يثير هذا العرض لإنتخابات تجري للمرة الثانية على ضوء قانون جديد في دائرة طرفية متنوعة الوجود الطائفي وهجينة النمط الإنتاجي وفي ظرف إستثنائي في كارثيته للبلد وللدولة وللناس خمسة أسئلة إشكالية، لماذا واصل الناخبون الإقتراع للقوى المشاركة في السلطة إبان تفاقم الإنهيار الإقتصادي ـ الإجتماعي ـ المالي وانحلال الدولة، ولم يواجهوها؟ ولماذا كان التعبير عن التذمر من الإنهيار والانحلال محدوداً؟ وهل يشكل الإقتراع الخارق للطوائف تجاوزاً لها؟ والى أي مدى تتحقق صحة التمثيل في قانون الإنتخابات، بعد العمل به لدورتين؟ وهل يمكن التغيير في لبنان؟
يصلح كل سؤال أنْ يكون موضوع دراسة مستقلة أو ورشة عمل، الأمر الذي يعني أنّ تعمد طرحه لا يعني الإحاطة الواسعة به وإنما الإطلالة التي فرضتها نتائج الإنتخابات، وتتطلب الإحاطة إقدام هيئات بحثية أو ثقافية، بقاعية أو وطنية، على ذلك، وقد تستحق بعض الأسئلة أنْ يُقدِم المرشحون، لوائح أو أفراداً، على تخصيص دراسات تتيح لهم بناء خطط مستقبلية على اسس علمية.
- في مجال الإجابة عن السؤال الأول، إعادة إنتخاب المتهمين بالإنهيار، يقدر عدة عوامل هي:
- إنحلال الدولة من حيث استشراء الطائفية وتجميد العمل القانوني للمؤسسات والإدارات، بقدر ما هو سبب لتفاقم الإنهيار وتراجع خدمات الدولة وسيادتها هو سبب لإعادة إقتراع الناخبين للفاعلين في السلطة، ولو عن غير قناعة، فبعضهم خُدم، سابقاً، توظيفا وواسطة ووو…، وبعضهم الآخر ينتظر، وليس أدل على ذلك من القول المكرر “وظّف فلان إبني” أو “لم يخدمني في الحصول على فيزا” أو “زفت لي الطريق”. ويمثل هؤلاء فئة وازنة بين موظفي الإدارات الرسمية وبين المقيمين في القرى لا بل كل موظفيها، دون إنكار كفاءة كثيرين منهم دفعهم تجاوز القانون الى اللجوء الى الواسطة وخروج بعضهم عن موجبات الوفاء للزعيم، ويقدر عددهم بـ 7398 عاملا، ويقدر عدد البالغين في العائلة الصغرى بين 2 و3 فتكون الكتلة الناخية لهؤلاء 18495 صوتاً، وتساوي 27% من المقترعين.
- ضعف ثقافة القانون، وهذا مرتبط بما سبق وتم الشغل عليه، عفواً أو عمداً، منذ اتفاق الطائف الذي لزّم البلد للزعماء؛ وهذا الضعف تتجاوز آثاره الحقل الثقافي إلى حقل الإجتماع السياسي في: إضعاف وضعف الثقافة المشتركة بين الناس من جهة وتعزيز العرف من جهة ثانية واللجوء الى الخيار الفردي في مواجهة الصعاب من جهة ثالثة.
- التفاوت في وعي الناخبين، والناس عامة، بين إقتصار التحليل على المعطيات الحسية والتعمق في ما يتجاوزها، ويلحظ ذلك بوضوح في التخاطب السائد بين تحميل مسؤولية الإنهيار، تبعاً لهوى القائل، لجبران باسيل أو نبيه بري أو وليد جنبلاط أو سمير جعجع أو السيد حسن نصرالله، وحتى شعار حراك 17 تشرين “كلن يعني كلن” لم ينجُ من ذلك، وقلة من الناخبين التي تحلل الإنهيار تبعا للبنية.
- الوضع المعيشي الضاغط؛ إذ تقيّد حاجات الإنسان الأساسية وعيه وخياراته المفضلة، فيتساهل بها لإشباع حاجاته التي قد تكون مساعدة شخصية، بأشكال مختلفة، أو مساعدة عامة للقرية أو للمدرسة.
