لقد كان مُلفتا للانتباه تزامن التقدم العسكرى الأوكرانى مع تصريح للمستشار الألمانى أولاف شولتس أكد فيه على ضرورة أن تصبح بلاده القوة المسلحة الأفضل تجهيزاً فى أوروبا. خطابٌ ألمانىٌ لم نسمع مثيلاً له طوال سبعة عقود أعقبت الحرب العالمية الثانية.
حتما لا يملك شولتس الكاريزما الخطابية للزعيم النازى أدولف هتلر ولا حتى الحد الأدنى من كاريزما أنجيلا ميركل أو كونراد أديناور أول مستشار ألمانى بعد الحرب العالمية الثانية. لا يملك الكاريزما ولا الأوسمة والنياشين التى زينت صدر هتلر العسكرى. شولتس يأتى إلى السلطة من خلفية بيروقراطية كزعيم للحزب الديموقراطى الاشتراكى. لا يملك أيضاً شعبية أو شعوبية الفوهرر هتلر حتى يُطل على الملايين بموقف من هذا النوع. ما يملكه شولتس بكل بساطة هو هاجس المسألة الجرمانية. مسألة تحمل فى طياتها إرثاً من الصراعات المخضبة بالدم والدمار. هى الحقيقة الوحيدة لأى حاكم شرق نهر الراين العظيم (ألمانيا اليوم).
***
«ألمانيا تستيقظ» كما ذكرت وزيرة الخارجية الإسبانية السابقة أنا بلاسيو. هذا كلام استراتيجى دقيق. لأن أى كلام قبل الحرب الروسية الأوكرانية عن تعزيز القدرات العسكرية الألمانية كان يعتبر إعلان حرب.. وهو ما التقطه شولتس أيضاً
يُسجل التاريخ أن أول من استخدم لفظ «جرمان» و«جرمانيا» هو القائد الرومانى يوليوس قيصر. قيل إن اللفظ جاء فى معرض وصف الأراضى التى تقع شرق نهر الراين فى القارة الأوروبية. إذا نظرنا إلى الخريطة سنجد كيف يخترق هذا النهر أوروبا فيقسمها إلى قسمين. تمركزت قبائل وشعوب الجرمان حول النهر. لعل أشهرها «الإنجليز» و«الساكسون» و«الفرانك» وغيرهم. أما الجهة الشرقية للنهر، فقد حكمتها الدولة الرومانية لقرون عديدة.
شنّ الرومان حروباً عديدة لإخضاع «الجرمان الهمج غير المتحضرين» من وجهة نظرهم، وجعلهم تحت سلطتهم المركزية. على الرغم من المحاولات العديدة لفتح جرمانيا فإنها كانت تبوء بالفشل. وللمفارقة أن الساكسون والإنجليز جرمانيو الأصل، أى أن فرنسا وبريطانيا تحملان هذه المسألة وفكرها فى جيناتهم السياسية!
سقوط الإمبراطورية الرومانية فى القرن الخامس الميلادى أدخل القارة الأوروبية فى العصور المظلمة. استولد فراغ القوة الممتد من شرق النهر حتى تخوم الجزر الإنجليزية الحلم باستعادة الإمبراطورية الرومانية، وكانت تلك أوضح إشارة إلى مركزية المسألة الجرمانية فى الأمن الجماعى لأوروبا. تحقق هذا الحلم فى القرن الثامن ميلادى على يد ملك جرمانى من قبائل الفرانك عندما أخضع شعوب النهر لسلطته. هذا الملك لقب بـ«أبو أوروبا» ودخل التاريخ باسمه الفرنسى: «شارلمان». هنا برزت نقطة تحول فى التاريخ السياسى الأوروبى. الإمبراطور الرومانى الجديد اتخذ مسقط رأسه فى مدينة أخن الألمانية عاصمة له، وطوى صفحة روما والقسطنطينية، معلنا التحام المسألة الجرمانية بمستقبل القارة الأوروبية.
ساهمت المسألة الجرمانية فى صياغة العقل السياسى الغربى الحديث، وأرست مفاهيم عديدة لعل أهمها مفهوم سيادة الدول وعدم التدخل فى شئونها. تزامن ذلك مع قيام الداعية المجدد مارتن لوثر بنشر أفكاره الإصلاحية عن الكنيسة الكاثوليكية من ساكسونيا فى ألمانيا. هذه الأفكار نتج عنها قيام حروب متتالية مزقت أوروبا وأرهقت سكانها. حرب الفلاحين عام ١٥٢٤م ثم حرب الثلاثين عاماً بين ١٦١٨ــ ١٦٤٨م التى انتهت بصلح وستفاليا التى مهّدت الطريق لأول مملكة جرمانية صافية عام ١٧٠١م، اسمها بروسيا.
