أهم العوامل التي تؤكد أزمة الوجود البشري هو الفقر والإفقار الذي يؤدي بمعظم الناس الى العيش على حافة الجوع. حتى لو لم تكن هناك حروب وإخلالات بالبيئة، هو الفقر الناتج عن تدني الأجور، إذا وجد الفقير عملاً يقتات منه.
الفقر في تناقض دائم مع الأرباح التي يشكّل تراكمها الثروات. تنامي عدد السوبر أغنياء في العقود الأخيرة هو الوجه الآخر لتنامي الفقر على وجه الكرة الأرضية. هذه مسألة طبقية عالمية. فالفقر يعم البشرية، وفي أعلى السلّم الاجتماعي الاقتصادي ينتشر السوبر أغنياء. يؤدي ذلك الى تناقض دائم بين محدودية الكرة الأرضية ومواردها وبين شهية الرأسمالية الى أرباح وثروات غير محدودة.
الوجود البشري في قلق دائم. قلق على المصير بين البقاء أو عدم البقاء على قيد الحياة. الفقر الدائم هو العيش على حافة الحياة، والأوبئة، والحروب، والإخلال بالطبيعة. كل ذلك من إبداعات الرأسمالية. وهذا القلق الذي يهدد البقاء هو الذي يضع الناس، بأكثريتهم، في وضع يتقبلون ما تقدمه إليهم الرأسمالية من وصفات تعدهم بحياة أفضل إلا في ما يتعلّق بتحسين أحوال المعيشة. ليس الإنسان مجرّد حيوان يعيش ليأكل. قال المعري:
والذي حارت البرية فيه/ حيوان مستحدث من جماد
تعرض الرأسمالية لهذه الجحافل البشرية التي تعيش على حافة الحياة ما يشبه صكوك الغفران التي كانت تباع في القرون الوسطى لحجز مكان في الجنة. لدى الرأسمالية مخزون كبير من القضايا التي تشبه صكوك الغفران، من الفاشية الى الأصولية الدينية، الى مذاهب العبادات السرية، الى القوميات المتطرفة
العمل ضروري لإنتاج ما يحتاجه الإنسان تلبية لحاجاته الأساسية، وهي التي يقال عنها حاجات حيوانية. لكن تلبية ضرورات المعيشة هي الحد الأدنى. تزويد الناس بما يفوق الحاجات الضرورية هو الذي ينقل الإنسان من الحالة الحيوانية الى الحالة الإنسانية، إذ يصير لدى البشر فائض كي يمارسوا الأعمال الثقافية، الروحية، التسلية، الغناء، الرقص، الأدب، والشعر. هذه النشاطات التي يبقيها النظام الرأسمالي محصورة بنخب ثقافية، يكون الولوج الى دوائرها ومسارحها محصوراً بمن يتمكّن من دفع ثمن بطاقة الدخول. معظم البشرية لا يستطيع التمتّع إلا بما يعرض على شاشات التواصل الاجتماعي. هذا إذا توفرت آلاتها، ونادراً ما يكون ذلك. سياسة الإفقار لا بدّ لها من سياسات التجهيل. ارتفاع أقساط المدارس والجامعات، في جميع مستوياتها، يمنع الكثيرين من أبناء الطبقات الفقيرة من الدخول الى هيكل التعليم والثقافة. تخلي الدولة، بسبب النيوليبرالية، عن تبني سياسة التعليم للجميع، جعل من التعليم سلعة غير متاحة إلا لمن يستطيع الدفع. وسلف التعليم القليلة تأسر المتخرّج لما تبقى من حياته، أو على الأقل لفترة طويلة. سماها بعضهم فيودالية التكنولوجيا، لكنها في الحقيقة فيودالية التعليم، وذلك حين يصبح ارتياد المدارس والجامعات ليس حقاً طبيعياً بل امتيازاً للنبلاء الجدد.