- وسائل الاعلام الجماهيري، وبخاصة المحطات التلفزيونية، وهي بطبيعتها وباستهدافها الوصول لاوسع قاعدة من المشاهدين تتعمد التبسيط في التحليل وعدم الربط بين الوقائع، بشكل عام، ويضاف اليها، لبنانيا، تبعيتها للقوى الحاكمة.
- هوس اللبناني، تاريخيا، بالسياسة، وطغيانها على ما عداها، والإنتخابات فرصته الذهبية، وقد يكون ذلك لقلق تاريخي لازم تكوين لبنان التاريخي.
- الفردانية في الشخصية اللبنانية، وفي كل شخصية نزوع فردي، لكن فردانية اللبناني مغايرة لفردانية الفرنسي، مثلا، الذي تعني القطع مع الروابط الأولية والإقتصار على الروابط الثانوية واهمها علاقته، كمواطن، بالدولة التي يحكمه القانون واليها يحتكم ومنها يطلب تصحيح إختلالات وضعه معها أو مع غيرها عبر هيئات وسيطة. بينما فردانية اللبناني لا تقطع مع الروابط الأولية، لا بل تتحول في لحظات حرجة الى فردانية العائلة والطائفة، ولا تعول على “مواطنيته” في التعامل مع إختلالات وضعه، ومنها في وضعنا الراهن التراخي في تحميل السلطة مسؤولية تردي الوضع والتفتيش عن حلول فردية بالهجرة أو بعمل آخر و/او اللجوء الى الروابط الأولية (عائلة، طائفة) لحلها.
- في مجال الإجابة عن السؤال الثاني، محدودية التغيير، يقدر البحث عدة عوامل هي:
- ما ورد في الإجابة عن السؤال الأول.
- ضعف القوى المواجهة للقوى الحاكمة وسلطتها، فالقوى اليسارية، كما أشير في النص، لا يجمعها تحالف، وغالبيتها مجهض بفعل تباينات بلغت حد الإنقسام داخلها وبعضها الآخر بفعل ظروف قاهرة حكمت عمله في مرحلة سابقة، وواجهت حراك تشرين الذي فاجأها، بخطاب استرجاع منطلقاتها، لا ببرنامج يلبي حاجات المرحلة، وقوى الحراك المدني التي قامت بفعل حراك تشرين حديثة النشأة وحال تفشي الكورونا وأزمة البنزين، ندرة ثم غلاء، دون توسع نشاطها، ويسجل في الدائرة لإطارين قاما فيها: ثوار راشيا وثوار البقاع الأوسط تشكيل اطار تنظيمي برؤية متطورة قاربت البرنامج كما يسجل لها قيام اطار تنسيقي مبني على رؤية مع بعض الأحزاب اليسارية أمكن له الحضور الفعلي في قرى راشيا والبقاع الاوسط وحضور مقبول في الغربي وادنى منها في الجنوب الغربي ومثّل هذا الإطار، الى حد كبير، جيل من قدامى اليسارين، وهم متقدمون بالعمر، وجيل من الشباب العامل في القطاع الخاص في لبنان أو خارجه وكذلك من الخارجين من سوق العمل، وهم في الغالب متعلمون ومقيمون في الحواضر، أي كانت أصولهم ريفية، بما تعنيه الحاضرة من تعارف يتجاوز حدود القرية والطائفة.
- تضعضع إحدى القوى الطائفية بين السنة بترك حرية القرار لمناصريها في إختيار من يمثل تطلعاتهم، الأمر الذي أدى الى تعزيز القوى المواجهة ونجاحها في الحصول على مقعد نيابي.
- في مجال الإجابة عن السؤال الثالث، الخرق الملتبس، برزت في الدائرة في كل اللوائح ظاهرة التصويت العابر للطوائف، ولو أنه كان محدوداً جداً في لائحة القرار لحسن مراد وقبلان قبلان خارج قرى طائفتهما وكذا في لائحة بقاعنا أولا وكان لافتا للإنتباه في سهلنا والجبل في القرى الدرزية لماغي عون المارونية وأكثر حضورا لوائل ابو فاعور في القرى والبلدات السنية، الامر الذي يستدعي تفسيرا يخدم فكرة تجاوز الطائفية، من دون إغفال الدور الخدماتي للمرشحين.
