تكن يومًا ضمن الكيان العبري إلا بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1948. غير أن هذه الحقيقة الجيو-تاريخية لم تمنع إسرائيل من إعادة إنتاج خطاب يربط الجليل الأعلى بمشروعها التوسعي الذي يستند إلى رواية دينية مُحرّفة، تصوغ علاقة المشروع بالمنطقة من خلال منظور الهيمنة وإعادة قراءة التاريخ لمصلحة المشروع الصهيوني.
الجذور التاريخية
منذ العصور القديمة، كانت صور قوة بحرية وتجارية بارزة، امتد نفوذها إلى مناطق متعددة في المشرق، بما في ذلك الجليل الأعلى. وقد اعتمدت صور على هذه المنطقة لتأمين المنتجات الزراعية التي كان لها دور مركزي في الأنشطة الاقتصادية، مثل زراعة العنب لإنتاج الخمر، وهو عنصر مهم في الطقوس الدينية والأنشطة التجارية. وتُظهر نصوص المزامير في العهد القديم إشارات واضحة إلى هذه العلاقة، مما يعكس عمق الصلة الحضارية بين صور والجليل.
عندما ظهرت الممالك العبرية، لم يكن لها وجود واضح في هذه المناطق، حيث بقيت تحت النفوذ الفينيقي حتى التحولات الكبرى التي فرضتها السياسات الاستعمارية الحديثة. وبذلك، فإن ضم كرمئيل والجليل إلى السيطرة الإسرائيلية لم يكن استعادةً لكيان تاريخي، بل كان عملية استيلاء على إرث حضاري لم يكن يومًا جزءًا من مملكة إسرائيل أو مملكة يهوذا.
المطالبة بضم كرمئيل إلى لبنان الكبير

خلال المفاوضات التي سبقت إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920، كان بطريرك انطاكية وسائر المشرق إلياس الحويك من أشد المدافعين عن توسيع حدود الدولة اللبنانية لتشمل المناطق التي كانت ترتبط تاريخيًا وجغرافيًا بلبنان، ومن بينها كرمئيل والجليل الأعلى. استندت مطالبته إلى مبررات حضارية واقتصادية، حيث كانت مناطق الجليل جزءًا من الامتداد الطبيعي للبنان، وكان لها دور حيوي في النشاط الزراعي والتجاري، وبخاصة ما يتعلق بزراعة العنب الذي كانت صور تعتمد عليه لإنتاج الخمر.
رأى بطريرك الموارنة الياس الحويك أن هذه المناطق تمثل الامتداد التاريخي للبنان، حيث احتضنت العديد من التقاليد الثقافية والدينية المشتركة، كما أنها كانت موطنًا لعدد من تلامذة المسيح الـ 72، مما يُعزّز ارتباطها بالإرث المسيحي والروحي للمنطقة. لكن القوى الاستعمارية آنذاك لم تستجب لهذه المطالب، وتم ترسيم الحدود اللبنانية-الفلسطينية بطريقة قطعت هذا الارتباط التاريخي، مما جعل كرمئيل والجليل الأعلى تحت السيطرة البريطانية ومن ثم الإسرائيلية.
في الحرب الأخيرة، برز اسم كرمئيل بقوة من خلال تركيز المقاومة اللبنانية ضرباتها الصاروخية وطائراتها المسيرة على قواعد عسكرية استراتيجية في المدينة.. يعكس هذا الاستهداف أهمية كرمئيل في المشهد العسكري الراهن، حيث باتت المدينة نقطة اشتباك رئيسية في أي مواجهة مقبلة بين المقاومين وإسرائيل
الصراع التاريخي
يُعتبر التوتر بين صور والكيانات العبرية جزءًا من صراع أعمق يتعلق بالهوية والسيادة الدينية. فعندما أسّس الفينيقيون مدينة أورشليم، كانت الغاية أن تكون مركزًا إداريًا وتجاريًا يتحكم بالممرات الصحراوية، وكان اسمها الأصلي “أورشائيل”، أي مدينة إيل، إله السلام. غير أن الملك سليمان، بعد تحالف أولي مع ملك صور حيرام الأول، أعاد تشكيل المدينة كمركز ديني يهودي عبر بناء الهيكل (هيكل سليمان)، مما جعلها نقطة محورية للصراعات الدينية والسياسية اللاحقة. وقد طالب ملوك صور بعد وفاة سليمان باستعادة الهيكل، معتبرين أنه بُني على إرث فينيقي، إلا أن الهيمنة العبرية كانت قد ترسخت، مما أدى إلى انقطاع النفوذ الفينيقي عن المدينة.
