منذ بدء حملة القتل الإسرائيليّة (المدعومة من أميركا، ودول الغرب عموماً) والتدمير المنهجي لكل مظاهر الحياة في غزّة، بالترافق مع ممارسات نازيّة في الضفّة الغربية، شهدت العديد من الجامعات الأميركية والأوروبية حراكاً بين الطلبة يطالب بوقف إطلاق النار، وعدم تزويد إسرائيل بالسلاح، ومقاطعة الشركات المنتجة للسلاح الفتَّاك المستخدم ضد أهل فلسطين الأبرياء، وغيرها من المطالب. معظم الإعلام الأميركي والغربي – المنحاز إلى إسرائيل أساساً – تجاهل هذا الحراك الطلّابي، في مراحله الأولى، ما خلا بعض حالات النقض واتّهام المعتصمين بـ”مناصرة حركة حماس”!
تطوّرت الأمور في الأسابيع القليلة الماضية، ليس لأنّ المعتصمين أصبحوا أكثر عدداً وتأثيراً، بل لأنّ استمرارهم في حركتهم هو بعينه هزيمة لإسرائيل والفاشيّة الغربيّة التي تهدف فعليّاً (بعكس ما تتبجّح به) إلى خنق الحريّات والتنكيل بكل من يتجرّأ على الإعتراض على السياسات الإجراميّة التي هي في صلب السياسات الغربيّة. لقد شاهدنا؛ كما شاهد العالم أجمع؛ جحافل الشرطة المدجّجة بعتاد فتّاك، تقتحم جامعات مرموقة لتنهال بالضرب على طلاب وأساتذة ذنبهم الوحيد أنه لطالما كانوا يُصدّقون منظومة القيم التي تشربوها منذ نعومة أظافرهم بمسميات حقوق الإنسان والحريات والعدالة والمساواة والديموقراطية إلخ..
كلّ ما يمكن أن يفعله هؤلاء الطلبة والأساتذة هو أن يرفعوا الصوت الرافض للإجرام الذي يُرتكب بحق أهالي غزّة والضفّة. لكن حتّى صوتهم الخافت أصلاً يُرعِبُ أروقة القرار السياسي في دول الغرب، لذلك فإن هذه الدول مستعدّة للتضحيّة بالحريّات والعدالة والقوانين والحقوق خدمةً لفاشيّتها القبيحة.
إن أكثر ما يُرعب أصحاب القرار السياسي في دول الغرب هو أنّ الحِراك يجمع لفيفاً من العالم أجمع، يتشارك في مناصرة فلسطين والدفاع عن الكرامة البشريّة: رجال ونساء وغير-جندريّين، عربٌ أو من أصل عربي، أفارقة، آسيويّون، أميركيّون لاتينيّون، يهود متديّنون وغير متديّنين، من أصول أوروبيّة “بيضاء”، .. وغيرهم.
هذا اللفيف يشكل نموذجاً للبشريّة في أحلى تجلّياتها وتمظهراتها. وأصحاب القرار في الغرب يكرهون هذه التوليفة لأنّها تُزعزع أسس سياستهم القمعيّة المبنيّة على تفكيك العالم إلى أعراق وألوان وأديان وأجناس ومذاهب وطوائف، ومن ثم تقليبهم على بعضهم البعض من أجل أن تُستدام هيمنة الغرب على العالم.
ثلاثة انتصارات
قد يفشل هذا الحراك في تغيير بوصلة السياسة الأميركيّة والغربيّة المساندة كليّاً لممارسات إسرائيل النازيّة. لكن حتى لو فشل فهو قد حقَّق فعليّاً بعض الإنتصارات وسأذكر ثلاثة منها هي برأيي مهمّة جدّاً:
أولاً، الحراك فضح حجم الفساد المستشري في الجامعات، كما فضح ارتهان رؤساء الجامعات وعمدائها لأصحاب المال والنفوذ. وهذا سيكون له تأثير سلبي على هالة هذه الجامعات الغربيّة (والتي هي من أهمّ وسائل الدبلوماسيّة الناعمة للغرب).
