أباطرة الصناعة والتجارة الدولية إلى أين يذهبون بنا؟

بتاريخ 18 يوليو/تموز 2022، خرجت علينا وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلن، بمصطلح مستحدث على ساحة التجارة العالمية. ففي سياق أطول خطاب علني لها، في منشأة تابعة لشركة LG، بالعاصمة الكورية سيول، أطلقت مصطلح Friend-shoring، داعية حلفاء بلادها الموثوقين إلى تقوية العلاقات التجارية في ما بينهم، لإنقاذ سلاسل الإمداد العالمية التي أصيبت بثلاث ضربات كبرى مؤخراً: المواجهة التجارية الأميركية-الصينية؛ تفشي كورونا والحرب الروسية-الأوكرانية.

والمعنى المقصود من Friend-shoring، هو تشارك الدول الصديقة في التصنيع والتبادل التجاري، أو إختصاراً “تجارة الأصدقاء”، بهدف تقليل الاضطرابات في سلاسل التوريد بالعالم، بحصر التبادل التصنيعي والتجاري بين الدول الحليفة ذات القيم السياسية والاقتصادية المشتركة. بمعنى أصح، لتقليل الاعتماد على الصين وروسيا بشكل رئيسي، في مجالات حيوية، مثل المواد الخام، التكنولوجيا والمنتجات الوسيطة والأساسية.

سبقه في الشهرة والانتشار مصطلح مستحدث آخر، وهو Re-shoring. أي توجه استعادة عمليات التصنيع من خارج الدولة إلى داخلها مرة أخرى. كلا المصطلحين هما تحوير للمصطلح والمفهوم الذي ساد عالم التصنيع والتجارة منذ بداية الألفية وربما قبل ذلك، وهو Off-shoring.

والجدير بالتعمق هنا، هو الفارق في ردود فعل عالم الأعمال والشركات الكبرى، حيال كل من هذين المفهومين. فمفهوم Re-shoring، له معارضوه بالفعل، ولكن أظهرت استطلاعات صدرت من مؤسسات استقصائية عديدة، أخذت عينات من آراء المتنفذين في عالم الأعمال، ردود فعل إيجابية بشكل كبير، على الأقل ولو بشكل مرحلي، نظراً للاهتزازات الكبيرة التي أصابت 98% من سلاسل الإمداد العالمية منذ تفشي جائحة كورونا.

لذا كانت مقاربة الشركات، التي طالما استفادت من توفير المليارات، عبر اتكائها على توجه نقل عمليات التصنيع إلى الخارج Off-shoring، مقاربة برجماتية، نتيجة لارتفاع تكاليف الشحن، النقل، التموين بالوقود والتأمين على وسائل نقل البضائع في العالم أجمع. فربما هنا يتضح لنا سبب تفضيلهم الفجائي لاستعادة مواقع التصنيع والتجميع إلى داخل الدولة التي تنتمي لها كل شركة.

في الوقت نفسه، كانت ردة فعل جمهور المصنعين من الشركات المعتمدة على التجارة الحرة، نحو مفهوم Friend-shoring، مختلفة وأقل إيجابية. فقد تباينت الرؤى، لكن يبدو أن الأغلب الأعم منها، خاصة النابع من طبقة التنفيذيين في الشركات، التي طال أمد اعتمادها على شراكات تتخطى شواطىء بلادها، رؤى سلبية.

فقد رأت شركات كثيرة أن الـ Friend-shoring، هو توجه يسبح عكس تيار العولمة، ويعزز السياسات الحمائية وتوجهات الانغلاق الوطني التي يفترض بالتجارة الدولية الحرة رفضها.

كما يبدو نظراً لحداثة التوجه، أنهم لم يجدوا بعد ضمانات تؤكد لهم أنه توجه يساعد في تقليل التكاليف، بل ربما إنه على الأغلب يرفعها. كما أنه لا يضمن، بل يشجع، متحالفين آخرين، خارج نطاق الأطلنطي، على خلق تحالفات تصنيعية – تجارية مشابهة. فيحدث الأمر فُصاماً وتشرذماً في تسلسل خطوط الإمداد.

من يدري إلى أين يذهب اقتصاد العالم، وكيف ستتراتب أو تتعدد أقطابه الصناعية، لكن الأمر الذي لم يعد يخفى على أحد من الخبراء المتخصصين، أو الهواة المتابعين، أن أوراق لعبة الطاقة، الصناعة والتجارة الدولية تمر بمرحلة مضطربة، وتحتاج لإعادة ترتيب في أطوار جديدة

كما أن حصر التعاون الصناعي – التجاري داخل حدود مجموعة معينة من الدول، يُقوّض المنافسة التي تفيد في تقليل الأسعار من ناحية، وتعزيز الكفاءة من ناحية أخرى. وبالتالي يصبح قلق الشركات التصنيعية الكبرى على المدى الطويل منطقياً، فهذا التغير في توجه التجارة الدولية من حرة إلى محددة، إنما يحد من فرص توفير التكاليف وزيادة الأرباح وتنافسية الأسعار، وربما يخلق اختناقات في سلاسل التوريد تؤدي في النهاية لإبطاء معدلات النمو الاقتصادي في دول المجموعة.

