أنا.. و”متلازمة” حبّ جمال عبد الناصر!

موعد كتابة مقالتي الأسبوعيّة هو، عادةً، يوم السبت. إنّما يحدث أن "أخرق" عادتي تلك، في حال استجدّ تطورٌ مفاجئ. أو حدثٌ استثنائي يستوجب الكتابة. اليوم يصادف 28 أيلول/سبتمبر. تاريخ قضى، بتقديري، على أحلام الكثير من الناس. العرب منهم، تحديداً. هو اليوم الذي دهت فيه مصرَ دهياءُ. بفقدانها "رجلاً من أغلى الرجال"، كما عبّر أنور السادات وهو يعلن وفاة جمال عبد الناصر للمصريّين، باكياً.

وأنا أيضاً بكيت لبكاء أهلي، في ذاك اليوم. ومن دون أن أفهم سبباً للبكاء. فما زالت تلك اللقطات المشوّشة تعبر سريعاً في ذاكرتي. “مين مات يا ماما؟”، سألتُ لأستوعب حالة الحزن التي اقتحمت بيتنا. أجابت “عبد الناصر!”.. واووو. يعني هذا الرجل المبتسم في الصورة التي لا تزال تحتلّ صدر دارتنا؟! لطالما تأمّلت تلك الصورة. وأولئك الرجال الذين التقطتهم الكاميرا، وهم يقفون على شرفة قصر الضيافة في دمشق. كانوا في عداد الوفد اللبناني الذي جاء مرحِّباً بالرئيس جمال عبد الناصر بعد الوحدة المصريّة السوريّة.

ومراراً وتكراراً كانت جدّتي تعرّفني على “أصحاب الصورة”: “هذا الرجل هنا هو أنور الخطيب وشعره الأبيض وجزء من نظّارته السوداء. وهذا كمال بيك (جنبلاط). وفي طرف الصورة رأس كامل العبد الله من الخلف. وهذا الرجل المبتسم هو الرئيس عبد الناصر. وعلى يمينه جدّك (عارف)”. كان جدّي يلقي قصيدته التي عنونها بـ “الفرحة الكبرى “. أبياتٌ شعريّة تمجّد “وحدة العرب”. وتبايع عبد الناصر “رسولاً للإخاء”. اغتبط عبد الناصر كثيراً بالترحاب اللبناني له. وعندما صافح جدّي شاكراً “عاطفته” قال له عبد الناصر: “بَأَلْنا ساعة منتظرين لحدِّ ما نُوصَلّك” (وكان يريد أن يشير إلى زحمة الناس)؛ فقال له جدّي: “انتظرتَ ساعةً.. وانتظرناك أربعة عشر قرناً..!”.

ظلّ عبد الناصر بطلي. أردّد اسمه أمام رفاقي، فيهزّون برأسهم ويبتسمون ببلاهة مَن يبتسم للعصافير. والطريف أنّهم عندما كانوا يسألونني “مَن يكون عبد الناصر هذا؟” لم أكن أعرف الإجابة. فأنا أجهل الرجل بالمطلق! وكلّ ما فعله أو لم يفعله لبلاده وشعبه والشعوب التي “عشقته”! اليوم، فقط، أخمّن دافع حبّي لعبد الناصر بـ”مفعولٍ رجعي”. فلقد نشأتُ في عائلةٍ مسيَّسة. وَرِثتْ الولاء لعبد الناصر عن جدّي (الذي توفّي بعد 98 يوماً فقط على اللقاء المشار إليه أعلاه)، كواجبٍ وطني. ولطالما “طنّ” في أُذُني مديح وطنيّة الرجل وشجاعته.

عندما صافح جدّي شاكراً “عاطفته” قال له عبد الناصر: “بَأَلْنا ساعة منتظرين لحدِّ ما نُوصَلّك” (وكان يريد أن يشير إلى زحمة الناس)؛ فقال له جدّي: “انتظرتَ ساعةً.. وانتظرناك أربعة عشر قرناً..!”

فهو كان أوّل حاكم لمصر “من ملح أرضها وأبنائها”. أفنى عمره خدمةً لوطنه وناسه. وسعى حثيثاً لتحقيق حلم الشعب المصري (والشعوب العربيّة). بالحقّ في الحياة الكريمة والإباء والعدل والإنسانيّة. حَكَم وفق مقولة أتاتورك، “من أجل الشعب.. رغماً عن الشعب”. وهو القائد الذي تصدّى، حين عزّ التصدّي، للقوى الاستعماريّة الكبرى. “إرفعْ رأسك يا أخي.. فقد مضى عهد الاستعباد.. وحان للاستعمار أن يحمل عصاه على كتفه ويرحل”. كانت هذه كلماته (عقب ثورة 1952) التي جعلته زعيماً أسطوريّاً. فلقد أتقن عبد الناصر مخاطبة ناسه. والأهمّ، أجاد في مخاطبة الأعداء. إذْ كانت قدرته الخطابيّة “موهبة” ناصريّة لطالما حسده عليها كثيرون من “نظرائه” العرب.