هذه الديناميات التاريخية ما تزال حاضرة في الذهنية الإسرائيلية المعاصرة، حيث يتم تأويل الصراع الراهن مع لبنان ضمن هذا الإطار الممتد، ليصبح جزءًا من سردية إسرائيلية تسعى إلى تقديم نفسها كاستكمال تاريخي لمشروع الهيمنة العبرية القديمة.
كرمئيل في المخطط الصهيوني
منذ تأسيس إسرائيل في العام 1948، اعتمدت سياساتها التوسعية على إعادة إنتاج الروايات التوراتية لتبرير الاستيطان وفرض السيطرة الجيوسياسية. وقد استخدم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هذه السردية خلال الحرب الأخيرة، مُروِّجًا لفكرة أنه يحقق ما لم يتمكن شاؤول، أول ملوك إسرائيل، من تحقيقه في توحيد القبائل العبرية تحت كيان قومي. ويرتبط هذا الخطاب بفكرة مركزية في العقيدة الصهيونية، وهي أن اليهود لم يكونوا في تاريخهم القديم شعبًا واحدًا، بل مجموعات قبلية متفرقة لم تتوحد إلا عبر القوة والحروب، وهي ذات الرؤية التي تدفع إسرائيل إلى انتهاج سياسة التوسع والعدوان المستمر.
وماذا عن جبل حرمون؟

تُمثل السيطرة على جبل حرمون أحد الأهداف الأساسية في المخطط الإسرائيلي، نظرًا لرمزيته الدينية العميقة. ففي النصوص التوراتية، حُرم على النبي موسى وأتباعه دخول هذا الجبل، مما جعله في العقيدة اليهودية موقعًا ممنوعًا ومثيرًا للرهبة. ومن هنا، فإن السعي الإسرائيلي لفرض السيطرة عليه ليس مجرد تحرك عسكري، بل هو استكمال لمشروع ديني يعيد إنتاج الحدود الروحية للدولة العبرية وفق منظور توراتي بالشكل انما تلمودي بالمضمون.
وبما أن جبل حرمون يحتل موقعًا استراتيجيًا يتيح الإشراف على أجزاء واسعة من لبنان وسوريا، فإن السيطرة عليه تُمكّن إسرائيل من تعزيز وجودها الأمني والعسكري، في إطار رؤية بعيدة المدى تهدف إلى تأمين الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة، ليس فقط من خلال القوة العسكرية، بل عبر إعادة كتابة التاريخ وفق أسس أيديولوجية تحريفية.
كرمئيل في الحرب الأخيرة
في الحرب الأخيرة، برز اسم كرمئيل بقوة من خلال تركيز المقاومة اللبنانية ضرباتها الصاروخية وطائراتها المسيرة على قواعد عسكرية استراتيجية في المدينة. وقد شكلت هذه الضربات تحديًا مباشرًا للاستراتيجية الإسرائيلية في الشمال، حيث استهدفت مواقع ذات أهمية عسكرية حاسمة، ما أدى إلى تصعيد في التكتيكات الإسرائيلية ومحاولات لاحتواء الضربات عبر أنظمة الدفاع الجوي. يعكس هذا الاستهداف أهمية كرمئيل في المشهد العسكري الراهن، حيث باتت المدينة نقطة اشتباك رئيسية في أي مواجهة مقبلة بين المقاومين وإسرائيل.
الصراع بين الجغرافيا والتاريخ
إن ما يجري اليوم في كرمئيل والجليل الأعلى، ومن خلاله في كامل الجغرافيا الممتدة بين فلسطين ولبنان، ليس مجرد صراع على الأرض، بل هو صراع على الرواية التاريخية والهويات الحضارية. فإسرائيل، التي تسعى إلى فرض سردية توراتية على الواقع الجيوسياسي، تستند في سياساتها إلى استدعاء صراعات قديمة لتبرير سياسات توسعية تتناقض مع الحقائق التاريخية. وما لم يكن جزءًا من الكيانات العبرية القديمة لا يمكن أن يكون جزءًا من المشروع الصهيوني إلا عبر فرض الهيمنة بالقوة.
وبذلك، فإن وقف الحرب في لحظة معينة لا يعني انتهاء الصراع، بل هو جزء من استراتيجية طويلة الأمد تسعى إلى إعادة تشكيل المنطقة وفق رؤى دينية وسياسية متشددة. ومع استمرار هذه الديناميات، يصبح من الضروري تفكيك الخطاب الإسرائيلي عبر استعادة الروايات التاريخية الأصلية، وتسليط الضوء على التزوير المنهجي الذي تمارسه إسرائيل لإعادة تشكيل التاريخ بما يخدم أهدافها الجيوسياسية والاستعمارية.