أما إذا انتقلنا إلى عالم الأمولة، حيث كبار المساهمين والممولين، وعلى الأخص، شركات امتلاك وإدارة الأصول، نجد أن ردود الفعل انقسمت إلى اتجاهين. أولهما يتفق مع الشركات الصناعية في رد الفعل السلبي نحو Friend-shoring، وهو ما عبرت عنه شركة ستيت ستريت State Street، أحد عمالقة إدارة الأصول بالعالم، في تقارير ومقالات كتبت على أيدي خبراء يعملون فيها.

بينما مثل الاتجاه الثاني، أكبر عمالقة إدارة الأصول على الإطلاق، وهي شركة بلاك روك BlackRock. حيث عبر لاري فينك Larry Fink، المدير التنفيذي للشركة عن رؤيته بأن الحرب الروسية-الأوكرانية، وما سبقها من أحداث كبرى، “قتلت سلاسل الإمداد، وقضت على مفهوم العولمة”. ولفت الإنتباه إلى أن هذه الأمور توجب على العالم – يقصد على الجانب الأطلسي بالطبع – تبني توجهات تبادل تجاري جديدة، متفقاً بذلك مع مفهوم Friend-shoring، الذي طرحته جانيت يلن.

عودة إلى يلن، حيث أنها عبرت في ذات الخطاب الطويل الذي طرحت فيه هذا المصطلح، عن أملها في “انفتاح الصين على قيم الغرب”، مضيفة أنها تتمنى “استدامة اندماج الصين الاقتصادي مع العالم الغربي”، بدلاً من صنع عالم ثنائي القطب، في إشارة إلى تنافسية حلفاء الأطلنطي (أمريكا، الاتحاد الأوروبي وشركاهم)، مع فريق Asia-Pacific بقيادة الصين وروسيا واصدقائهم المشاغبين على ما يبدو.

فهل يمكن اعتماد هذه المصطلحات المتعلقة بالتبادل الصناعي-التجاري الدولي، بصفتها توجهات حقيقية وقابلة للتطبيق، أم أنها محض أطروحات ومقترحات؟

إقرأ على موقع 180  إقفال شركة الحديد والصلب بمصر.. محو التاريخ!

يبدو أن Reshoring، يسبق شقيقه الأصغر Friend-shoring بخطوات كبيرة. فقد ظهرت منظمات مدنية، جل أعضائها قادمون من عالم الشركات والأعمال، يعبرون عن رؤيتهم عبر مواقع رسمية، كتب إرشادية، أبحاث سوق، واستطلاعات رأي كبار المتنفذين في عالم الصناعة والتبادل التجاري، لتظهر مدى قوة حضور فكر استعادة أمريكا لعملياتها التصنيعية إلى داخل ولاياتها.

بينما يبدو أن حداثة عمر Friend-shoring، الذي ورد ذكره في العلن خلال عامي 2021-2022 فقط على الأرجح، والشكوك حول جدواه الاقتصادية بالنسبة لمصالح شركات التصنيع، وانقسام آراء من يديرون أصول العالم، ويستثمرون في ذات هذه الشركات حوله، تضعه في منزلة واهنة.

من يدري إلى أين يذهب اقتصاد العالم، وكيف ستتراتب أو تتعدد أقطابه الصناعية، لكن الأمر الذي لم يعد يخفى على أحد من الخبراء المتخصصين، أو الهواة المتابعين، أن أوراق لعبة الطاقة، الصناعة والتجارة الدولية تمر بمرحلة مضطربة، وتحتاج لإعادة ترتيب في أطوار جديدة.

إن توارت تداعيات الجائحة لدرجة ما، تبقى آثار المنافسة الصينية-الأمريكية في التصنيع والتكنولوجيا، وعواقب إصرار روسيا على ترسيخ وجودها على المسرح العالمي، كقوة تسبب إزعاجاً ضخماً حين تشعر بتهديدات لأمنها القومي وغير ذلك من الملفات الملتهبة في كل أرجاء العالم، لا تبشر بخير، وتأمر العالم بصنع واقع عالمي جديد، بالذوق أو بالمواجهة.

هل تستمر سيادة فكر نقل عمليات التصنيع إلى الخارج (Off-shoring)، أم تنفذ أمريكا ما أعلنت عنه من نقل صناعاتها نحو الداخل (Re-shoring)، وتنجح في تنظيم أصدقائها في أطر تجارية تقصي المنافسين (Friend-shoring

مالنا نحن أهل العالم الثالث، سوى أن نراقب ونرى.. إلى أين يذهب بنا أباطرة الصناعة والتجارة الحرة.

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  النظام الدولي المقبل.. هل العنف ممره الإلزامي؟