- قد يكون إعطاء الصوت التفضيلي للمرشحة المارونية في القرى الدرزية والشيعية نابع من طبيعة اللائحة ومن التكوين المنفتح لمؤيديها. سببان آخران يمكن إيرادهما: حضورها الإعلامي والمنطق الذي ساد بامكانية خرق اللائحة بالموقع الأضعف فيها.
- قد تكون القوة الحاملة لبرنامج عابر للطوائف تنظيما أو تحالف تنظيمات، يعبر عن الحامل الإجتماعي ضمن الطوائف، وقد يكون قوة طائفية ترى مصلحة لها في هذا العبور فتدفع بإتجاهه، ولا يستقيم الحل الثاني لعدم وجود طائفة كبرى من جهة ولعدم نجاح تجربة الاحزاب التقدمية قبل الحرب لوجود شبهة طائفية في قيادتها وفي بعض برنامجها من جهة ثانية.
- قد يكون إعطاء النائب أبو فاعور صوتا تفضيليا في القرى غير الدرزية، وبخاصة السنية منها، يعود إلى خدمات عامة وخاصة قدمها، وهو القادر على ذلك بديناميته وبالمواقع الذي شغلها، ويضاف الى ذلك عاملان: أولاً؛ التعاطف التاريخي مع حزبه التقدمي الإشتراكي، ثانياً؛ تفرق كوادر تيار المستقبل وقاعدته بحيث رأت شريحة من هؤلاء في خطاب ابو فاعور الأقرب الى خطاب رئيس التيار سعد الحريري. فهل يمكن أن يكون هذا العبور مدخلا لتجاوز الطائفية؟
- إنّ هذا العبور مؤقت، فقد سبق لنائب حركة أمل الأسبق، محمود ابو حمدان، أن نال اصواتا وازنة خارج القرى الشيعية نظراً لخدماته، ولم يظهر هذا مع المرشح قبلان قبلان في الدورة الحالية.
- يحمل هذا العبور ملمحاً طائفيا يحول دون تحوله الى عبور دائم يؤسس لتجاوز الطائفية، وأن كان يؤشر للقابلية في ذلك.
- تندرج الخدمات هذه ضمن تشابك المصالح بين الطوائف التي هي الأساس في تجاوز الطائفية، وفي لبنان غنى من التشابك بين الأفراد والجماعات في الإقتصاد والإجتماع والإقامة والسياسة وحتى بين زعماء الطوائف في تقاسم المصالح، وما يحول دون ذلك:
- تجاوز القوانين، والدستور أهمها، في عمل مؤسسات الدولة وإداراتها؛ فالقانون، على علاته، يتيح إنماء المشترك بين الطوائف اكثر من شريعة الغاب التي تعزز المختلف بينها.
- ضعف القوى العابرة للطوائف بفكرها وبرنامجها وممارساتها.
- في مجال الإجابة عن السؤال الرابع، قانون معاق، لم يؤد القانون الغايتين التي إبتغاهما واضعوه، أي تعزيز “الإندماج الوطني” وتصحيح التمثيل المسيحي، وبرغم التناقض بينهما لم يحقق القانون أياً منهما، فضلاً عن عيوب أخرى فيه تعيق صحة التمثيل، وتظهر إنتخابات الدائرة ذلك:
- لم تكن اللوائح التي تشكلت قائمة على ركني اي لائحة: البرنامج والتنسيق، وتستثنى لائحة سهلنا والجبل الى حد كبير. ولم يكن خطاب مرشحيها تجاه جمهورهم ومناوئيهم يحمل “شبهة” تجاوز الطائفية، لا بل عزّزها.