ثانياً، الحراك أثبت مجدّداً أنّ الشرطة ومعظم وسائل الإعلام في دول الغرب هي أدوات للقمع الفاشي الهمجي وللتشهير بكل من يتجرّأ على تحدّي استراتيجيّة الغرب، وهذا سيقود إلى تآكل نفوذها بين الأجيال الجديدة.
ثالثاً، الحراك عمَّق الشرخ؛ في دول الغرب وحول العالم؛ بين المؤمنين بفكرة الغرب الإنساني التي نادراً ما طُبّقت، وبين الفاشيّة التي ما زالت تهيمن على ممارسات الغرب وسلوكياته.
الحِراك يُشكل نموذجاً للبشريّة في أحلى تجلّياتها وتمظهراتها. وأصحاب القرار في الغرب يكرهونه لأنّه يزعزع أسس سياستهم القمعيّة المبنيّة على تفكيك العالم إلى أعراق وألوان وأديان وأجناس ومذاهب وطوائف، ومن ثم تقليبهم على بعضهم البعض من أجل أن تُستدام هيمنة الغرب على العالم
القمع.. كأداة وصناعة
لقد استفاد الغرب كثيراً من الدبلوماسيّة الناعمة كأقنعة لتجميل وجهه والتغطية على جرائمه والدفاع عنها بوسائل لبقة ومقنعة لنا كمضطهدين منه، بغضّ النظر عمّا إذا كانت مؤسّسات (جامعات وNGOs) أو بشر (رجال، نساء، أو غير-جندريّين؛ أو أقليّات: هنود، سود، يهود، عرب، مسلمون، شرق آسيا، أميركيّون لاتينيّون، إلخ..). لكن مع اتّساع الاشمئزاز والقرف من الممارسات الفاشيّة التي نراها، ومع انكشاف نفاق الغرب، سيصبح عدد هؤلاء أقلّ ودورهم أكثر صعوبة. اسبب أنه كلما أُجبرت الطبقة الحاكمة على مشاركة الشعب بقراراتها والإنصياع لما تقرّره صناديق الإقتراع، كلّما أُفْرِغت المناصب الحسّاسة من قوّتها الفعليّة. فقد جرى تقوية نفوذ أجهزة القمع (كالشرطة والقضاء والمخابرات و..) وشاع استخدام حيل قانونيّة وإجرائيّة من أجل تكبيل الديموقراطية وقمع حريّة الشعب إذا ما تجاوزت السقف المسموح به أو عرّضت أسس النظام لخطر التغيير الشعبي.
لذلك، لا نجد الشرطة في أميركا، مثلاً، تتدخّل للتفرقة بين رجال بيض مدجّجين بالسلاح إذا كانوا من أزلام النظام (كما حصل في كثير من الحالات في السنوات الماضية، ومنها أحداث 6 كانون الثاني/يناير 2021، عندما أقتحم أنصار ترامب الكونغرس ولم تمنعهم أجهزة القمع الأميركيّة). بالمقابل، عندما يقوم بضعة طلّاب، لا يملكون أي سلاح إلاّ الكلمة، بنصب خيمهم في باحة حرم جامعي، “تأمر” رئيسة جامعة (لون بشرتها داكن ومن أصل مهاجر) زُمرةً مدجّجة بأحدث أسلحة القمع من أجل التنكيل بالطلّاب. وذلك لأنّ رمزّية هكذا حراك يشكّل خطراً على أسس الهيمنة الأميركية في الداخل وحول العالم، ويجب قمعه بشكل دموي لردع كلّ من يفكّر؛ حاليّاً أو في المستقبل؛ بالقيام بشيء مماثل.
في ما يخص الجامعات تحديداً، نحن نشاهد منذ بضعة عقود تغييراً كبيراً في سلوكها:
أولاً، أصبح رؤساء الجامعات والعمداء مجرد موظّفين يأتمرون بقرارات مجالس الأمناء التي تتدخّل بكلّ شاردة وواردة في أعمالها، وهو ما لم يكن عليه الحال عندما كان الرجل الأبيض يهيمن عليها.