لم تنتهِ قصة جرمانيا فى التاريخ السياسى للقارة الأوروبية. استمرت مع ظهور المفكر والسياسى المحنك أوتو فان بسمارك الذى طوّر المسألة من الناحية الجيوسياسية. كان رأى بسمارك أن موقع بروسيا يفرض عليها خلق تحالفات سياسية وعسكرية لكسب أى حرب مقبلة. فى القرن التاسع عشر سيطرت خمس قوى رئيسية على القارة: بروسيا وروسيا وفرنسا وبريطانيا والنمسا ــ المجر. قرر بسمارك أن بروسيا ولاحقا ألمانيا لا تستطيع هزيمة أى دولة من هذه الدول منفردة. درسٌ تعلمه النازى هتلر حين مهد لقيام تحالف مع موسولينى فى إيطاليا إبَّان الحرب العالمية الثانية.
كانت ألمانيا مسرحاً للحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى. وقد أسّس المستشار كونراد أديناور فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى سياسة ألمانية المنخرطة فى المشروع الأوروبى/الأطلسى. معتبرا أن السلام فى قارة أوروبا لن يتحقق من دون التعاون الاقتصادى والتوازن بين القوى العظمى. استمر على هذه السياسية المستشار هلموت كول الذى رعى انتهاء الحرب الباردة بأعصاب سياسية صلبة مع سقوط جدار برلين. بعدها توسعت هذه الفلسفة الألمانية فى عهد المستشارة أنجيلا ميركل لتشمل التعاون مع روسيا فى مجال الطاقة.
تاريخياً، كان الخط النهرى فى صلب صياغة هذا العقل، لكن اليوم هناك نهر من نوع جديد. هو خط الطاقة لا بل خطوط الطاقة الآتية من روسيا عبر الفضاء الاستراتيجى الجرمانى، براً وبحراً. كل الخطوط تمر من ألمانيا، ومعها تبرز المسألة الأوروبية بكل أثقالها على خريطة من الممكن أن تشهد اتساع الأعمال العسكرية.
***
ما يملكه شولتس بكل بساطة هو هاجس المسألة الجرمانية. مسألة تحمل فى طياتها إرثاً من الصراعات المخضبة بالدم والدمار. هى الحقيقة الوحيدة لأى حاكم شرق نهر الراين العظيم (ألمانيا اليوم)
لكل قارة على وجه الأرض مسألتها القومية. فى الشرق الأوسط المسألة المشرقية. فى آسيا الوسطى المسألة الأفغانية وهكذا. الحقائق الجغرافية والتاريخية الصلبة لا تقبل التجزئة أو التفاوض حولها. لا يريد أولاف شولتس لألمانيا أن تتحول إلى ساحة. ولكنه لا يريد أن تجبر ألمانيا على الاختيار بين فريقين. هو يريد أن يبنى قوة تستطيع معها ألمانيا أن تصنع بلاده فريقها المستقبلى. تماماً كما تمليه عليها المسألة الجرمانية.
سيرة طويلة لمسألة لا تزال فى صلب العقل السياسى الغربى. ولعل السمعة الباذخة التى تتمتع بها ألمانيا فى المجالات التكنولوجية والصناعية والزراعية، كما فى العلوم الإنسانية والفلسفية، إنما تعكس تراكماً من صلب المسألة الجرمانية. وبالرغم من صغر عمرها كدولة حديثة إلا أن الكثير يعزو نجاح النموذج الألمانى بابتعاده عن الانغماس فى الأفكار القومية والتسلح العسكرى والتركيز على المؤشرات الاقتصادية والتعاون الأوروبى والدولى فى الشئون الأمنية، وهذا الأمر أكسب الأجهزة الأمنية الألمانية سمعة المفاوض الرئيس فى عمليات تبادل الأسرى بين الدول المتحاربة. لكن مع «أم المعارك» على أرض أوروبا حالياً، لن تكون أدوار الدول ما بعد حرب أوكرانيا مثلما كانت قبلها، وهو ما التقطه شولتس.
«ألمانيا تستيقظ» كما ذكرت وزيرة الخارجية الإسبانية السابقة أنا بلاسيو. هذا كلام استراتيجى دقيق. لأن أى كلام قبل الحرب الروسية الأوكرانية عن تعزيز القدرات العسكرية الألمانية كان يعتبر إعلان حرب.. وهو ما التقطه شولتس أيضاً.
(*) بالتزامن مع “الشروق“