تعرض الرأسمالية لهذه الجحافل البشرية التي تعيش على حافة الحياة ما يشبه صكوك الغفران التي كانت تباع في القرون الوسطى لحجز مكان في الجنة. لدى الرأسمالية مخزون كبير من القضايا التي تشبه صكوك الغفران، من الفاشية الى الأصولية الدينية، الى مذاهب العبادات السرية، الى القوميات المتطرفة، الخ…، مما تحشي به عقول الناس لجعلهم يعيشون في أوهام تناسي حياتهم الواقعية في سبيل قضايا يقررها ويسيطر على مسارها أرباب النظام بشكل أو بآخر. تجنيد الفقراء في تنظيمات أو تيارات لخدمة قضايا لا تفيدهم شيئاً إلا لرفع منسوب الأدرينالين لديهم من أجل ابتلاعهم في تيارات يسيطر عليها مستغلوهم. يظن الواحد منهم أنه يخدم قضية ما بالأصولية أو القومية أو حتى الطبقية. يصير على استعداد كامل للتضحية بنفسه وبحياته اليومية من أجل القضية التي يقبض عليها أولياؤها من قادة الطوائف والمذاهب والأصوليات والقوميات والعبادات السرية. شروط كل واحدة من هذه التجمعات هي أشبه بعبادة من العبادات السرية التي يقومون فيها بطقوس، ولا يعرف أسرارها إلا النخب التي تسيطر عليها. عند الامبراطورية الأميركية جهاز كامل لاستمالة “العقول والقلوب”، أي تحضير الأجواء الايديولوجية، ليصير الانتماء لطقوس هذه العبادات طوعياً، وعن اقتناع يتمثّل بحماسة زائدة.
إذا كان فهم الكتاب المقدس صعباً على المؤمن صاحب الدين، فإن فهم كتب تفسير الكتاب المقدس أصعب بكثير. ما زلنا نفهم الشعر لعهود ما قبل الكتاب المقدس (الجاهلية مثلاً) أكثر مما نفهمه ذاته، بل نفسره على أساسها
قضية الرأسمالية الأساسية، وربما الوحيدة، هي الربح، إذا أُخِذَ بمعنى مدخولها السنوي، والثروة بمعنى تراكم الربح لديها عبر السنين. ولا يهمها الوجود البشري الذي تستغله، فتميته في عمر مبكر أو تعده الى وجود حيواني، وجود جاهل أحمق عن طريق إفقاره كي لا يكون في متناوله إلا العمل الضروري، أو حشو دماغه بالمعرفة التي تناسبها عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام، والدين ومرجعياته. ليس صحيحاً أنه عند الفقراء ايديولوجيا. الايديولوجيا عند الرأسمالية لأنها تحتاجها. حتى الماركسية هي ايديولوجيا رأسمالية في لحظة نقد ذاتها من أجل فهم العالم، كما الاستشراق هو نوع من النقد الذاتي للغرب الذي احتاج أن يفهم البلدان التي كان يحكمها لحظة الاستيلاء عليها والسيطرة على شعوبها، واستعمارها بالاحتلال المباشر أو باحتلال العقول. عند الفقراء يوتوبيا، لما يتجاوز حياتهم اليومية البائسة. لكن حقوق تلك الطبقات كانت وما تزال تصوغها النخب الثقافة الرأسمالية. الوجود البشري في النظام الرأسمالي يقتضي اليأس من العقل لدى الطبقات الفقيرة. ربما بدت جماهيرهم أكثر تديناً، وربما كانت الأصولية أكثر شيوعاً لديهم، لكنها مبنية على الإيمان والعقيدة. الإيمان الذي يؤكّد الالتزام بالدين، والعقيدة التي تؤكّد الالتزام بطقوسه. يفرض ذلك توارث الثقافة التي يراد توريثها، وذلك