أيّها الحُكّام.. بأيّ صلصة ستأكلوننا؟

"اختيار صوفي"، فيلم درامي أُنتِج سنة 1982. مُقتبَس عن رواية، حملت العنوان نفسه، للكاتب الأميركي وليام ستايرون. تدور أحداث القصّة، حول امرأة بولنديّة كُتِبَت لها النجاة من معسكرات الاعتقال النازيّة خلال الحرب العالميّة الثانية. وكان ثمن نجاتها، اختيار الموت لأحد ولديْها كما طلب منها الجندي النازي!

صارت صوفي (الممثّلة ميريل ستريب) تبكي وتصرخ بجنون. وتتوسّل العسكري الألماني لكي يأخذها “هي” بدلاً عن ولديْها. عبثاً حاولت إقناعه. وعبثاً حاول انتزاع قرارٍ منها. وفجأة، اختطف يد الطفلة المتشبِّثة بأمّها. ومضى مغادراً وإيّاها بسرعة. لم تتحرّك صوفي أو تمنعه من أخذ طفلتها. لتعيش بقيّة عمرها في إحدى شقق نيويورك، مع شعورٍ بالذنب ينهش روحها. كيف لا، واستسلامها حيال ما قام به العسكري النازي لا يمكن أن يُفهَم إلاّ اختيار الحياة لابنها؟ فعدم الاختيار هو اختيار، أليس كذلك؟ بلى.

بعد ظهور الفيلم، صار يُطلَق تعبير “اختيار صوفي” على كلّ الاختيارات الصعبة. ولا سيّما المصيريّة منها. والاختيار، هو عمليّة إدراكيّة بحتة. يعاني الأفراد فيها من صعوبة تكوين رأي حيال مسألةٍ ما. ومن حيرة في اتخاذ قرارٍ، عندما يكون أمامهم أكثر من خيار. فالزيادة المفرطة في فرص الاختيار تُخرِج المرء، أحياناً، عن صوابه. تُجمّد عقله. وتمنعه من التفكير. هذا ما يؤكّده، يا أصدقاء، علم النفس الاجتماعي. وتحكم عدّةُ عوامل عمليّة الاختيار. لتجعل منه مشقّة يوميّة. وهاجساً يؤرق الإنسان الذي يميل، عادةً، إلى اختيار ما دأب عليه. ويميل، تلقائيّاً، إلى اختيار أسهل ما هو متاح له.

لكنّ الأكيد، بحسب العلم دائماً، أنّ القدرة على الاختيار تُسبّب السعادة. وانعدام هذه القدرة يُسبّب التعاسة. للسعادة شكلٌ واحد. أمّا التعاسة فتأتينا بكافّة الأشكال والأحجام. وعندما تنتفي إمكانيّة الكائن البشري من الاختيار، فإنّ ذلك يودي بحياته إلى الهلاك. وضع المصطلحَ التخصّصي لوصف تلك الحالة، عالمُ النفس الأميركي باري شوارتز. لقد سمّاه “مفارقة الاختيار”. ولو إنّ شوارتز عرّج على بلادنا، لكان على الأرجح عدّل هذه التسمية لتصبح: “لبنان بلد مفارقة الاختيار”.

إنّ أسوأ أسلوبٍ لسلب الإنسان حرّيّته لا يكمن في زجّه في السجن. بل في سلبه القدرة على الاختيار. فبعد أن سلبتنا عصابات السلطة اللبنانيّة كلّ شيء. حتّى موتنا. عادت وسلبتنا نعمة الاختيار. والاختيار يساوي الحرّيّة. إذْ لا وجود لإنسانٍ فاضل وآخر غير فاضل، قبل أن يملك حقّ الاختيار. أي، قبل أن يكون حرّاً. فلا يتمايز كبير القوم عن صغيرهم إلاّ بقرار. فحتّى الحماقة لا تلازم المرء إلاّ بإصرارٍ منه. وعبوديّتنا، لهذه الطبقة السياسيّة المتحكّمة، تعود في جزءٍ كبيرٍ منها إلى كوننا قد تحوّلنا إلى أناسٍ فاقدي القدرة على اتخاذ قرار. وعلى اختيار ما نراه، نحن، مناسباً لحياتنا. وما نحبّ، نحن، أن نقوم به. وما نطمح، نحن، أن يكون عليه مصيرنا.