- لم يتح الصوت التفضيلي تصحيحا للتمثيل المسيحي، فالاصوات التفضيلية للمرشح القواتي داني نبيه خاطر كانت اكثر من اصوات شربل مارون، ونجح الأقل أصواتا، وأصوات الياس الفرزلي اكثر من أصوات غسان سكاف، ونجح الأقل، وفي الدائرة حضور لطائفة الكاثوليك يوازي الأرثوذكس ولكن بلا أي تمثيل.
- يحرم القانون فئة كبيرة من البالغين سن الرشد المشاركة في الإنتخاب وهم ما بين الـ 18 و21 عمرا، ويشكلون فئة وازنة عدديا ووازنة ثقافيا، إذ تبلغ نسبة البالغين الذين لم يدرجوا في قوائم الناخبين (18-21) حوالي الـ 7% من عدد المقيمين (3.8 مليون) فيكون عددهم 266000 نسمة في لبنان ويكون عددهم في الدائرة 10932 ناخباً ممن حرموا (استخرجت النسبة من قسمة عدد الناخبين في الدائرة على عدد الناخبين في لبنان وهي 4.11%).
- لا يساوي القانون بين المرشحين، بالنص، من خلال الكلفة المالية المرتفعة، وتزداد اللامساواة، بالممارسة، من خلال العجز عن مراقبة تنفيذ الضوابط التي تحد من الإنفاق.
- في مجال الإجابة عن السؤال الخامس، التغيير الممكن، تثير النتائج التي اسفرت عنها هذه الإنتخابات في ظل قانونها الملتبس بإعادة المتهمين بالإنهيارين الى سدة الحكم ومحدودية التغيير الحاصل التساؤل عن امكانية التغيير في لبنان، في ظل بداهة التغيير ورسوخ البنية؛ فالتغيير سنة الحياة البشرية، ومنها الإجتماعية والسياسية، والنظام اللبناني عبر مئويته التي مرّ بها عصي على التغيير.
يمكن القول، في حدود البحث، أنّ التغيير ممكن، وهذه سنة الإجتماع، لكن أي تغيير ممكن؟
- إنّ النظام اللبناني الذي ترسخ، بعد تعذر التغيير إبان الحرب اللبنانية وإحباطه، فأُضيف الى طائفيته المقوننة قبل الطائف، إمعاناً غير محدود فيها، وأُضيف لتبعيته للقوى الدولية والإقليمية المتسترة إنكشافا فجاً وأُضيف لكومبرادورية نظامه الإقتصادي تماديا في”تحررها” وارتباطها، وتوافق الإمعان في الطائفية والتبعية، السياسية والإقتصادية، مع منطق النظام الإقتصادي العالمي بقيادة الشركات العابرة للدول العامل على التحلل من منطق الدولة والعودة الى منطق البنى الأولية.
- إنّ مواجهة ترسخ النظام يفرضها منطق التغيير، وقد نحا المواجهون ضمن منطقين في المواجهة: منطق المواجهة بالمطلقات الذي حمل هم البديل المتخيل بدولة مدنية وبإلغاء الطائفية ومنطق المواجهة بالأشخاص الذي ركّز على تغيير الإشخاص في السلطة، وكلٌ من المنطقين يُبقي الوضع على حاله ويعيد إنتاج المهيمنين.
- إنّ نتائج الإنتخابات أثبتت إمكانية التغيير حين يتوفر شرطان: الواقعية في المطلب وبناء القوة، وهذه الإمكانية التي تحققت مهددة بالشطط نحو اعتبار التغيير تغيير بالأشخاص و/أو اعتبار التغيير تمسكاً بالمبدأ التغييري، ويقود الشططان الى الإحباط؛ إذ ينكشف استمرار الوضع معهما على حاله.
- إنّ التغيير ممكن بتجاوز الشططين نحو برنامج يعيد الإعتبار لدولة القانون كحقل سياسي واحد يتيح التغيير ضمنه ونحو بناء قوى ذات مصلحة بذلك، وهى قوى تتجاوز السياسية منها الى الإقتصادية والإجتماعية.
(*) راجع الجزء الأول بعنوان: دلالات إنتخابات البقاع الغربي وراشيا.. التغيير ممكن
(*) راجع الجزء الثاني بعنوان: تحليل نتائج إنتخابات البقاع الغربي وراشيا.. إنكسار “الثنائيات”