دون فهم محتوى الدين وتبريراته. إذا كان فهم الكتاب المقدس صعباً على المؤمن صاحب الدين، فإن فهم كتب تفسير الكتاب المقدس أصعب بكثير. ما زلنا نفهم الشعر لعهود ما قبل الكتاب المقدس (الجاهلية مثلاً) أكثر مما نفهمه ذاته، بل نفسره على أساسها. اللغة التي صُوّر بها الكتاب المقدس أوجدت لها النخب التي تدور حول السلطة قواعد النحو وغيره من القيود التي لها كيان خاص. لا نستطيع من خلالها فهم الكتاب المقدس إلا من خلال بهلوانيات عديدة تحاول ترتيب التناسق والانسجام بين لغة الكتاب المقدس وقواعد اللغة العليا أو الفصحى، دون الوصول الى نتيجة مرضية. اللغة العليا وضعتها النخب الثقافية لمصلحة دوائر السلطة، وخاصة الدواوين، وهذه تتعلق بمالية الدولة في الغالب. وتركت لمفسري الكتاب المقدس ترتيب أمورهم مع اللغة العليا، فظهرت تفسيرات عديدة فيها الكثير من التأويل وفرضيات الحذف والقلب، بحيث لا يعود الكتاب المقدس مفهوماً بعد جهد جهيد، وبعد تطبيق معتقدات المذهب. على كل حال، إن الكتاب المقدس مباشرة أسهل على الفهم من كتب التفسير. كتب التفسير تخضع عادة لرغبات مذهبية لا تهتم عادة بقدرة القارئ على الفهم، ولا تهتم لذلك بقدر ما تلتزم بضرورات المذهب والمجادلات في حينه. الدين في الأساس للناس في وجودهم، وصار على أيدي سدنة الهيكل مستعصياً عليهم، ولا يمكن فهمه إلا على يد ورثة الأنبياء من العلماء أو أتباع ولاة الفقيه. ليس في الدين ما يناقض العقل. لكن النظام الديني يناقض العقل، ويقدمه أصحابه على طبق من فضة لخدمة حاجات الطبقات المسيطرة، وهي في عالمنا المعاصر الرأسمالية وأتباعها من أصحاب القضايا المعتبرة لديهم مسائل تفوق قدرة الناس على الفهم وتحتاج الى شرح. لا يأتي ذلك إلا لمصلحة الحكم. الخلافات المذهبية كلها في الأساس تعبيرات عن تمايزات واختلافات طبقية. لا يبقى من شعار فصل الدين عن الدولة إلا وهم العلمانية. هل يستطيع هؤلاء فصل الدين عن الرأسمالية وإيقاف خدمته للمصالح الطبقية، وإخضاعه للوجود الإنساني (اليومي) لا للقضايا الكبرى كما تصوغها وتفرضها الرأسمالية؟ ليس للكفر أو الإلحاد كبير اعتبار. على المستوى العقلي. الأساس هو إخضاع الدين للرأسمالية وتفسيره عبر التاريخ لمصلحة الطبقة الحاكمة في حينه. نعم، يصلح الدين لكل العصور وكل الأزمنة، لكن كيف؟ هل يستطيع معمم أن يقرأ نصاً كاملاً إلا ويعتبر خارجاً على النظام العالمي، كي لا نقول مؤيداً للإرهاب؟ هذا الذي لا تستطيع فهمه إلا حرباً يشنها الأقوياء على الضعفاء، أصحاب القضايا على أهل الوجود، بالأحرى وجود الناس.
حتى الآن ما انهارت الرأسمالية نتيجة أزماتها الداخلية، وما ازدادت الامبراطورية، مع الأسف، إلا قوة. وقوتها ليست أن الامبريالية هي النظام الأفضل بل الأسوا والأبشع استغلالاً. وهي قوة تبدو عاتية نتيجة لضعف خصومها من أعداء الامبريالية الذين كما يبدو، بشكل أو بآخر، ليسوا أكثر من عدة الشغل عند الرأسمالية العالمية.