ثانياً، أصبحت الجامعات عبارة عن شركات تجاريّة ضخمة، هدفها الأساسي الربح وتجميع الثروة، وتركيزها الجوهري على النفوذ وليس على التعليم. يمكن القول إنّ الجامعة كـ”مفهوم” كانت دائماً عبارة عن أداة لقمع حرّيّة الأجيال الصاعدة وتدجينهم كي يتقبّلوا فكرياً العقائد التي بُنيت عليها أسس نظامهم السياسي أو الديني أو الإجتماعي، ويتحوّلوا بذلك إلى أدوات قمع فكري لمن يليهم.
هذا موجود في الحمض النووي للجامعة التي كان هدفها الرئيسي في الماضي البعيد تجهيز “المبشّرين” بالفكر الذي تريد أن تنشره، وليس مساءلة هذا الفكر ونقضه. لكن سنوات الحِراك الشعبي في ستّينيات القرن المنصرم أنتجت طبقة من المُدرّسين الذين أدركوا خطورة تدجين المجتمع، ونتج عن ذلك ثورة حقيقيّة في التعليم الجامعي بحيث أصبح جزء منه على الأقلّ مهووساً بالنقض والإبداع الحرّ والتفكير خارج القوالب التي تفرضها الطبقة المهيمنة على باقي المجتمع. ويُمكن القول أيضاً إنّ بعض عالمنا الحالي؛ خصوصاً في شطحاته الكماليّة ومطالبته بعالم أكثر إنسانيّة تعمّه المساواة؛ هو نتاجٌ للحيويّة التي أطلقها الحِراك الطلّابي في تلك الفترة في وجه فاشيّة أنظمة الغرب.
هيمنة أمنيّة على صروح أكاديمية!
أما الحِراك الحالي، فقد أثبت؛ قبل أن ينتهي؛ أنّ دور الجامعة انتقل من حاضن للفكر والحريّة إلى قامعٍ لهما. وهذا سيكون له تداعيات ضخمة على سلطويّة الغرب.
كذلك أثبت الحِراك الحالي أنّ الشرطة في دول الغرب، كما في الدول الدكتاتوريّة، هي جهاز قمعي بامتياز، همّه الأساس ليس حماية الناس والسلامة العامة والأمن في المجتمع، بل قمع الناس وترهيبهم. لذلك نجد هذا “الجهاز” يستخدم أعتى أساليب التنكيل والتعذيب بحقّ من لا يقدر على مقاومته، ويتحصن بعتاد حربي عرمرمي كأنّه يقود معركة يوم القيامة، ويزوّر الحقائق ويكذب وينتهك القانون بدعم مفتوح من الأجهزة السياسيّة والقانونيّة. هذه الخلاصة أصبحت قناعة راسخة مبنيّة على سنوات من التجارب والمآسي.
أعود وأختم بالجامعات. أقول ذلك وفي فمي غصّة لأنني من جهة أستاذ جامعي ويجب عليّ أن أؤمن بالجامعة مع علمي اليقين أنّ دورها الريادي أصبح من الماضي. ومن جهة أخرى لأنّ تجربتي الجامعيّة كانت في الفترة الذهبيّة للجامعة حين نمّا فينا أساتذتنا حسّ المسؤوليّة الفكريّة وأنّ مساءلة الفكر المهيمن والممارسة المهيمنة هي من أهمّ تجلّيات الفكر البشري وعبرها تتطوّر المجتمعات عن حقّ. لكن، وللأسف الشديد، عندما تصبح الجامعة معنيّة أساساً وقبل أي شيء بتجميع الثروة وتضخيم رأسمالها، يتطلّب ذلك تحويل العلم لأداة قمع وتهجين ودعاية.
ولأنّ الجامعات شكّلت أساس الهيمنة الغربيّة بما كانت تؤمّن من مساحة شاسعة للحريّة، إذاً سيكون للحِراك الطلّابي الحالي تداعيات سلبيّة على مستقبل الجامعات الغربيّة، لأنّ ذلك سيُسرّع في تحويلها إلى مؤسّسات هيمنة أمنيّة، وبذلك يفقد الغرب أكبر وأعتى سلاح امتلكه في تاريخه من أجل هيمنته على العالم.
ربّ ضارّة نافعة!