لنعترفْ بجرأة، بأنّ استراتيجيّتهم قد نجحت تماماً. وأنّ النظام وحلفاءه، تمكّنوا من تحويل لبنان من بلدٍ كان يمكن لأبنائه (الذين حلموا بالتغيير) أن يجعلوا منه بلداً عصريّاً. إلى بلدٍ منهار ومحتلّ يقطنه مجتمعٌ مفكّك. وشعبٌ تمرّس على استحسان الرداءة. وهذا الاستحسان، هو إحدى استراتيجيّات التحكّم بالشعوب. أي أن يجد شعبٌ ما، أنّه “من الرائع أن يكون غبيّاً وهمجيّاً وجاهلاً”، بحسب ما يستنتج نعوم تشومسكي

لقد فرض حُكّام آخر زمن على شعب هذا البلد أن يعيش حياة “الأمر الواقع”. وأن يساكن “سلطة الأمر الواقع”. وفرضوا علينا، نحن اللبنانيّين، أن نسلك طريقاً واحداً وحيداً. لا ثاني له. فكلّما تقدّمنا خطوة إلى الأمام، يتفتّت الموقع الذي تطأه أقدامنا. بل، وأحياناً، يبدأ الطريق بالانهيار تحت أقدامنا. فيصبح علينا أن نستعجل، لئلاّ يهوي معنا. وأكثر. أجبروا الناس، وبتكتيكٍ جهنّميٍّ مضلِّل، على أن يرضوا بالواقع الذي “هُندِس” لهم. وأن يُقرّوا بخسارتهم المدوّية أمام حُكّام الأمر الواقع. أي، بخسارة قدرتهم على حريّة الاختيار. وهذه الأخيرة هي أمّ الخسائر! فأن يشعر المرء بأنّ الواقع أقوى منه. وبأنّه لا مفرّ له سوى الرضوخ لهذا الواقع وتقبّله. وأنّه لا بدّ من التعامل مع سلطة الأمر الواقع. فهذا لَعَمْري خسارة لا وصف كافياً لفداحتها. كأنّها فخّ نصبه لنا الجحيم.

ولسلطة الأمر الواقع قصّة، عمرها من عمر الحروب والأزمات والانقلابات والاحتلالات. سلطة، تجعل اهتمامات البشر بدائيّة. تحصرها بالمأكل والمشرب، كحدٍّ أقصى. وتجعل “نضال الجماهير” مقتصراً على المقاومة للبقاء على قيد الحياة. وفي كلّ مرّة يفرض الأمر الواقع نفسه على الحدث، تنتفي القدرة على الاختيار. وتصبح الخيارات مُكبّلة بين الأسوأ والأسوأ. ومن دون أن يكون هناك مجال للانتقاء حتّى، بين السيّئ والأسوأ.

مؤخّراً، روّجت الطبقة السياسيّة المتحكّمة بلبنان لمفهوم جديد: “تشريع الأمر الواقع”. أمر واقع من شأنه أن يحوّل كلّ سلوكٍ سياسي، من عمليّة استشرافٍ للصالح العامّ. إلى عمليّة بصْمٍ لقياداتٍ اعتادت أن تسطو على كلّ ما هو عامّ. وأن تحتكره وتسخّره لمصالحها الذاتيّة الضيّقة. ينادي حُكّامنا، بصوتٍ أعلى من مستوى تفكيرهم، لكي يتقبّل الناس واقعهم المعيش. بخيره وشرّه. وطالما أنّ كلّ خير قد هجرنا منذ عقود. فلم يتبقَّ لنا إلاّ قبول الشرّ ومشتقّاته، قبل فوات الأوان. والأوان، للإشارة، فات منذ وقتٍ طويل.