كما الأصوليات الدينية، تطفو على السطح الفاشيات القومية والاثنية في البلدان الديمقراطية “العريقة”.. ومن غير الممكن أن تصير الحرية صنو المساواة، وهذا هو المحك الإنساني الاساسي، دون إلغاء الرأسمالية والتحوّل الى نظام يأخذ الوجود البشري بالاعتبار.
ما يستحقه الإنسان هو إعادة توزيع الثروات لدى كل البشر، لا لشيء إلا لأن هذه الثروات هي نتيجة عمل البشر المقتطعة من نتاجهم.
تتعدد الأصوليات، والفاشيات، والجمعيات للعبادة السرية. وتتعدد استخدماتها لدى الرأسمالية، وكما قال الشاعر:
تعددت الأسباب والموت واحد/ من لم يمت بالسيف مات بغيره
في المقالة السابقة للكاتب نفسه، في هذا الموقع، كان الموضوع أن التناقض الرئيسي لدى الرأسمالية هو التناقض بين الرغبات والممكنات، بين محدودية الأرض ومواردها ولا محدودية الربح ومراكمة الثروة. يدمّرون الأرض، بالأحرى حضارة الأرض وسكانها، أي الوجود البشري، بالأفكار أولاً ثم بالأوبئة المعدية المصنوعة، ثم بأسلحة الدمار الشامل، وكلها تحتاج الى حروب نشهدها في مختلف بقاع الأرض، خاصة في منطقتنا. يبدو وجودنا العربي غصة كبرى في زلاعيم الرأسمالية لأسباب تعود ايديولوجيتها الى التاريخ القريب والبعيد، والى ترتيبات العالم المعاصر بما فيه النفط والغاز.
القضية صياغة فكرة وهي يجب أن تكون في خدمة الإنسان. صار البشر في خدمة الايديولوجيا. يجب أن يكون الإنسان غاية بذاته لا أداة لغيره
الوجود البشري يستحق الأولوية على كل القضايا. الوجود البشري يتعلّق بالحياة اليوم عن طريق تلبية الحاجات الأساسية. سياسة الإفقار تجعل الطبقات الدنيا في كفاح دائم في سبيل البقاء على قيد الحياة. كفاح يشوبه القلق على المصير الإنساني الذي يكاد يتعرّض للفناء. يعيش معظم البشر وهاجسهم البقاء لا الاستقرار. قلق دائم بين إمكانية البقاء وخطر عدم الاستمرار. يقول الدين أن الآخرة بعد الموت هي دار البقاء. ينعكس ذلك في كل صياغات القضايا الكبرى التي تتطلّب التضحية راهناً في سبيل الاستمرار لاحقاً. عليك أن تموت في سبيل القضية ونصيبك في السماء.
تهرب الرأسمالية من القلق حول الوجود الذي تُدمّره الى إيجاد مستعمرات في الفضاء، أي خارج الأرض التي لم تعد تصلح للحياة بسبب الفوضى المناخية واحتمالات ثورات الأفواه الجائعة. تصوغ ايديولوجيا الفضاء والسكن فيه، وتتكاثر الأوهام على ذلك، ويُنفق الكثير من المال من أجل هذه الايديولوجيا التي تتمركز حول الناسا (وكالة الفضاء الأميركية) والأبحاث والتجارب التي تقوم بها، وتسلمها لأصحاب الثروات الكبرى للاستثمار (الاستغلال) فيها. وتذاكر السفر، أي صكوك الغفران الجديدة، هي بيد هؤلاء.
بين الوجود والقضية يحتم الحس الإنساني انحيازاً للوجود، ومنع أن يصير الوجود في خدمة القضية. يجب أن تكون القضية في خدمة الإنسان. معنى ذلك أن لا يكون الإنسان أداة أخرى يحركها أصحاب القضايا الذين لا يخدمون إلا أنفسهم ولا يعتبرون إلا استكبارهم على الإنسان والله. القضية صياغة فكرة وهي يجب أن تكون في خدمة الإنسان. صار البشر في خدمة الايديولوجيا. يجب أن يكون الإنسان غاية بذاته لا أداة لغيره.