لم يكن عبد الناصر قائداً مصريّاً وعربيّاً، فحسب. بل كان مناضلاً أمميّاً. أدرك، خلال مسيرته، أنّ قدرة مصر والعالم العربي على مواجهة الاستعمار والإمبرياليّة، لا يمكن أن تكون إلاّ من خلال حركة تضامن عالمي. فأطلق، إلى جانب الزعيم الهندي جواهر لال نهرو والزعيم اليوغسلافي جوزيف تيتو في مؤتمرٍ عُقِد في العام 1955 في المدينة الأندونيسيّة باندونغ، ما سُمّي لاحقاً “روح باندوغ”. تلك الروح التي طبعت بطابعها مرحلة التحرّر الوطني والاستقلال.

لم يعرف تاريخُ العرب شخصيّةً جدليّةً كشخصيّة جمال عبد الناصر. فبعد مرور أكثر من نصف قرن على وفاته، لم يرحل “المارد العربي” (كما لُقِّب) من الذاكرة الجمعيّة العربيّة، بعامّة، والمصريّة، بخاصّة. ولا يزال “إرثه” محل نقاشاتٍ ساخنة وتقييمٍ مختلف المشارب وتوظيفٍ متعدّد المستويات. فهناك مَن يعتبره “رمزاً للكرامة والوحدة العربيّة ومناهضة الاستعمار”. وهناك مَن يتّهمه بـ”الاستبداد والتنكيل بمعارضيه”. لا بل يحمّلونه مسؤوليّة الهزيمة في الـ 67. لكنّ سرّ حبّ المصريّين (وغير المصريّين) لعبد الناصر، يعود إلى كونه “واحداً من الناس”. أحبّوه حدَّ التأليه. ولا سيّما الفلاّحون والفقراء منهم. لأنّه انحاز إليهم وإلى قضاياهم ومصالحهم. شاركهم أفراحهم وأحزانهم. ألغى الحواجز بينه وبينهم. كان يخاطبهم مباشرةً. ويتفاعل معهم. ويمازحهم بخفّة الدم المصريّة. أخبرني أحد العاملين في برامج الأمم المتّحدة، أنّه وبينما كان في مهمّةٍ (في أواسط التسعينيّات)، سأل فلاحاً في “عِزْبة الهجين الشرقيّة” في منطقة العيّاط في محافظة الجيزة: “ماذا يعني لك عبد الناصر؟”؛ فأجابه الفلاح بجملةٍ واحدة: “هُوَّ يلّي خلاّنا نِقُبْ على وجّ الدنيا”! وطبعاً يقصد الفلاّحين أمثاله.

استوضح زكي عن الموظّف الذي يريد الاقتراض. وصُعِق عندما أجابه عبد الناصر بأنّه، هو، ذاك الموظّف وأنّ راتبه (500 جنيه) لا يكفيه ليجهّز ابنته التي كانت تستعدّ للزواج. لذا يحتاج لقرضٍ بـ 10000

كلمة أخيرة. يروي حسن عبّاس زكي وزير الماليّة في عهد جمال عبد الناصر، أنّ الرئيس المصري طلب منه مرّةً الحضور إليه (وكان يومها زكي رئيساً لبنك مصر). فذهب إليه الرجل وهو يرتعش. وعندما دخل عليه، وكان يقابله لأوّل مرّة في حياته، سأله الرئيس المصري:”لو موظّف كبير في الدولة أراد أن يعمل سلفة (قرض) من البنك إيه هيّ الإجراءات؟”. فاستوضح زكي عن الموظّف الذي يريد الاقتراض. وصُعِق عندما أجابه عبد الناصر بأنّه، هو، ذاك الموظّف وأنّ راتبه (500 جنيه) لا يكفيه ليجهّز ابنته التي كانت تستعدّ للزواج. لذا يحتاج لقرضٍ بـ 10000 جنيه! ويُكمل حسن زكي روايته ويقول إنّه، وبينما كان ينتظر في مكتب الرئيس في اليوم التالي لتسليمه القرض، رآه المشير عبد الحكيم عامر فبادره فوراً بالسؤال “عمّا يفعله في مكتب عبد الناصر؟”. فاضطرّ حسن زكي لإخباره القصّة. فهاج عامر وقال صائحاً: “ناصر يستلف!! ده أنا عندي ميزانيّة في الجيش مفتوحة أعطيه منها ما يريد”. لكن لم يُفضِ “غضب” عامر إلى أيّ تغييرٍ في موقف عبد الناصر، كما يقول الراوي. لا تقتضي الإشارة هنا إلى أيّ شيء. فقط للتساؤل، ربّما، عن المدّة التي سننتظرها كي يأتينا الزمان العربي برجلٍ مثل جمال عبد الناصر!

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  زيارة قطرية سرية إلى الرياض وحراك سعودي بإتجاه إيران
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  فرصة الاتفاق النووي ترتفع.. وتوقعات بإعلانه خلال أيام!