إقرأ على موقع 180  الثقافة ملاذنا كي لا تُميتنا السياسة.. "صالون 15" نموذجاً

لم ينطلق نهج الحُكم هذا، من فراغ. بل هو صدى وترجمة لاستراتيجيّةٍ ثابتة وضعتها الطغمة الحاكمة، منذ سنوات. قبل بدء الانهيارات التي أطاحت بعوالمنا. إنّها استراتيجيّة عداءٍ منهجي تجاه الناس. مستمرّة في الزمان والمكان. وترتكز إلى سياسة فرض الوقائع. ورسْم المسارات التي تلي، انطلاقاً من هذا الواقع المفروض باعتباره من الثوابت. ومن الحتميّات. لنعترفْ بجرأة، بأنّ استراتيجيّتهم قد نجحت تماماً. وأنّ النظام وحلفاءه، تمكّنوا من تحويل لبنان من بلدٍ كان يمكن لأبنائه (الذين حلموا بالتغيير) أن يجعلوا منه بلداً عصريّاً. إلى بلدٍ منهار ومحتلّ يقطنه مجتمعٌ مفكّك. وشعبٌ تمرّس على استحسان الرداءة. وهذا الاستحسان، هو إحدى استراتيجيّات التحكّم بالشعوب. أي أن يجد شعبٌ ما، أنّه “من الرائع أن يكون غبيّاً وهمجيّاً وجاهلاً”، بحسب ما يستنتج نعوم تشومسكي أحدُ الفلاسفة المؤسّسين للعلوم المعرفيّة. وبعد؟

يكمن سبب شقائنا الأساسي في لبنان، في أنّنا سقطنا داخل هوّة عميقة ولم يسمِّ علينا أحد! هوّة تفصل بين ما هو كائن، وبين ما كنّا نتمنّى أن يكون. هوّة تفصل بين التوقّعات، وبين “الأمر الواقع” الذي نعيشه. وتمتدّ هذه الهوّة من أكثر الأمور تعقيداً، إلى أبسطها. لكنّها تُشعِرنا بالخطر الماحق. وبأنّنا ننتمي، بحكم الولادة، إلى حضارةٍ مهزومة. وبما أنّنا كائنات مكروبة، تصير تصيبنا تلك الهوّة بالضيق والوجع واليأس. وبشعورٍ دفين بأنّنا لا نقدر على فعل أيّ شيء. أو على تغيير أيّ شيء. أو على رتق تلك الهوّة. والأنكى، أنّنا عاجزون عن معاقبة مَن تسبّب بحفر هوّتنا. أعني، العصابة “إيّاها”. تلك التي لا تستطيع أن تبرّر، حتّى، إخفاقاتها المتكرّرة. وفشلها الذريع في إدارة الدولة.

اعتاد اللبنانيّون على عدم توقّع أيّ شيء من دولتهم. لذا، انصرفوا إلى ترتيب كلّ شؤون حياتهم بشكلٍ اعتقدوا أنّه مستقلّ عن الدولة. في التعليم كما في الصحّة والتنقّل وتأمين الماء والكهرباء وسائر الخدمات. سمة “تدبّر الحال”، التي اشتهر بها أبناء هذا البلد البائس، “ساعدتهم” على تقبّل هذا الواقع. تقبّلوه كالقضاء والقدر، تماماً. “تتمسحت” أحاسيس اللبنانيّين. فتغاضوا عن كلّ الاعوجاجات والنواقص والجرائم المرتكَبة بحقّهم. وتأقلموا، لو تعلمون، مع كلّ أنواع القمع والإذلال. وتمادوا في الاستهتار بعبوديّتهم.

كلمة أخيرة. هناك تعبير بالفرنسيّة يُقال، عندما يستشعر الإنسان بأنّ شيئاً سيّئاً يُدبَّر له: “بأيّ صلصةٍ سنُؤكَل يا ترى؟”. هذا لسان حال اللبنانيّين، في هذه الأيّام القاتمة. إقتضت الشفقة عليهم.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  أميركا اللاتينية تكتسي بالوردي، متى ينتهي عمى الألوان عندنا؟